إحمد الحق تبارك وتعالى ، واصلي واسلم على خاتم أنبيائه ورسله : خير خلق الله ، واحب عباد الله الى الله د. محمد بن عبد الله ۰۰۰ صلاة وسلاما يليقان بمقامه الكريم، وصلاة وسلاما على سائر اخوانه من النبيين والمرسلين، وصلاة وسلاما على اصحابه والتابعين ، وصلاة وسلاما على كل دعا بدعونه اليوم يوم الدين
وبعد :
فان الكتابة في رسول الله ، والقراءة عن رسول الله ، عمل تهنأ به النفس ، وينشرح له الصدر ، ويتفتح معه القلب ، ويأخذ بمجامع اللب ، وتستريح في ظله الخواطر ، وتتسع في رحابه الابصار والبصائر وكيف لا ؟ ومحمد وحده نبع صافي ، وري شافي ، وهدي وسيرته العطرة لا ينضب معينها ، ولا يجف مدادها، لأنها متلاحمة مع كلمات الله : ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾
وكيف لا وهو مثال الانسانية الكاملة ، وملتقى الأخلاق الفاضلة ، وحامل لواء الدعوة العالمية الشاملة !!
اما انسانيته : فقد ولدت معه ، ولازمته في اطوار حياته ، وميزته على سائر أقرانه ولدانه ، وصانته من كل زلل ، وحمته من كل شطط ، ودفعته دائما الى الخير، ومثالية السلوك .
فكان نبنة رطبة بين قلوب قد تست ، وطباع قد غلظت ، وعواطفه قد جفت ، ومشاعر قد تلبدت ، وعقول قد تحجرت
وكان زهرة نضرة وسط غابة من الاشواك ، في اطرافها حدة ، وفي جذوعها خشونة وغلظة ، وفي لمسها اذى وايلام
وكان شجرة سامقة مثيرة ظليلة ، وسط صحراء قاحلة ، وفلاة مجدبة ۰۰. وهو في حالاته الثلاث : كثير النفع
ولا عجب انن - تبل أن يكولا رسلا - ان سلطت عليه الأضواء ، ولم تتنازع في انسانيته الأهواء ، وانتزع - عن جدارة . - من بين القلوب الغلاظ ، والالسنة الحداد ، اعترافا بعفة نفسه ، وعذوبة حبسه، وسمو سلوكه ، وعلو انسانيته ... كان الصادق الأمين !
واما اخلاقه : فكانت مستمدة من عند الله ، فهو بس سبحانه الذي منعه على عينه ، وأحبه فأحسن تأديبه ، وجعله بشرا سويا ، وخلقا رضياء وكيف لا وقد سئلت ام المؤمنين عائشة - رضوان الله عليها - عن أخلاقه، فاجابت : « كان خلقه القرآن )
وهل القرآن الا كتاب الله ، وهدي السماء $$
وكيف لا؟ – ايضا سه والهدفه من رسالته ، والغاية من دعوته ، ما انصح عنه في عبارته : « انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق »
[3]وكان أحب الناس اليه : احسنهم خلقا ، وأكثرهم انبا، وأقومهم سلوكا « اإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي منازل يوم القيامة، أحَسانُكُمْ أَخْلَاقًا الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون » !!
وكان ارفع وسام لرسول ، واسمي وصف النبي .. ما جاء في محكم التنزيل : « وانك لعلى خلق عظيم »
ومما لا ريب فيه ، أن اخلاقياته وشمائله عليه أفضل صلاة وأزکی تسليم . - قد انعكست على أصحابه ، وتأصلت في هديه ، وكانت الصوت العالي في دعوته ، والنور الساطع المشع من رسالته ، نعمت ، واستمرت - ولو لم يتخلق بها المعرضون ت وكفاها انها اخلاق محمد .. أو اخلاق القرآن واما عن الدعوة في عمومها وشمولها :- نكانت نورا بدد الظلام وعدلا مسخ الظلم وأملا أطاح باليأس .. وفيما بعد جفاف وارتواء بعد مدى .. حبيت الداء ، ووصفت الدواء ، ليسلم الناس .. كل الناس ، وتسعد البشرية .. في ظل القيم الاسلامية ، وتتخطى حواجز الخلل التي ابعدتها عن فطرتها ، ونات بها عن قيمتها ، وتحيا في جو من الانسانية .. يؤمن بانسانية محمد .. وعظمة محمد .. وعبقرية محمد . والعبقرية ، منة خلعها الكتاب ، والأدباء ، والباحثون ، علي كل حانق بارع في فن من الفنون ولو قارنا بين عبقرية محمد .. وعبقرية غيره : لوجدنا أن عبقرية غيره تد انحصرت في جانب من الجوانب ، أو اتجاه من الاتجاهات في مدلولها محدودة في آناتها . قاصرة عن عموم النفع ، وشمول لاح اما عبقرية محمد : نقد برزت في كل مناحي القيادة ، والاخلاق ، والدعوة ، بل في كل مناحي الحياة .. مما جعلها عبقرية شامخة وفريدة وصلت في شموخها عنان السماء ، فلو تدانت منها غيرها لهوت ، ولو حلقت اليها غيرها لسقطت ومن هنا ... ظهرت « عبقرية » العتاد في كتابه عن « عبقرية محمد »، والأستاذ العقاد : مشهود له بالالمعية والذكاء ، وهو غني من التعريفا ، ولا يحتاج الى أضواء تسلط عليه .. نقد عودنا ان يكون هو السلط للاضواء . بيد اننا نريد ان نقول : ان الاستاذ العتاد قد تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن رسول الله ، والذود عن شرعته ، والرد على شانتيه ممن اجتراوا على مناواته ، والاتيان بالبرهان تلو البرهان : على اثبات عظمته ، وعظمة دعوته، وقدسية رسالته ، وسمو عبقريته وهل يفعل ذلك الا محب غيور ، وحانت و « عبقري » بلا تطاول ولا غرور ؟؟ لقد تناول الكشف عن عبقرية محمد في قوله وفعله ، بل في سكوته ونكره .. فأناد .. واجاد ، واستعرض نلبدع ، واستقصی نشبع، وتألقت غيرته على محمد - صلى الله عليه وسلم س في رد سهام مناوئيه الى نحورهم ، واتحامهم في كل باطل من دعاويهم وتن لهؤلاء اللاغطين والمغالطين بالمرصاد ، وتعقبا ل لنط لهم وغلط
[4]فأظهر كيدهم ولجاجتهم وافتراءهم في ادعائهم : أن الإسلام قد قام على حد السيف ، وأن محمدا كان يستهوي القتل ، ويتعشق رؤية الدماء ، وان دين محمد قد أباح العبودية ، وأجاز الرق ، وأن تعدد زوجات محمد كان استجابة للذات حسه ، وان الإسلام تد تخطي الإنصاف في إباحته تعدد الزوجات ، وتوقيع العقوبة عند نشوز الزوجة ، وجواز الطلاق الخ .
واستطاع العقاد - في اقتدار وإبداع - أن يحيل مواطن التهم - كما أرادوها - إلى مواقف عظمة ، وعبقرية ، وفخار
ولست براغب في سرد كل ما حواه الكتاب من أبحاث ... لأترك للقارىء الكريم فرصة المتعة في البحث عن الدرر..
بيد أني راغب في الإفصاح عن شعوري نحو هذا الكتاب ، وما رغبت في تلك إلا لأنه قد أبكاني ، وأضحكني ... أبكاني حتى انتفضت ، وأضحكني حتى استلقيت ... أبكاني عند عرضه لإسلام عمر .. وأبكاني عندما وصف حالة رسول الله لما توفي ابنه إبراهيم.
وأضحكني عندما قرأت عن دعابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومزحه ، وحسن قبول الدعابات في نفسه ، وما كان من أمر نعيمان بن عمرو . وعبد الله الخمار ..
على أن هذه المواقف لم تكن جديدة علي عندما قرأت هذا الكتاب ولكن الذي حرك المشاعر ، وأثار الخواطر ، وأهاج الأحاسيس ، حتى اضحك .. وابكي .. إنما هو : جمال العرض ، وصدق التعبير، ودقة التحليل ، وروعة الاستقصاء ...
وهذه سمات تميز بها العقاد.
فجزاه الله خير الجزاء.
مهدي عبد الحمید مصطفی
مبعوث الأزهر الشريف في لبنان
..
=======
مقـَـدّمــة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام.
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام.
ولنا رهط[1] من الأصدقاء المشتغلين بالأدب، يشتركون في قراءة كتبه العربية والإفرنجية، ويترددون معًا على الأحياء الوطنية، وقلَّما يترددون على غيرها، فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة، بين الحي الحسيني والحي الزينبي، أو بين منشية القلعة، وضاحية العباسية، أو بين الروضة والخليج … على حسب المناسبات، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات.
وكان رهطًا له نقائض[2] الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب، ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشئ في العاصمة وناشئ في الريف وناشئ في الصعيد وناشئ في الثغور[3]، إلى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات.
* * *
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة[4] بينها؛ لأنهم كانوا يقرءون أكثر ما كانوا يقرءون كتب «ديكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» وهم كتَّاب مولعون[5] بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين والحضريين[6] في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين، والباعة، تفيض بحسن الملاحظة، وبراعة الفكاهة، ومتعة القراءة، وتُعَوِّد من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها[7] حيثما رآها.
ففي يوم من أيام المولد — والرهط يزورني لِنَؤُمَّ[8] الساحة [6]مجتمعين في المساء — كان الكاتب الإنجليزي العظيم «توماس كارليل» هو محور الحديث كله؛ لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية، صاحب كتاب «الأبطال» الذي عقد فيه فصلًا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل.
* * *
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت[9] من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية[10] غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية[11]. وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقًا[12]، يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة … فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء!
قلت: «ويحك![13] … ما سوَّغ[14] أحد السيف كما سوَّغته أنت بهذه القولة النابية!»
وقال صديقنا المازني: «بل السيف أكرم من هذا، وإنما سوغ صاحبنا شيئًا آخر يستحقه … وأشار إلى قدمه!»
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة[15]، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من النَّدِي[16]، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول، أو خيِّل إليه أنه مقبول.
وتساءلنا: ما بالنا نقنع بتمجيد[17] «كارليل» للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه … ثم سألني بعض الإخوان: «ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابًا عن محمد على النمط[18] الحديث؟»
قلت: «أفعل … وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب.»
ولكنه لم يتم في وقت قريب … بل تمَّ بعد ثلاثين سنة! … وشاءت المصادفة العجيبة أن تتمَّ فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة … فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد [7]النبي على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيَّأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يومًا بعد يوم.
* * *
والخيرة في الواقع..
والخيرة كذلك في هذا التأخير..
فإنني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية إلى محصول ذلك العمر الباكر[19].. إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتلئ فيه إعجابًا بمحمد؛ لأنه عمر الإعجاب والحماسة الروحية، بيد أنه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة وإن تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو[20] البعيد من شتى[21] نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟!
إنها مسافات في عالم الفكر والروح لو تمثلت مكانًا منظورًا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار.
كم رأي … كم مذهب … كم وسواس … كم محنة … كم مراجعة … كم زلزال يتضعضع[22] له الكيان وتميد[23] معه الدعائم[24] والأركان … كم، وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسًا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض[25] لمحة عين في نهار … وكم لذلك كله من أثر في توطيد[26] الرأي وتهدئة الثوائر[27] وتجلية الغبار … وكم يضيف ذلك كله إلى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج[28]، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء!
الخيرة في الواقع.
الخيرة في ذلك التأخير.
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي [8]القراء؛ لا نقول .. إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه[29] .. ولكننا نقول إننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط[30] بها الأغرار[31] والجهلاء عن حذلقة[32] أو سوء نية، ونظرنا اتفاقًا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية .. لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين[33] من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب .
* * *
فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن .. لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار[34] في هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحًا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعًا عنه، أو مجادلة لخصومه .. فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى[35]، يكتب فيها من هم ذووها[36] ولهم دراية بها وقدرة عليها.
إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت[37] له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم .. لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس ..
عظيم؛ لأنه على خلق عظيم ..
[9]وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة[38] وبين كل قبيل .. ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة .. ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط[39] الحق، معرض للجفوة[40] والكنود[41].
والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها .. فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسًا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية[42] النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة .. والمساواة هي شرعة[43] السواد[44] الغالبة في العصر الحديث.
* * *
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور بعد الجور[45] غرورهم بطرائف العصر الحديث، واعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ[46] للقديم في كل شيء .. حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع[47]، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه ..
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا[48] كرامتهم، ولا يثوبوا[49] إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين، بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء[50].
هذه الآفة حِطَّةٌ تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض[51]، وتهبط بالرجاء في إصلاح العيوب الخلقية والنفسية إلى ما دون الحضيض ..
[10]فماذا يساوي إنسان لا يساوي الإنسان العظيم شيئًا لديه؟ وأي معرفة بحق من الحقوق يناط[52] بها الرجاء إذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ .. وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ .
لهذا كان تقدير «محمد» بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعًا في هذا الزمن الذي الْتَوَتْ فيه مقاييس التقدير ..
إنه لنافع لمن يقدِّرون محمدًا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار[53] بإنكار، ولا ينال منه بغي[54] الجهلاء إلا كما نال منه بغي الكفار .
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدًا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها … لأن مسلمًا يقدر محمدًا على هذا النحو يحب محمدًا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس.
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يَرِينَ[55] العنتُ[56] على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء.
* * *
إن عمل محمد لكافٍ جد الكفاية لتخويله[57] المكان الأسنى[58] من التعظيم والإعجاب والثناء …
إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، ولم تكن أصنامًا كأصنام يونان، يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن [11]فاته أن يحسب له هدى الضمير … ولكنها أصنام شائهات[59] كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول، فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة[60] إلى عبادة الحق الأعلى .. عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود[61] إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة[62] حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات .
* * *
إن عمله هذا لكافٍ لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن[63] على صاحب هذا العمل بالتوقير[64] على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا، حين نقول إن التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد ..
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تُبرزها[65] الأعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يُغالى[66] بها التقويم .
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة .. فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم. وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بَنَانًا[67] تومِئ[68] إلى تلك العظمة في آفاقها، فإن البَنانَ لأقدر على الإشارة من الباع[69] على الإحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير
عباس محمود العقاد
الباع قدر مد اليدين
=============
ما دون العشرة من الرجال
نقيض الشيء : عكسه
المراد: المدن المطلة على الشواطيء
ذائعة منتشرة
اي شغوفون
سكان المدن
اشباهها ومثيلاتها
نقصد
أي تسرع واحتد فأخطأ
خارجة
الضمير
مدعيا العلم
بمعنی ويلك
جور
أي فترة
مجلس القوم ومتحدثهم
تعظيم
المنهج او النظام
أول العمر
الغاية والامد
اي جميع
يتهدم
تتمايل وتتحرك
الاعمدة
ما يعترضها في جنباتها
تقوية
أي الانفعالات
الأوج:ضد الهبوط
قصدناه
اللغط : الصوت والجلبة
الغافلون
ادعاء العلم
المبعضين
الكتب
كثيرة ومتعدة
اصحابها المتخصصون فيها
ينشر
اي رقت
غمط الناس : احتقارهم وازدراوهم
المراد : الهجر والغلظة
كفران النعمة والشكر للفضل
جمع علي وهو الشريف الرفيع
شريعة
سواد الناس : عوامهم
الظلم
المزيل
شراع السفينة
يعيبوا
يرجعوا
الاختلاق
القرار من الأرض عند منقطع الجبل
بتملق
يصيبه ضرر
عدوان وظلم
يغلب
الإثم
تمليكه
الرفيع
قبيحات
الأصنام القبيعة
خمول وسكون
مذلة
يبخل
التعظيم
تظهرها
غالى بالشيء : اشتراه بثمن غال
أصبع
تشير
======
المؤلف: عباس العقاد ←عبقرية الدَّاعي
[12]
عَلامات مَولد
كان عالَمًا متداعيًا[1] قد شارف[2] النهاية .. خلاصة ما يقال فيه : إنه عالَم فقد العقيدة كما فقد النظام ..
أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر .. طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون[3] إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور .
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة[4] والأبرياء، وتحرس الطريق، وتُخيف العائثين[5] بالفساد .
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل[6] العقيم[7] الذي أصبح بعد ذلك علمًا عليها، وتضاءلت سطوتها[8] في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها .
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس .. وكمنت حول عرشها كوامن الغِيلَة[9]، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات .
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان . ثم هي بعد هذا التشويه في الدين، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ .. فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات.
عالم يتطلع إلى حال غير حاله .. عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.
[13]أمَّة
وبين هذه الدول المتداعيات، أمَّة ليست بذات دولة، ولكنها تتأهب لإقامة دولة .. هي أمَّة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.
في أيديها تجارة العالمين كلها ..
فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية .. أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينًا في إبان[10] الصولة الرومانية والصولة[11] الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم[12] يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب[13] المورد وتكسد الأسواق.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة[14] الأعراب من كلتا الطريقين.
أمَّة تيقظت لوجودها، وعرفت شأنها بين من يحْدِقون[15] بصحرائها .. ثم رأت هؤلاء المحيطين بها يجورون عليها، ويريدون إخضاعها وابتلاعها ..
فهرقل الرومي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ويستبدل بها كعبة غيرها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها ..
خطر من خارجها، يزيد الأمة يقظة وانتباهًا لوجودها ..
وخطر من داخلها، يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري[16] في حياتها ..
مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة[17] واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة ..
حالة لا استقرار فيها ..
[14]فمن هنا الترف[18] ، والطمع، والخمر، والقمار، والمتعة، وتسخير الأقوياء للضعفاء ..
ومن هنا الفاقة[19]، والحسرة، والشك في صلاح الأمور ..
ولكنه شك يبحث ويضطرب، وليس بالشك الذي يستجم[20] ويستكين[21] فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، فهناك هاتف بينهم بسوء ما هم عليه. اجتمع أناس بنخلة[22] لإحياء عيد العُزَّى، فقال رجل منهم لإخوانه: «والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال .. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور. يا قوم التمسوا لكم دينًا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» .. ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ومنهم من اعتزل الأوثان، ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة الإسلام فلبَّاها[23].
وكان الذي تنصر وسمع دعوة الإسلام ورقة بن نوفل الذي كتب له أن يتلقى بشارة النبي العربي عند ظهوره، ويلقي إليه بالبشارة.
هؤلاء شكوا وبحثوا عن العقيدة وطمأنينة الضمير ..
وغيرهم شكوا وبحثوا عن وازع[24] من الضمير، ووازع من السلطان، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتَيم يتعاهدون باسم الله المنتقم لَيكونُنَّ مع المظلوم حتى يُؤدَّى إليه حقه .. وذلك حلف الفضول الذي شهده النبي العربي في شبابه، وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم.»
حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار ..
وأمَّة يقظى! ..
وخطر محدق[25] بها مما حولها، ومما هو في دخائلها وأحشائها ..
حالة تنذر بالزوال، وقلَّما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها .. فتلك إذن حالة للتبديل والتجديد.
قبيلة
وقبيلة في تلك الأمَّة، في تلك المدينة .. لها شعبتان:
إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائمًا على هواها .
[15]والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ويصبر على الكريهة، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يُذعن[26] له، ويأكل من فضلات يديه.
بيت
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، وليس له لؤم الثروة الجامحة[27] والكبرياء الجائحة[28]، والقسوة على من دونه من المحرومين .. ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها[29] العليا، وإن لم يكن معدودًا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان ...
ورأس هذا البيت — عبد المطلب — رجل قوي الخلق، قوي الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق[30] أن يُنجب العَقِب[31] الذي يبشر بدعوة وينضح [32]عن دين.
نَذَرَ لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة .. ثم أحله قومه وأحلته العرَّافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضا الرب ورضا ضميره . سألتهم العرَّافة: «كم الدِّية فيكم؟».
قالوا: «عشر من الإبل».
قالت: «فتقربوا إذن بعشر من الإبل واضربوا على الفتى وعليها بالقداح[33] .. فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم» فما زالوا يزيدون حتى بلغت الإبل مائة وخرجت القداح عليها فهتفت قريش بعيد المطلب: «لقد رضي ربك .. فأطلق فتاك». وكان خليقًا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، ولكن عبد المطلب لم يكن من [16]المتحللين المتعللين، فأبى إلا أن يضرب عليها القداح ثلاث مرات، ثم نحرت الإبل للجياع من الأناسي[34] والسباع.
وجاء القائد الحبشي يهدم الكعبة ويسطو على الإبل والشاء .. فلما سأله عبد المطلب أن يردَّ إليه إبله، قال له مقال السياسي المحرج المداور[35] بالكلام: «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة».
فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الإبل فأنا ربُّها، وأما البيت فله ربٌّ يحميه!».
فكان إيمانه إيمانًا كفئًا لدهاء السياسة، ولم يكن إيمان العجز والتواكل والاستسلام ..
ومن كان له هذا الخلق، وهذا الضمير، وهذا الإيمان، وهذه الرئاسة، فليس من عجب أن ينجب نبيًّا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان .. بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان.
أب
وإذا كان عبد المطلب جدًّا صالحًا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم ..
لكأنما كان بضعة[36] من عالم الغيب، أُرْسِلت إلى هذه الدنيا لتعقب[37] فيها نبيًّا وهي لا تراه .. ثم تعود.
كان إنسانًا من طينة الشهداء، يتجه إلى القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت[38] له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور[39] بوسامته وحيائه، وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتَّجر فإذا هي السفرة التي لا يؤوب[40] منها الذاهبون، وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين. وهكذا تتمثل [17]البصائر الخاشعة آباء الأنبياء والسلالة التي تصل بين الآخرة والدنيا وبين عالم البقاء وعالم الفناء .
رجل
عالم يتطلع إلى نبي .. وأمة تتطلع إلى نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي .. ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه[41] رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيَّأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة … وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره.
نبيل عريق[42] النسب .. وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمَّة الأنساب والأحساب ..
فقير .. وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
يتيم بين رحماء .. فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ[43] الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة[44] الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين.
خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألِف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة[45] ولم يبتعد من الفقراء ..
فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية .. وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه .. فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا يغامسها كل المغامسة فيغرق في لُجَّتها[46].
أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، على غير علم من الدنيا التي ترقبها .
ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام ..
قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والجزيرة [18]مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع، ومن هذا التوفيق؟ علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.
فإذا تجمعت هذه العلامات، فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ .. وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوِّض ما نقص منها؟
خُلق محمد بن عبد الله ليكون رسولًا مبشرًا بدين، وإلا فلأي شيء خلق .. ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟
لو اشتغل بالتجارة طول حياته كما اشتغل بها فترة من الزمن، لكان تاجرًا أمينًا ناجحًا موثوقًا به في سوق التجار والشراة … ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال.
ولو اشتغل زعيمًا بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد ..
فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد .
بشائر الرسالة
والمؤرخون يُجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية .. يسردون[47] ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قَبِلَه الثقات منها وما لم يَقْبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفقون [19]في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان[48]، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض[49] أمر الإسلام؟
لا موضع هنا لاختلاف ..
فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع[50] النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفًا عليها.
لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها[51] ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة .
ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا[52] إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي عليه السلام أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده؛ جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره. ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين .. يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين.
أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ ..
قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ..
وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ..
ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ..
استمعوا
===============
اي ضعيفا غير متماسك
المراد : قارب
من ركن : اي مال وسكن
الجناة الظالمين
العيث : الفساد
النقاش والحوار
غير المفيد
aعفت قوتها
المراد : بواطن الشر والهلاك
وقت المتجبرة
القوة
المراد : ما يقودهم
نضب الماء غار في الارض
الجوار
يحيطون
المستفحل والمتزايد
ما بين العشرة الى الاربعين من الرجال
نعومة العيش
الفقر والحاجة
يستريح
يهدأ ويستسلم
مكان
استجاب لها
سلطان
محيط
أي يخضع
أي الغالبة القاهرة
الشديدة
الذؤابة : الناصية أو منبتها من الرأس ، والمراد الرحمة والشرف
جدير
ولده وولد ولده
المراد :يدافع
السهام
البشر
داوره مداورة ودوارا : اي دار معه
بفتح الباء : القطعة من اللحم
اي لتخلف
تحرکت عاطفتهم
جمع خدر وهو الستر
يرجع
يقاربه
أي اصيل
البغيض الممقوت
طبيعة وفطرة
علية القوم وسادتهم
لجة الماء : معظمه
يسرد الحديث، إذا كان جيد السياق له،
عيان الشيء بكسر العين، رآه بالعين
استزاد
صدع بالحق، تكلم به جهارا
مقصدها ومرادها
======
→ عَلامات مَولد عبقرية الدَّاعي
المؤلف: عباس العقاد ←عبقرية محمد العسكرية
[20]
عبقرية الداعي
اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة ..
واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة ..
وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التي تؤدَّى بها رسالته على أحسن الوجوه .
كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول .
وكان من الممكن أن يظهر الرسول في البيت الصالح وفي البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التي يتم بها أداء الرسالة .
ولكن الذي اتفق في رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولًا سائغًا[1] بغير عنت[2] ولا استكراه .
فكان محمد مستكملًا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ .
كانت له فصاحة اللسان واللغة ..
وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة ..
وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغَيرته البالغة على نجاحها ..
وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول .. ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.
الفصاحة
فالفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، [21]ولموضوع الكلام .. فيكون الكلام فصيحًا وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.
أما فصاحة محمد .. فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه .
فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشي واستُرضعت في بني سعد بن بكر» .
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة .. وهذه هي فصاحة الكلام.
ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس [3] .. فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه [4] النطق الجميل.
أما محمد فقد كان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، وخير من وصفَه بذلك — عائشة رضي الله عنها — حيث قالت: « ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد [5] كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه» . واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها .. فهو صاحب كلام سليم في نطق سليم ..
ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون سليمًا في كلامه سليمًا في نطقه .. ثم لا يقول شيئًا يستحق أن يستمع إليه السامع في موضوعه.
فهذا أيضًا قد تنزَّه عنه الرسول في فصاحته السائغة [6] من شتى نواحيها .. فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقًّا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كِفَاء[7] ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام .
[22]الوسامة والثقة
وكانت له مع الفصاحة [8] صباحة ودماثة [9] تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو، ولم ينقل عن أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء.
وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبدًا يفقد أباه وأسرته — كزيد بن حارثة — ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه ..
وإن خادم خديجة رضي الله عنها — ونعني به ميسرة — يقدمه ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته، وهو أولى أن ينفُس [10] عليه، وأن يدَّعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقدم.
وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسًا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعًا من عظماء الرجال.
ولكن الرجل قد يكون صبيحًا دمثًا محبوبًا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير .. لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينًا فمن الجائز أن تفترقا حينًا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.
أما محمد فقد كان جامعًا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورًا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو مِن العلم بمنزلته مِن ثِقَة القوم، فأحبَّ أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»
فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» .. إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدًا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم [23]ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.
الإيمان والغَيرة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة .. وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان [11] وطلاقة القسمات [12]، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغَيرة عليه ..
وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان .. وجاوره أناس أقل منه نبلًا في النفس ولطفًا في الحس ونفورًا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق [13]، وجزِع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه [14] وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه .. فصدع بما أُمِر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة[15] ، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة .
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من [24]وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوًى في الأفئدة، فيُشْبِهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين .
نجاح الدعوة
ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهومًا بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من شيء غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة، ثم يخيل إليه أن الدعوة الإسلامية كانت فضولًا غير مطلوب في هذه الدنيا، وأن نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.
أي إرهاب وأي سيف؟ ..
إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف .. وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يُعرِّضون أحدًا لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتًا ولا يصيبون أحدًا بعنت، وكانوا يَخرجون من ديارهم لِياذًا [16] بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين، ونقمة الناقمين، ولا يُخرجون أحدًا من داره.
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفًا من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين .. ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويُبطلوا الإرهاب [17] والوعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحدًا بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان.
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.
أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين .. فلو [25]كان هو باعثًا للإيمان، لكان أحرى [18] الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية؛ هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم، ولكان طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة. فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين، بل لعلها أشهى إلى الأولين وأدنى [19]، ولعلهم أحرص عليها وأحنى، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمراء [20] أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال.
* * *
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر ..
ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه .. ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقًا واحدًا بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المنصفين والظَّلَمة المُتَصلِّفِين [21]، وبين من يعقلون ويصغون [22] إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يُصغون إلى قول.
ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا .. وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع . ولعلنا لا نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها من مثال عمر — رضي الله عنه — في إسلامه فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية، ينفي كل كلام يقال عن الوعيد والإغراء وأثرهما في إقناع الأقوياء أو الضعفاء.
قال ابن إسحاق: «... خرج عمر يومًا متوشحًا [23] بسيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطًا [24] من أصحابه .. قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء . ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: «من تريد يا عمر؟ ..» .
[26] فقال: «أريد محمدًا هذا الصابئ [25] الذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.»
فقال نعيم: «والله قد غرتك نفسك يا عمر! .. أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ . أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيمَ أمرهم؟» .
قال: «وأي أهل بيتي؟» .
قال: «خَتَنُك [26] وابن عمك سعيد بن عمرو! وأختك فاطمة بنت الخطاب .. فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما» .
قال: «فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع [27] لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة [28] التي سمعت؟» .. قالا له: «ما سمعت شيئًا! ..» .
قال: «بلى والله! .. لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه» .. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت له أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه [29] عن زوجها، فضربها فشجها [30]، فلما فعل ذلك قالت له أخته: «نعم .. قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك» فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع فارْعَوَى [31]، وقال لأخته: «أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا[32] أنظر ما هذا الذي جاء به محمد» . وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: «إنا نخشاك عليها» .
قال: «لا تخافي» وحلف لها بآلهته لَيرُدَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: «يا أخي! .. إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر» فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها «سورة طه» فقرأها فلما قرأ منها صدرًا قال: «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!» فلما [27]سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: «يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته وهو يقول: «اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» .. فالله الله يا عمر!» .
فقال له عند ذلك عمر: « فدلَّني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم » . فقال له خباب: « هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه» فأخذ عمر سيفه فتوشحه [33]، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خَلَلِ الباب فرآه متوشحًا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: « يا رسول الله! .. هذا عمر بن الخطاب متوشحًا بالسيف » .
فقال حمزة بن عبد المطلب: « نأذن له .. فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه » .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ائذن له! » فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه بالحجرة فأخذ بِحُجْزته [34] أو بمجمع ردائه، ثم جبذه [35] جبذة شديدة وقال: «ما جاء بك يا بن الخطاب؟ .. فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة [36]» . فقال عمر: «يا رسول الله! .. جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله» .
قال: «فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم.» فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم وقد عزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم ...».
هذه قصة إسلام عمر بن الخطاب، وهذا موضع ما فيها من الوعيد والإغراء .. خرج بالسيف ليقتل محمدًا ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف، وقرأ صدرًا من «سورة طه» ليس فيه ذكر للخمر والنعيم وهو: طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ . [28]
إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ[37] * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . فلا جبن إذن، ولا طمع في إسلام عمر بن الخطاب، بل رحمة وإنابة [38] واعتذار ..
ولم يكن في إسلام الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصرًا، وأضعف منه بأسًا [39] جبن ولا طمع؛ لأنهم تعرضوا بإسلامهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا لله ورسوله، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة؛ فيقال إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة، وجبن عن مواجهة القوة .. ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور، فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير، ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ [40] عنها فقد أبى [41] .. وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود [42] عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش، في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون به هوى كهوى الكفار من قريش، في الإصرار والإنكار.
إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته ..
فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شيء فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شيء سبيلًا لمن استقام .
يدافع
=========
سهلا
العنت، الوقوع في أمر شاق
المراد : محبوب
العوز، الفقر والحاجة
المراد، كثرة الكلام في التعبير عن المعنى
السهلة المقبولة
أي قدر
جمال
سهولة الخلق
يحسده ويحقد عليه
طلاقة اللسان، القدرة على حسن التعبير
طلاقة القسمات، ضاحك الوجه مشرقة
تيقن وتاكد
هجره
الاستعداد
لاذ، أي لجأ
البطش والظلم
أجدر واخق
اقرب
المراد، الاستطعام والتلذذ
المتجاوزين حدودكم والمتكبرين
يسمعون ويستجييون
متقلدا
ما دون العشرة من الرجال
صبا، خرج من دين الى دين
زوج ابنتك او صهرك والمراد هنا، الصهر
المراد ، مكان غير ظاهر
الصوت الخفي
لتمنعه
شج رأسه، أي كسره وادماه
ارعوى عن القبيح ، أي كف ونراجع
سلفا
تقلده
حجزة الازار، معقدة
جلبه
مصيبة من مصائب الدهر
الثرى: التراب الندي
رجوع
قوة وشدة
ضلال
رفض
=====
[29]
عبقرية محمد العسكرية
حروب دفاع
قلنا في الفصل السابق إن الإسلام لم ينجح لأنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون، ولكنه نجح لأنه دعوة لازمة يقوم بها داعٍ موفق، وليس بين أسباب نجاحه سبب واحد يصعب فهمه على هذا الاعتبار.
ونريد في هذا الفصل أن نقول: إن محمدًا كان على اجتنابه العدوان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال لعجز أو خوف مما يجهله ولا يجيده .. ولكنه اجتنبه؛ لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة. وقبل ذلك ينبغي أن نستحضر في الذهن بعض الحقائق التي تُظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال، لنثبت أن للإسلام شأنًا في اجتناب القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحًا للانتصار، وأن الأديان الأخرى ما كانت لتحجم[1] عن عمل أقدم عليه النبي لو كانت دعوتها كدعوته، وكانت أسبابها كأسبابه.
* * *
فالحقيقة الأولى، أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق — لو صدق — في بداءة عهد الإسلام كما أسلفنا يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح..
[30]لكن الواقع أن الإسلام في بداءة عهده كان هو المعتدى عليه . ولم يكن من قِبَله اعتداء على أحد .. وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية، واجتماع القول حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أُمِروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة، فلم يكن لهم قط عدوان ولا إكراه.
وحروب النبي عليه السلام كما أسلفنا كانت كلها حروب دفاع ولم تكن منها حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان[2] من نكث[3] العهد، والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم .. ففي غزوة تبوك عاد الجيش الإسلامي أدراجه[4] بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى[5] إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره. والحقيقة الثانية: أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع.
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف «سلطة» تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه.
لأن السلطة تُزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة .
ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي عهد الأعقاب[6] بعد الأسلاف[7] .. وكل حجتهم التي يذودون[8] بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يُزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه.
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها، لأنهم [31]أصحاب السلطة التي تأبى[9] العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة بعد التجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية، وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء؛ لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كان يمنع العوائق[10] التي تصد الدعوة الإسلامية، فيمتنع القتال.
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب .. ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر الدنيا.
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة .. ولا بد من التمييز بين العملين؛ لأنهما جد مختلفين.
* * *
والحقيقة الثالثة: أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها ..
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها، ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [11] والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها، بماذا تفُضُّ[12] الخلاف بينهم إن لم تَفُضَّه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضًا حيث جاء فيه: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ[13] إِلَىٰ أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[14]
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية [32]الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح .. ثم يأتي الصلح والتوفيق، أو يأتي التفاهم بالرضا والاختيار.
* * *
والحقيقة الرابعة: أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لا بد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع ..
فاليهودية أو الإسرائيلية كانت كما يدل عليها اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس .. فكان أبناؤهم يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها، كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم فضلًا عن امتشاق [15] الحسام [16] لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار ..
أما المسيحية فهي قد عنيت «أولًا» بالآداب والأخلاق، ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة.
وقد ظهرت «ثانيًا» في بلاد للمعاملات والنظم الحكومية فيها قوانين تحميها كما يحميها الكهان المعززون بالسلطان، فهي قد عدلت عن فرض المعاملات والدساتير لهذه الضرورة، لا لأن المعاملات والدساتير ليست من شأن الدين ..
وقد ظهرت «ثالثًا» في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول[17]، وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال . أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام .. وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية.
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية، فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه.
آية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأرِبَتْ [18] حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات.
[33]والحقيقة الخامسة: أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» وجاء في القرآن الكريم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا والله أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (النساء: ٨٤).
وحدث فعلًا أن المسلمين فتحوا بلادًا غير بلاد العرب، ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح.
إلا أن هذه الفتوح تأخرت في الزمن، ولم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور، وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه، واجتمعت له جنود تؤمن به وتُقْدم على الموت في سبيله.
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها …
فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه، لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم … ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسري منهما إلى حماه.
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب. والحقيقة السادسة: أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع …
فقد استقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس ا- الاية غل من سورة النساء ؟ - يمنع ۳- ارفه ؛ [34]على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم، وكانت جميعها مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه … فإذا قيل إن المدعوِّين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به متأخرين … وأن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار، إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح …
ومن نظر إلى الإقناع العقلي، تساوى لديه من يَسْتَمِيلُك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، أو بتربية الأطفال عليها وهم لا يعقلون، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم، على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام.
فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول، كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة، ولا يدفع عن عقيدة دفع العارف البصير …
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك، إلا أن يحال بينها وبين انتضائه، أو تبطل عندها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وأن الإسلام عقيدة ونظام، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في أخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه …
القائد البصير
لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلًا مقاتلًا يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة [35]الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء؛ لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع، وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام.
وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي عليه السلام في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف أن يستمع فيها إلى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه، ثم وعى من تجربة واحدة ما قلَّ أن يعيَه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى، فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكري من أساطين فن الحرب في العصر الحديث؛ لِيقترح وراء خططه مقترحًا أو ينبه إلى خطأ؛ لأعياه التعديل. ونختار أبرع القادة المحدثين وهو نابليون بونابرت على أسلوب حرب الحركة الذي كان هو الأسلوب الغالب في العصور الماضية، والذي ظهر في الحرب العالمية الحاضرة١ أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب، على الرغم من الحصون والسدود؛ لأن اختيار نابليون بونابرت يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم …
فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع، وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد.
وعنده أنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور: أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده.
وكان النبي عليه السلام سابقًا إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها، فكان — كما قدمنا — لا يبدأ أحدًا بالعدوان، [36]ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون، والقيظ ملتهب، والشدة بالغة، فلا يَثْنِيه ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه.
وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالًا على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق.
وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد …
والنبي عليه السلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان. وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك، مع رجحان الفئة الكثيرة في السلاح والركاب إلى جانب رجحانهم في عدد الجنود. ومعجزة الإيمان هنا أعظم جدًّا من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة. فالنبي عليه السلام كان يحارب عربًا بعرب، وقرشيين بقرشيين، وقبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة، فلا يقال هنا إن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو المزايا النفسية، كما يمكن أن يقال هذا في جيوش نابليون، وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان. وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره. فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوروبية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا …
[37]هكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشًا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها.
وأنكر بعض المتعصبين من كتَّاب أوروبا هذه السرايا وسموها «قطعًا للطريق» وهي هي سُنَّة المُصَادَرة بعينها التي أقرها «القانون الدولي» وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيدًا تارة وغاليًا في الحمق والشطط تارة أخرى.
وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش، ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة.
ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام فلا نرى أنه حاصر محلة، إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف.
وكان نابليون معتدًّا برأيه في الفنون العسكرية ولا سيما الخطط الحربية، ولكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى، قبل ابتداء الزحف أو قبل العزم على القتال.
ومحمد عليه السلام كان على رجاحة رأيه يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول، ومن ذلك ما صنعه ببدر — وألمعنا إليه آنفًا — حين أشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال إلى مكان غير الذي نزلوا فيه أول الأمر، ثم بتغوير الآبار وبناء حوض للشرب لا يصل إليه الأعداء، وقيل في روايات كثيرة إنه عمل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق، عند المنفذ الذي خيف أن يهجم منه المشركون على المدينة، فحفر الخندق وعمل النبي بيديه الكريمتين في حفره.
وقبول النبي مشورة سلمان عمل من أعمال القيادة الرشيدة، وسنة من سنن القواد الكبار، غير أننا نعتقد أنه عليه السلام [38]كان خليقًا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشِّعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميًا مشددًا عليهم في التزام موقفهم، قائلًا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل.»
والذي يفعل هذا في شِعب جبل، لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزُرِ التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع مِنْ كِلٍّ فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة [39]كان خليقًا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشِّعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميًا مشددًا عليهم في التزام موقفهم، قائلًا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل.»
والذي يفعل هذا في شِعب جبل، لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزُرِ التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع مِنْ كِلٍّ فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة [40]السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه.
•••
تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح.
لم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها — كما أسلفنا — إلا لدفع غارة واتقاء عداوة، فإذا كان مع هذا يُتْقِن منها ما يتولاه مدفوعًا إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها، وعاش لها، ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.
ولقد كانت خبرة النبي ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال، فكانت طريقته في اختيار المكان والغرض، أو في اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلًا يحتذى في جميع العصور، ولا سيما العصر الحديث الذي كثرت فيه ذرائع التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة، فكثرت فيه — من ثم — حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال الأعداء.
ففي الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة، أو بعد مسيرة ساعات، أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعًا على سر البعثة، ورجاله جميعًا يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أم في مناورة استطلاع، إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعات لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشف له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار …
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة … فقد عُرفت في [41]& . . پېغله يكون منهم 4 المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها ، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره إلا ينظر فيه حتى يسير يومين ، وفحواه أن « سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فتر صد بها عين قريش وتعلم لنا من أخبارهم وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثا وقديما وعند بداعة الدعوات على التخصيص فأولهما كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام ، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا (۱) عليه وعلى أصحابه من قبل قريش ، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور ، ولا أن الضعفاء والمخالفون وأن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام في جميع المطالب ، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن (۲) باتباع ۰۰ ولهذا كان اذا أراد غزوة ورى (۳) بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب الى الآن ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش کتمان الخبر عن أصحابه ثم وصايته ألا يكره أحدا منهم على السير معه بعد معرفته بوجهته ، أهم الملاحظات في هذا المقام فقد يحارب الرجل وهو مكوه مهدد بالموت الذي يتقيه اذ يفر من القتال ، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه ، بل لعله ينقلب الى النقيض فيحرف الأخبار عمدا ، أو يتلقاها على غير اكتراث (4) ، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه ولهذا تعاني الدول اكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضية المناقضية ، حتى تطمئن الي صحته قبل الاعتماد عليه وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين . وهذا هو f
بعل [42]من بعيد . $ فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبلون من الطيارات وراء الصفوف ، فيتسللون الى مراكز المواصلات ويعيثون (۱) بين القرى المعزولة ، فيشيعون فيها الرعب والخيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المنير كله على مقربة منهم فلا جدوى لهم من الاستغاثة او المقاومة ، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم قيل في الاعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير ، وقيل في انتقادها و التنبيه الى خطرها كثير فمن دواعي الاعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات واشاعة الذعر وتضليل المدافعين ، وانها شيء جديد في شكله وان لم يكن جديدا في غايته ومرماه ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية ، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورا على عمله متحمسا لانجازه رقيبا على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه ، فليس ایسر له أذا هو انفرد وأعوزته (۲) الرغبة في انجاز عمله من أن يستأسر (۳) في أول مكان يصل اليه من بلاد الأعداء، طلبا للسلامة، ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال • ثم يتعلل بما شاء من المعاذير ان وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه ، و هيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات - فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول اليهم ، وهي لهذا أدري اخوان الطريق و الهام العقائد لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود ، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة (4) البغضاء ويلبهو نهم بحماسة العقيدة ، ويخلقون فيهم اللدد (4) الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ الحبطت (1) الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة أن تحسب من وحي [43]وهي " والطواعية و اجتناب القسر (۱) والاكراه . فهذه « أولا ، بعثة منفردة لا سبيل الى الأكراه الفعال بين رجالها اذا أريده ثانيا » بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور (۲) ، و الزم ما يلزم العامل فيها ايمانه وصدق نیته وحسن مودته لمن أرسلوه ، فان أعوزته (۳) هذه الميفة فقد أعوزه كل شيء أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليما بمزاياه ، معنيا به غاية العناية ، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري ، ويحول من ثم دون الانتصار عليه و نحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيف اصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الخلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا امس و غزوة هتلر لتلك البلاد اليوم فمن أسباب هزيمة نابليون : اهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية ، الاعتقاده خطا أن القيصر سيطلب ملحه بعد أسابيع ومن أسباب تلك الهزيمة : أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دیارا (4) يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يلتقط من خلال اجوبته ما يعينه على الاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه • اما هتلر فقد أتي من قبل هذين النقصين كما أتي من قبله من هو اعظم منه واولى بالتحرز (2) والأناة (1) . فقد اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم واشتهر أنه أخطأ في استطلاع أخبار القوم ، اذ خيل اليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة ، ويترقب الاغارة عليه لنصرة + [44]94 المنير كائنا من كان ، ولو جاءت الغارة من عنصر معاد للعنصر السلافي ، وهو عنصر الجرمان ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر و نابليون ، ولكنه لم يخطيء قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته و کشوفه ، ولعلنا نفهم - كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية س أن دراسته فترب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين وينبغي تمر بنا سرية عبد الله بن جحش دون أن نستوفي كل ما فيها من الشئون العسكرية ، لأنها تشتمل على أكثر من جانب واحد من جوانب السنة النبوية والتشريع الإسلامي في هذه الشئون .. فهي سرية استطلاع كما علمنا لم تؤمر بقتال ولم يؤذن لها فيه . لكن حدث بعد فض الكتاب أن اثنين من رجال السرية ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش ، وهما سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان ثم نزل الركب بنخلة فمرت بهم عير قريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي ، آخر شهر رجب . و كانت قريش قد حجزت أموال أناس من المسلمين منهم بعض من في السرية فتشاوروا في قتال أهل العير ، وحاروا فيما يصنعون : أن تر کوا العير تمضي ليلتها امتنعت بالحرم ، وفاتهم تعويض ما حجزته قريش في هذه الفرصة السانحة (1) ، وان قاتلوا أهلها قتلوهم في شهر حرام ، لكنهم اندفعوا الى القتال فأصابوا من أصابوه أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فأرداه (۲) وأسروا رجلين • وقفل عبد الله بن جحش ومن معه الى المدينة وقد حجزوا للنبي عليه السلام الخمس من غنيمتهم ، فأباه عليه السلام وقال لهم : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، وعنفهم اخوانهم المخالفة النبي ، وساءت لقياهم بين أهل المدينة وراحت قريش تثير ثائرة العرب ، واندس جماعة من اليهود يحضأون (۳) نار الفتنة ، وتنادوا أن محمدا واصحابه قد أباحوا الدماء والأموال في الشهر الحرام ، وقال المسلمون في مكة : بل كان ذلك في شعبان ، ثم نزلت الآيات :« يسألونك عن الشهر f 6 ورمی [45]الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله و کفر به
و المسجد الحرام و اخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونکم حتى یردوکم عن دینکم آن استطاعوا » (1) فقبض النبي العير و الأسيرين . و طلبت قريش فداء هما فقال عليه السلام : « لا نفديكمو هما حتى يقدم صاحيانا ، فأنا نخشاكم عليهما ، فان تقتلوهما نقتل صاحبيكم هذه قصة السرية و ما وقع فيها خلافا لأمر النبي و ما نجم (۲) عنها من تشريع .. فاذا نحن كتبناها باصطلاح العصر الحديث فكيف نكتبها ؟ و كيف نفهمها ؟.. هي لا خلاف حادثة طلائع او حادثة حدود : ترسل احدى الدول طليعة من جندها الى حدودها للكشف أو للحراسة ، فيقع الاشتباك بينها و بين طليعة في بلاد دولة أخرى على غير علم من الحكومتين 6 فالذي يحدث في هذه الحالة أن تنظر الحكومة الأخرى الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية لا تستوجب القتال ، وتكتفي بما ينال المسئولين على أيدي حکو متهم من جزاء أو تأنيب وينحسم (۳) النزاع هذا أو تمر الحكومة الأخرى على طلب الترضية ، فان قبلتها الحكومة المطلوبة فالنزاع منحسم ، وان لم تقبلها فالمفاوضية والمساومة أو امتشاق الحسام (4) ذلك اذا نظر الفريقان الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية ولم يشأ أحدهما أو كلاهما أن يضعاها موضع التشريع العام التقرير الحكم الذي تجريان عليه فيها وفي أمثالها ، أو تقرير ما يعترفان به وما ينكر انه من الشرائط والأصول وقريش لم تكتف بالنظر الى حادثة السرية (5) كأنها حادثة [46]t f فردية عرضية ، ولم تعلن الحرب توا (۱) لأنها تبيت النية الاعلانها بعد حين ولكنها أثارت مسألة تشريع عام في قتال الشهر الحرام ، فوجب أن ينص الاسلام على هذا التشريع مربعا لا لبس فيه ، وهذا الذي كان ليست المسألة أن عبد الله بن جحش قد خالف أمر النبي فهذا أمر مفروغ منه ولا محل للبحث فيه إنما المسألة هي ما الحكم بعد الآن في قتال الأشهر الحرم ؟•
وماذا يبلغ من حق المشركين في الاحتماء بحرمة هذه الأشهر اذا كانوا لا يرعون للمسلمين حرمة ولا يزالون يقاتلونهم ويردونهم ما استطاعوا ؟ وما الجواب علی تشهیر قریش و احتجاجها بالحرمات التي لا ترعاها ؟۰۰ الحكم الذي وجب ان يعلنه الاسلام ، وقد أعلنه على الوجه الذي دانت به الشرائع الحديثة في علاقاتها الحربية ولا تزال تدین به حتى اليوم ، فهناك حرمات دولية اذا خالفتها احدی الدول بطل احتماؤها بها وأحل لغيرها أن يخالفها كما خالفتها أو يتخذ من القصاص ما يردع الشعر و يعوض الخسارة ، والا كانت الحرمات درعا (۲) للمعتدين ولم تكن مانعا لهم وسدا في أريد بها أن تكون . عن دينهم هذا هر 9 كما وجو مهم
* *
واليوم تنقطع العلاقة بين دولتين في حالة . حرب أو جفاء فيجوز لكلتيهما أن تحجز ما عندها من أموال الدولة الأخرى ، وان تأسر الذين في بلادها من رعاياها ، ويجوز لها أن تجعل تلك الأموال ضمانا لسداد المغارم التي تنزل بها وبأبنائها ، وأن تتخذ من المعتقلين رهائن تعاملهم بمثل ما يعامل به المعتقلون من ابنائها ، في سجون الدولة الأخرى فالذي حدث بعد سرية عبد الله بن جحش هو هذا بعينه ، وهو حكم القانون الدولي المتفق عليه : اسيران بأسيرين ، وأموال العير بالأموال التي حجزتها قريش للمسلمين . ولا محل لضجة الناقدين من المبشرين والمتعصبين في تعقيبهم على هذا الحادث المألوف او على حكم النبي والاسلام فيه . فان أصحاب هذه
41 [47]ما 1 الضجة يسمون عما حولهم وينسون أن المعاملات الدولية في زمانهم لم تفصل في أمثال هذه الحوادث بحكم أنفع ولا أعدل من الحكم الذي ارتضاه النبي ونزل به القرآن ، وهو حكم مساواة يدين به المسلمون كما يدانون ، ويحار المعتسف (۱) لو شاء أن يستبدل هو خير منه وأدني الى النفاذ والاتباع وكان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال أن قوة رأي ، وان قوة لسان ، وان قوة نفوذ ، فما نعرف أن احدا وجه قوة الدعوة توجيها أسد (۲) ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام • غرضان و الدعوة في الحرب لها - كما لا يخفی - غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة أحدهما : اقناع خصمك والناس بحقك وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الاسلام جميعا فالدين كله دعوة من هذا القبيل وثانيهما : أضعافه عن قتالك باضعاف عزمه وايقاع الشتات (۳) بين صفوفه .. وربما بلغ النبي برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة ، و بالمكاتب و الدواوين 6 و بدر الأموال قال ابن اسحق ما ننقله ببعض تصرف : « أن نعيم بن مسعود الغطفاني أتی رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، اني قد أسلمت ، وان قومي لم يعلموا باسلامي .. فمرني بما شئت ۰۰ فقال رسول الله : انما أنت فينا رجل واحد فخذل (4) عنا آن استطعت فان الحربا خلعة اي أدخل بين القوم حتی يخذل بعضهم بعضا فلا يقوموا لنا ولا يستمروا على حر بنا . « فخرج نعیم بن مسعود حتى أتي بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية . فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودي اياكم وخاصة ما بيني و بينكم قالوا : صدقت . لست عندنا بمتهم [48]ة - >> بلغني « فقال لهم : أن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ۰۰ البلد بلد كم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤ کم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه الى غيره ، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمده وأصحابه ، وقد ظاهر تموهم (۱) عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم ! ۰۰ فان رأوا نهزة (۲) أصابوها وان كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به ان خلا بكم ، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون باید یکم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه (۳) ۰۰ فقالوا له : لقد أشرت بالرأي .
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من قريش : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وانه قد أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم .. فاکتموا عني ! قالوا : نفعل و قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد ، وقد أرسلوا اليه : انا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن تأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من اشرافهم ، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم (4) ؟.. فأرسل اليهم أن نعم بعثت اليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا اليهم منكم رجلا واحدا « ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، انکم أهلي و عشيرتي و أحب الناس الي ولا أراكم تتهمو نتي ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم « قال : فاکتموا عني « قالوا : نفعل ، فما أمرك ؟ .. فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم
د فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، أرسل ابو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان الى بني قريظة عكرمة بن ابي فان [49]
و هو يوم 6 بني و . جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : انا لسنا بدار مقام وقد ملك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتي تناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا اليهم : ان اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا مع ذلك بمقاتلي محمد حتی تعطونا رهتا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا ، فأنا نخشى ان ضرستکم (۱) الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا (۲) الى بلادكم وتتر کونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه . د فلما رجعت اليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله ان الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا الي قريظة : انا والله لا ندفع اليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فان کنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا م وقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل اليهم بهذا : أن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم الا أن تقاتلوا ، فان رأوا فرصة انتهزوها ، وان كان غير ذلك انشروا الى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم وخذل الله بينهم و بعث الله عليهم الريح في ليال شائية باردة شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ثم رحلت قريش وغطفان الى بلادها ، وانصرف رسول الله عن الخندق راجعا الى المدينة » هذه دعوة نعيم بن مسعود ۰۰ وما نجحت دعوة قط برجل واحد نجاح هذا الرجل ، ولا انتهزت فرصة العناصر الطبيعية والعناصر التي تتألف منها جماعة الأعداء كما انتهزت هذه الفرصة .. فكل كلمة قيلت الطائفة من طوائفهم فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال في الوقت الذي ينبغي أن تفعل فيه فعلها ، وهذه هي دعوة الاضعاف والتمزيق كأمضي ما تكون قائد بغير نظير عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغي أن ننظر الى فكرة القائده قبل أن ننظر الى ظواهر المعارك [50]¢ أو إلى أشكالها وأحجامها ، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنی اذن للمقارنة على الاطلاق ان من المقطوع به آن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف ، وان حر با تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والاشارة ، وان نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والابل ، وان المدفع أمضى (۱) من السيف ، والرصاصة أمضى من السهم . فلا معنى اذن لمقارنة بالفاوا هر تنتهي الى نتيجة واحدة هي استضخام الحرب الحديثة والنظر الى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير الى جانب القيادة التي توجه هذه الضخامة . لكننا اذا نظرنا إلى فكرة القائد ، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا تراها في توجيه مليون بينهم الراجل و الراكب ، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة د -
* *
هي 6 وهذه الفكرة التي تربينا محمدا عليه السلام قائدا حر بيا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه ، وفي الانتفاع بمشورة صحبة ، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام وهذه القدرة . شهادة كبرى لرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضروري الذي لا محيم عنه (۲) ، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية ، ولا يلجأ الى هذه القيادة الا حين توجبها رسالة الهداية ويزيد هذه الشهادة عظما أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجوز فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة ، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال . [51]ان بعض المستشرقين زعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام ، لانه عمل أقرب الى خلقه من الخوض في معمعة القتال .. وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادرا على المشاركة في المعمعة بغير ذلك فهذا خطأ في الاحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان واكرم صفات البسالة والاقدام - فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم (۱) نار العرب ويهاب شواظها من لا يهاب ، و كان علي فارس الفرسان يقول : « كنا اذا البأس (۲) اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب منه الى العدو » حمي
* *
4. ولولا ثباته في وقعة حنين ، وقد ولت (۳) جمهرة الجيش وأوشك أن ينفرد وحده في وجه الرماة والطاعنين ، لحقت الهزيمة على المسلمين ۰۰ وخروجه والليل لما يسفر (4) عن صبحه ليطوف بالمدينة مستطلما ، وقد هددها الأعداء بالغارة والحصار امر لو لم تدعه اليه الشجاعة الكريمة لم يدعه اليه شيء ۰۰ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بمن يؤدون عنه مهمة الاستطلاع و هو قرير في داره ، ولكنه أراد أن يرى بنفسه فلم يثنه (۰) خوف ولم يعهد بهذا الواجب الى غيره ومشاركته في الوقعات الأخرى هي مشاركة القائد الذي لا يعفي نفسه وقد أعفته القيادة من مشاركة الجند عامة فيا يستهدفون له ، فهي شجاعة لا تؤثر أن تتوارى حيث يتاح لها أن تتواری ، وعندها العذر المقبول بل العذر المحمود واذا كان القائد خبيرا بالحرب قديرا عليها غير هياب المخاوفها ثم اكتفى منها بالضروري الذي لا محيم عنه (6) فذلك الرسول تأتيه الشهادة بالرسالة من طريق القيادة العسكرية ، صفاته الحسنى تبعا لصفات الرسول . ده مر وتأتي جميع [52]خصائص العظمة لكن للعظمة خصائص تدعو الى العجب ، وان كانت معروفة الأسباب ۰۰ وناهيك (۱) بالعظمة التي ترتقي هذا المر تقی فمن تلك الخصائص انها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد لأنها متعددة الجوانب ، فيراها أناس على صورة ، و يراها غيرهم على صورة أخرى ، وربما رأتها العين الواحدة على اختلاف في الوقتين المختلفين ولأنها تبعث الحب الشديد كما تبعث البغض الشديد ، و بين الطرفين مجال للاعتدال يستقيم للراشدين ، ومجال للمغالاة (۲) من هنا وللمغالاة من هناك ولأنها عميقة الأغوار (۳) فلا يسهل استبطانها (4) لكل ناظر ، ولا يتأتى تفسيرها لكل مفسر وهذا اذا سلمت النفوس من سوء النية .. فأما اذا ساءت النيات وران (5) الهوى على البصائر فلا عجب اذن في الضلال -
. د ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على السنة المتعصبين من أعداء دينه .. فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال ، وهو عند أناس آخرین صاحب قسوة نضرية (6) بالقتل واهدار الدماء البشرية في غير جريرة (۷) ، وتنزه محمد عن هذا وذاك فاذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب ، فحياته كلها من ملفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء .. اذا كان في كل صلة من صلاته بأهله او بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثلا للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء ولا نقف كثيرا عند الحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على أهدار الدماء في غير جريرة فأكثرها لم يثبت قط ثبوتا يقطع الشك فيه ، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل عصمناء بنت مروان اليهودية لأنها كانت تهجو [53]الاسلام والمسلمين ، فان النبي عليه السلام قد نهى في قول صریح عن قتل النساء و كرر نهيه في غير موضع ، حتی قال بعض الفقهاء بمنع قتل المرأة وان خرجت للقتال ، ما لم يكن ذلك لدفع خطر لا يدفع بغير قتلها . والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل كعب ابن الأشرف الذي كان يهجو المسلمين ، ويقدح (۱) في دينهم ، و يؤلب عليهم الأعداء ، ويأتمر (۳) بقتل النبي ، ويدخل في كل دسیسسة تنقض معالم الاسلام و كان قومه معاهدا على أن يحالف المسلمين ، و يحارب من يحار بو نهم ، ولا يخرج لقتالهم ، ولا يقابلهم الا بما يقابل به الحليف حليفه من المودة و المعونة فنقض العهده وزاد على تقضة تأليب العرب مع قومه على النبي وصحبه ، وأنه رجع الى المدينة « فشبب (۳) ينساء المسلمين حتى آذاهم » وافترى عليهن و عليهم ما ليس يفتريه رجل شريف، وليس يرضاه في عرضة عربي غيور بني النضير 6 ه ورد في حديث مقتله أن الرهط الذين خرجوا لقتله انتهوا الى حصنه ، فهتف به أبو نائلة - و كان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته ۰۰. فأخذت أمرأته بناحيتها وقالت : « انك امرؤ محارب ، وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ! » وصدقت امرأته حين وصفته بأنه محارب يعامل معاملة المحاربين وقد حنثوا (4) في أيمانهم ، فلم يكن راعيا لعهده ، ولم يكن له وازع من نفسه ولا من قومه ، ولم يكن مأمونا على المسلمين وهو لائن (5) بحصنه فهو أقل الناس حقا في أمان " وجاء في الخبر أن النبي عليه السلام أقر مقتله ، فعاب بعض المؤرخين الأوربيين ذلك ، وحسبوه خروجا على سنن القتال يشبه فعلة نابليون الكبير حين أمر باختطاف الدوق دنجان 6 [54]t t ومحاكمته بغير حق مع ما بين الحادثين من بون (۱) بعید بيناه من قبل فلا نعود اليه الا أننا نوجز هنا ، فلا نزيد على أن نشير الى حكم القانون الدولي في أحدث العصور على من يؤخذون بصنيع معيب كصنيع ابن الأشرف ، وان لم يبلغ مبلغه من الغدر والكيد، والاساءة الى الأعراض . وذلك هو حكم الأسير الذي ينطق بعهد الشرف ألا يعود الى القتال ، فان القانون الدولي يوجب عليه أن يوفي بعهده ويوجب على حكومته ألا تند به إلى عمل ينقض ما عاهد الأعداء عليه ، ويقضي بحرمانه حق المعاملة كما يعامل اسرى الحرب اذا شهر السلاح على الذين أطلقوه ، أو على حلفائهم المحاربين في صفوفهم ، ويصبح اذن أن يحاكم كما يحاكم المذنبون ويقضي عليه بالموت فقوانين العصر الحديث اذن تعاقب بالموت جريمة أهون من جريمة كعب بن الأشرف بكثير ، لأنه تجاوز الغدر الى التأليب والائتمار وثلب (۲) الأعراض " وليس في توقيع هذه الأحكام قسوة ولا رحمة ، لأن المرجع فيها 1 الضرورة التي اوجبت القصاص وفرضته على الناس في أحوال السلم بين أبناء الأمة الواحدة ، فضلا عن أحوال القتال بين الأعداء أسرى غزوة بدر ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر ، وخروج النبي الى ساحة الحرب المعركة و غنائمها بعد انتهائها .. فهو أمر لا يصح الحكم فيه الا بالنظر الى موضعه وموقعه وأشخاصه ، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الاسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب وانما حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة . وليست كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم غير معروفين بماض ولا بحاضر سوی أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الاعداء • فقتل الأسرى بعد بدر ان هو الا قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب ، وقد الرؤية صرعی [55]وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين - جاز هذا في كل قانون ، وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء وفرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك و بينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح ، وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه و هو القتال الشريف . أما رؤية القتلى في ساحة العرب ، فقد نسي فيها أولئك الناقدون أن اغتباط (۱) المنتصر بفوزه طبيعة انسانية لا غضاضة (۲) فيها .. ما لم تجاوز حدها الى الفرح برؤية الدماء المحض الفرح برؤية الدماء - وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي عليه السلام ، ولا نم عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين 6 6 ده ونسي أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العمرية ، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية وفي حياة البادية على الاجمال .. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها اراقة الدم كل يوم ، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزى في كثير من الأيام فانك لا ترمي بالقسوة طبيبا قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات ان لم يألف الاطباء هذه المناظر و يملكوا چأشهم (۳) وهم يفتحون أعينهم عليها . ولكنك قد بالقسوة انسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يقال فيه أن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه ، أو بما يستلزم النظر اليه قسوة في الطباع واستراحة الى رؤية الدماء كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا ، لينظروا بعين النبي الى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الاسلام ترمي [56]$ كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي الى جيشين أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد ، والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا ، ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف ومن كل مطية غير الاقدام ۰۰ وكان عليهم أن يلمسوا اشفاق النبي من عاقبة هذه الوقعة ، ويستمعوا اليه و هو يناشد ربه : « اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها (۱) تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني" - اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تلعبد و كان عليهم أن ينظروا اليه وقد مد يديه وشخص (۲) بیمره ، وجمع في صلاته حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه (۳) وأبو بكر يرده ويناديه : « بعض مناشدتك ربك فان الله لك ما وعدك .. وهو لا يلتفت الى سقوط ردائه ولا الى مناداة صفيه ، لاستغراقه في الدعاء ۰•• وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا منهم يرجعون الى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناو أة (4) النبي ، واعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد ، وليس الصبر عليه بيسير نفسيه منجز 6
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه ، وانه شعور مطبوع في نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال ، فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر ، وتخرج من الضيق الى الفرج ، وتنظر في ساحة الحرب الى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها الى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الايذاء والمكيدة ، وأن ت کا ما هي تلك الأسلاب (4) والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين ، لأنها أول شيء شهدوه من نوعه ، ولا يتنزل حكم الدين في سلب أو غنيمة أن محمدا رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة ، وليس بناسك مهزول من نساء الصوامع الذين يكبون في جوانحهم (1) ا [57]6 6 كل دافعة و كل احساس .. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف ، وستلحق بها كل تلك العواقب ، أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه ، ولم تكن توجيه الفطرة الانسانية على المقاتل وهو في اللحظة الأولى بعد الظفر خلیق (۱) أن يعلم مدى انتصاره ، ومدى ما يتوقعه بعده ، و مدی ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة ، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات ، وهؤلاء مراسلو الصحف الحر بيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف ، يجدون من واجبهم الا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد انجلاء الفريقين اليشرحوا دروس النصر والهزيمة بينهما، ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب ، فانصراف محمد عن ساحة بدر على اثر النمر عمل غريبه يخل بمكانة القائد ، وبواجب التحقيق ، والاستفادة من كل ما يفيد بعد معركة الأحزاب : و نحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصي ما ذكره المؤرخون الأوربيون من مآخذ في هذا الباب وأهمه عدا ما قدمناه قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب فان أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا للعرف المتبع في الحروب ، و ينسون أمورا لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها و يستحضروها أتم استحضار ، و هي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات فلا يجدي معهم أخذ المواثيق (۲) من جديد ، وانهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه، وان سعد! انما دا نهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح ، فان أجابتك إلى الملح ، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير و يستعمله لك ، وأن لم تسالم بل عملت معك حربا فحاصرها ، واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم و كل ما في المدينة كل غنيمة فتغنمها لنفسك وتأكل د E 6
ہ [58]$ غنيمة أعدائك التي اعطاك الرب الهك ۰۰» ( اصحاح ۱۰ الى ۱۰ تثنية ) وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا : ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب ؟ فالقضاء الذي قضاه النبي في بني قريظة عدل وحكمة وصواب وما من احد يقضي غير ذلك القضاء ، وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها ، ومن لددهم (۱) في خصومتها ، ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها وان حملة تأديبية واحدة من حملات العصور الحديثة يحملها قوم مسلحون على قوم عزل يذودون (۲) عن أوطانهم وحقوقهم، الفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدث قط نظير له في عقاب بني قريظة ، ولا في جميع الحروب التي نشبت بين النبي عليه السلام و بين أعداء له ولدينه ، هم المتفوقون عليه في العدد والثروة والسلاح ان عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب وترضاها المروءة ، وترضاها شريعة الله والناس ، وترضاها الحضارة في أحدث عصورها ، ويرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء . + .
۸ه
زادت
قالب:Default layout
تصنيف:
عبقرية محمد
=======
أي تكف
التيقن والتأكد
نقض
من حيث اتى
أي انتقل اليه وبلغه
الخلف
الآباء المتقدمين
پدافعون
ترفض
المعوقات
الاية 193 من سورة البقرة
تنهي
ترجع
الاية 9 من سورة الحجرات
المشق ، سرعة الطعن
السيف
قوة وقدرة
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/عبقرية محمد السياسية
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ عبقرية محمد العسكرية عبقرية محمد السياسية
المؤلف: عباس العقاد ← عبقرية محمد الإدارية
[59]
عبقرية محمد السياسية
<
*
6 سياسة الخصوم والأتباع السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية ، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته ، أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات ، ولكل معني من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث ، وأن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسية في عموم مدلوله ولكننا لا نعرف بينها عملا واحدا هو أدخل في أبواب السياسة ، وأجمع لفرو بها ، وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعا ، منذ ابتدا بالدعوة إلى الحج الى أن انتهى بنقض الميثاق (۱) على أيدي قريش ففي عهد الحديبية تجلی (۲) تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه ، وفي الاعتماد على السلم والعهد، حيث يحسنان ويصلحان ، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود بدأ بالدعوة إلى الحج ، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته بل شمل به كل من أراد الحج من ابناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي اليه ، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش ، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها ، وفصل بذلك بين 0 د و
اه [60]6 € < فها هو دعواها ودعوى القبائل الأخرى ، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من اثارة نخوة (1) العرب وتوجيهها إلى مناواة (۲) محمد والرسالة الإسلامية ، فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها ، ولكنهم اذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم ، أو يقطعون ما بينهم و بين آبائهم وأجدادهم ، فاذا خالفوا قريشا في شيء ، فذلك شأن قريش وحدهم ، أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة ، وليس هو بشأن القبائل أجمعين ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من اغضاب العرب على الاسلام ، بما ادعوا من قطعه للأرزاق ، وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها النادون (۳) الى مكة والرائحون (4) منها محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام ، فاذا حال بينهم حائل و بين ما يقصدون اليه ، فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه .. ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين وقد سمعنا كثيرا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة سمعنا بها في الحركة الهندية التي قام على راسها غاندي و تابعه فيها بعض مرید یه ، حتى كان لها من الأثر في ازعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية وقيل يومئذ ، ان غاندي قد تتلمذه في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليون تولستوي .. وقيل ، بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم ايذاء الحيوان فضلا عن الانسان ، قبل أن يشرع ليون تولستوي مذهبه الجديده والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيون على حركة غاندي و تبشيره بتلك المقاومة السلبية ، لاعتقادهم أن الاسلام قد شرع للقتال فلا يوائم (5) [61]المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين ، من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة . لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ، ويبين لهم أن الإسلام قد أخذه من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته واسبابه فلا هو پر کن الى السيف وحده ولا الى السلم وحده ، بل يضع كليهما حيث يوضع ، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع ، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار ، وليس الآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار . + + + و وقد خرج النبي الى مكة في رحلة الحديبية حاجا لا غازیا . يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله ، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح ، الا ما يؤذن به لغير المقاتلين فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب و قريش وحسب .. بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش ، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسالك في دفعه أو قبوله أو مهادنته (۱) ، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد ، وقل من أتباعه من أدرك قصیده و مرماه حتى الصفوة المختارين ولما اتفق الطرفان - المسلمون وقريش م على التعاهد والتهادن ، كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة « الدبلوماسية ، كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين دعا بعلي بن أبي طالب فقال له : « بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش : « أمسك (۲) ! لا أعرف الرحمن الرحيم ، بل اكتب باسمك اللهم : فقال النبي : « أكتب باسمك اللهم ثم قال : « اكتب ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهیل ابن عمرو ) » & . . ا- مصالحته ام امسك عن الكلام : مسكت 11 [62]و فقال سهيل : « أمسك ! لو شهدت انك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك » وروي أن عليا تردد فمسح النبي ما كتب بيده ، ، وأمره أن بكتب د محمد بن عبد الله في موضع محمد رسول الله » • ثم تعاهدوا على أن من أتی محمدا من قريش بغير اذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا من رجال محمد لم پر دوه عليه وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح (۱) علیه ومن أحب محالفة (۲) قريش فلا جناح عليه ، وان يرجع محمد واصحابه عن مكة عامهم هذا على ان يعودوا اليها في العام الذي يليه ، ويقيموا بها ثلاثة ايام ومعهم من السلاح السيوف في قربها ، ولا سلاح غيرها 6 « ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون ، لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب فيعترف المشركون كرها أو طوعا بصفة النبوة ولا يردون أحدا من مواليهم أو قاصريهم يذهب الى النبي ويلحق بالمسلمين ولكنه عهد مهادنة أو عهد و ايقاف أعمال العداء الى حين » كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر يعوزه (۳) شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود ، من اثبات صفة المندوبين التي لا ارغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة الدعوى الفريقين ، ومن حفظ كل لحقه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه . فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد اليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الاسلامية و نقض الوصف الذي يصف به المسلمين فان المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قر یشا ليس بمسلم ، ولكنه مشرك يشبه قريشا في دينها و هي أولى به من نبي الاسلام أما المسلم الذي يرد على المشركين مكرما فانما الصلة بينه و بين النبي الاسلام ، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين ولا تنقطع الصلة فيه بالبعد والقرب فان كان الرجل ضعيف 6 ا- جناح : اثم 2- الدخول في عهدهم ۳ - فلا يفتقر الى شيء [63]هي ها تا الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه ، وان كان وثيق (۱) الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين . وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنما (۲) لها وخذلا تا لمحمد صلوات الله عليه فان المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده ، قد خرجوا الى طريق القوافل يأخذونها على تجارة قريشو هي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة ، ولا استطاعوا أن يحجزو هم في مكة كما أرادوا أملوا شروطهم في عهد الحديبية ، ولو قضي العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه
وتم العهد بعد قليل فعرف من لم يعرف ما أفاء (۳) على الاسلام فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه واستراح النبي من قريش ، ففرغ ليهود خيبر والمسالك الأجنبية پر سل الرسل الى عظمائها بالدعوة الى دينه ، وفتح الأبواب لمن يفدون اليه ممن أنكروا بغي قريش وأمنوا أن تكون نصرتهم للاسلام حربا يبتلون فيها بما لا يطيقون و بوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية : « آنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما» (4) لم يفقه الكثيرون معناها في حينها ، ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبيه محض (5) تسليم ولكنهم فهموا أي فتح هو بعده سنتين ، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف ، وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون، ولا يحسنون النظر الى بعید 4 و يتم الفتح المبين كان في تلك السنة فتح ، يراه الناظر بعين الغيب ، ولا يراه < ا- قوي - كسها ۶ های رجع وعاد 4 - الآية :2،۱ من سورة الفتح و - خالم \r [64]بغير العيون الناظر بعينه ولكنها سنة واحدة ثم رأي الفتح المبين من لا يرون راوه وامتلأت عيونهم بالنظر اليه ، فسر قوما وساء آخرين ففي السنة التالية نادي الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج ولا يتخلف أحد ممن شهده الحديبية ، فخرجوا في شرق المنطلق بعد منع ، والمنتظر بعد صبر ، الا من استشهد في خيبر وادر کته الوفاة خلال العام ، وخرج معهم جمع كبير ممن لم يشهدوا النساء والأطفال، وساقوا أمامهم ستين بدنة (۱) مقلدات (۲) للهدى ، وقد حملوا السلاح والدروع والرماح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة الحديبية يتبعهم
* *
h فلما انتهى الرسول و صحبه الى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وعلمت قريش بالنبأ ، ففزعوا و بعثوا بمکرز بن حفص في نفر منهم ، فجاءوا يقولون : « والله يا محمد ما عرفت مغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم الا تدخل الا بسلاح المسافر : السيوف في القرب ؟» فقال عليه السلام : « أني لا أدخل عليهم بسلاح ه قال مکرز :« هو الذي تعرف به : البر والوفاء » وانما حمل النبي السلاح للحيطة كما قال لصحبه : « آن ماجنا (۳) هائج من القوم كان السلاح قريبا منا» .. وتر که في الحراسة على مقربة من مكة حيث يوصل اليه عند الحاجة اليه ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون ، وأخذ معبد ابن رواحة بزمام القصواء وهو ينشد : خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله یا رب اني مؤمن بقيله اني رأيت الحق في قبوله وأوشك وقد هزته النخوة أن يصيح في قريش صيحة الحرب، فنهاه عمر رضي الله عنه وأمر النبي أن ينادي ولا يزيد : لا اله الا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، ،وخلال الأحزاب < ا- باقة او بقرة سمينة 2- تقليد البينة : ان يعلق في عنقها شيء لبعلم الها هدي ۳- المراد : افارقا . ۱( [65]وحله » ، فرفع ابن رواحة بها صوته الجهير ، وتلاه المسلمون يرددونها و تهتز بها جنبات الوادي القريب ، فيسمعها من فارقوا مكة لكيلا يسمعو ها ولا يروا ركب النبي يخطو في نواحيها
* *
6
6 وكان الفتح الذي بصر به عيانا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة ، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عميا على الاسلام : فريق منهم بهر هم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه وفريق منهم راعهم سمت (۱) الدين ورحتم الاسلام فيما بين المسلمين ، وجمال ما بينهم وبين نبيهم من طاعة وتمكين ، وفريق منهم علموا أن العاقبة للاسلام فجنحوا (۲) الى طريق السلامة والسلام ، وحسبك (۳) أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الاقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص ، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان ، وان كانا لا يتشابهان وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور ، كما تجلت في قيادة الجيوش ، فكان على أحسن نجاح في سياسته از نادی بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته ، واذ دعا المسلمين وغير المسلمين الى مصاحبته في رحلته ، واذ توخي (4) ما توخی من طريقة المسالمة واقامة الحجة في انفاذ عزيمته ، وان قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته (5) ، واذ نظر الى عقباه ، ووصل به الى القصد الذي توخاه ها ه أ- السمن : الطريق - مالوا ۳ - يكنيك 4- تحرى وقصد و عترة الرجل : السله ورهطه الاملون • ما
تصنيف:
عبقرية محمد
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/عبقرية محمد الإدارية
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→عبقرية محمد السياسية عبقرية محمد الإدارية
المؤلف: عباس العقاد ← البليغ
[66]
عبقرية محمد الادارية
ملكات شخصية
في الاسلام احكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الادارة كما نسميهم اليوم .. وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات ، کالمساناة (۱) والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شئون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام و نبسط وصايا الدين ، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع اليها ، وانما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من ملكات شخصية وسلائق (۲) نفسية ، تلازمه حيث كان مؤديا لرسالة الدين ، أو مؤديا لغير الرسالة من سائر أعمال الانسان كذلك لا يعنينا مثلا أن نتكلم عن « الادارة » كأنها نصوص المنشورات و « اللوائح » التي تدار بها الدواوين ، وتجري عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة ، فان هذه وما اليها هي أعمال منفذين مأمورين و ليست أعمال مدير ين آمين ، وانما نعني الملكة الادارية من حيث أساس في التفكير : من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الادارة كلها على أسس قويمة ، ثم بدع لغيره تفصيلات الأضابير (۳) والأوراق • فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة (4) أن يؤسس ادارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة . أما السليقة المطبوعة على انشاء الادارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام، وتعرف التبعة ، وتعرف الاحتصاص بالعمل ، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه . وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما تكون : كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج الى تدبير " ومن حديثه المأثور : ماذ! خرج في سفر فليؤمروا (5) أحدهم » المأثورة : انه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة هي < 6 ثلاثة ومن أعماله [67]+
B ( قوما وهم < د للخليفة أذا أصيب من تقدمه بما يقعده عن القيادة ، وكان قوام الرئاسة والامامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة ، وهما الكفاءة والحب : « أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم : أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين » . ور أيما رجل أم له كارهون لم تجز (۱) صلاته أذنيه وكان إلى عنايته باسناد الأمر الى المدير القادر عليه ،حريصا على تقرير التبعات في الشئون ما كبر منها وما صغر ، على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال : « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته : فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها (۲) وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » وقد كانت أوامر الاسلام و نواهية معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصارا كانوا أو مهاجرين ، ولكنه عليه السلام لم يدعي النفسيه حقا في اقامة الحدود ، واكراه الناس على طاعة الأوامر ، و اجتناب التواهي غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلا من المشركين غضب عليه السلام ، وقال فيما قال من حديثه المبين : «۰۰ فمن قال لكم ان رسول الله قد قاتل فيها فقولوا : أن الله قد أحلها الرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة ولما أراد أن يصادر الخمر ، نهي في ذلك منهجا يقصد به الى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال : « أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آتيه بمدية ، فأتيته بها ، فأرسل بها فأرهفت (۳) ثم أعطانيها فقال أغد علي بها . ففعلت ، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق (4) الخمر قد جلبت من الشام . فأخذ المدية (2) مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها ، وأمر الذين كانوا معه أن يترك أحدا 6 6 ا- تتخطى ؟ - زوجها ۳ - أي رقق معها - الرق العملاء • ۹۷ [68]9 6 يمضوا . و يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد معي فيها زق خمر الا شققته ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقا الا وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ، و يبين الحلال فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه المسلمين من منهم و من لم يتفقه في الدين ، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام ، وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل ، ولكنها مسألة أدارة وتنفيذ في مجتمع حافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء ، ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوی وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان ، فلم يكتف النبي عليه السلام بصريح التحن يسم في القرآن ، ولا أكتفي باسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام ، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلا بعينه وأناسا بأعينهم أن يمضوا في اتمام عمله ، ولم يجعل ذلك أذنا لمن شاء أن يفعل ما شاء وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الامن والنظام ، و توطيد (1) أركان الشريعة والقانون ، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاما هو أجمع لوجوده الصواب في هذه المسألة من قول النبي : « السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا ولا طاعة ». ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت : « ۰۰۰ الا تنازع الأمر أهله الا أن تروا كفرا بواحا (۲) عند كم من الله فيه برهان » ومن قوله : « الامام الجائر خير من الفتنة ، وكل لا خير فيه ، وفي بعض الشر خیار ، و من قوله : « أن الأمير اذا أبتغي الريبة (۳) في الناس أفسدهم » الى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الادارة الحكيمة ، والخملط السليمة المستقيمة ، بين أمر ومأمور نظام وفوق النظام سلطان ، وفوق السلطان پر هان من الشرع والعقل لا شك فيه ، وجميع أولئك على سماحة لا تتسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء 4 4 & ا- تثبيت 5- غير مفطور - التهمة والشك و ۹۸ [69]د هذا الالهام النافذه السديد في تدبير المصالح العامة ، وعلاج شئون الجماعات ، هو الذي أوحي إلى الرسول الأمي قبل کشف الجراثيم ، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول هو قبل العصر الحديث بعشرات القرون ، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء
نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد ، حيث قال : « اذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، واذا " وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فتلك وصية من ينظر في تدبيره الى العالم الانساني بأسره ، لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد ۰۰ اذ ليس أصون (۱) للعالم من حصر الوباء في مكانه ، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها تدبير الشئون العامة على أن الادارة العليا انما تتجلى في تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع ، فليست الادارة كلها نصوصا وقواعد يجري الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشئون على نسق (۲) واحد ، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك . وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في جلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام ، فما عرض له أم من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها الا أشار فيه بأعدل الآراء ، وأدناها الى السلم والارضاء - صنع ذلك القبائل على أيها يستأثر باقامة الحجر الأسود في مكانه شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة ، ولا تؤمن عقبی (۳) الفصل فيه بایثار احدى القبائل على غيرها ، ولو جاء الايثار من طريق المصادفة والاقتراع ، فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره الحاضر الوقت ولقيل النيب المجهول ، فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه ، وكان تدبي حين اختلفت ، و هو 6 3 ا- امغظ ۲- نظام وترتیب ۲ - أي عاقبة . 11 [70]من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان ، وأن ينسلف الدعوة وهي مكنونة في طوايا الزمان ، ولو علموا بها يومئذ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنان (۱) - وصنع ذلك هاجر من مكة المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته و نزوله ، وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة فترك لناقته خطامها (۲) تسير ، ويفسح الناس لها طريقها حتی بر کت حيث طاب لها أن تبرك ، وفصلت فيما لو فصل فيه انسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة (۳) لا تؤمن عقباها بعد ساعتها ، ولو أمنت في تلك الساعة على دخل (4) وسوء طوية (2) وصنع ذلك فضل بالغنائم أناسا من أهل مكة الضعيف ایمانهم على الناس من الأنصار الذين صدقوا الاسلام وثبتوا على الجهاد ، فلما غضبه المفضولون لم يكن أسرع منه الى ارضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها ، بل تريه انه هو الغالب الكاسبه و انها تصيب منه المقنع والاقناع في وقت واحد : أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة (1) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا وو كلتكم إلى اسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار کلام مدير فيه الادارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين فهو مدير حين تكون الادارة تدبير أمور ، ومدير حين تكون الادارة تدبير شعور ، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق اليها الاختلال ، لأنه يسوسها بالنظام و بالتبعة ، و بالاختصاص و بالسماحة ، وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها لاختلال او انحلال، أو لخطل (۷) في ادارة الأعمال D و ا- بغض ؟ - زمامها ۳- اي جريحة 4 - مكرود نية 1 - المراد ، متاع دنيوي زائل لام فساد Y.
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/البليغ
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ عبقرية محمد الإدارية البليغ
المؤلف: عباس العقاد ← محمد الصديق
[71]
البليغ
«اللهم هل بلغت» ! هنه اللازمة (۱) التي رددهسا النبي في الطول خطبه الأخيرة ، وهي خطبة الوداع - وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها ، لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات ، فما كانت حياة النبي كلها بعملها و قولها وحركتها وسكونها الا حياة تبليغ و بلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله عليه السلام وهو يجود بنفسه : و جلال . الرفيع فقد بلغت ! ، ۰ ولصدق هذه الدلالة ترى أن السمة (۲) الغالية على أسلوب النبي في كلامه المحفوظ بين أيدينا هي سمة الابلاغ قبل كل سمة أخرى بل هي السمة الجامعة التي لا سمة غيرها ، لأنها أصل شامل لما تفرق من سمات هي منها بمثابة الفروع • وكلام النبي المحفوظ. بين أيدينا : اما معاهدات ورسائل كتبت في حينها ، واما خطب و أدعية ووصايا وأجوبة عن أسئلة كتبت بعد حينها وروعيت الدقة في المضاهاة بين رواياتها جهد المستطاع والا بلاغ هو السمة المشتركة في أفانين (۳) هذا الكلام جميعا ، حتی ما جرى منه مجرى القصص ، أو مجرى الأوامر الى المرؤوسين ، أو مجرى الدعاء الذي يلقنه المسلم ليدعو الله انظر مثلا الى قصة أصحاب الغار الثلاثة وترسلهم
بصالح الأعمال وهي كما جاء في مختار مسلم : بينما ثلاثة نفر يتمشون اخذهم المطر فاووا الى غار في جبل ، فانحطت على فم غارهم صخرة من الدبل فانطبقت عليهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا علتموها صالحة على مثاله ا [72]ذات وانه ای (۲) بي t 3 لله فادعوا الله تعالى بها ، لعل الله يفرجها عنكم ، فقال أحدهم: اللهم انه كان لي والدان شیخان كبيران ، وامراتي ، ولي صبية صغار أرعى عليهم . فاذا أرحت (۱) عليهم حلبت ، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني الشجر فلم آت حتى أمسيت ، فوجدتهما قد ثاما ، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من تومهما ، وأكره أن أسقي المبية قبلهما والصبية يتضاغون (۳) عند قدمي ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم (4) حتى طلع البنجر فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ترى منها السماء .. ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء « وقال الآخر : اللهم انه كانت لي ابنة عم احببتها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وطلبت اليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار . فتعته حتى جمعت مائة دينار ، فجئتها بها د فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله ! اتق الله ولا تفتح الخاتم (5) الا بحقه ، فقمت عنها ، فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة . ففرج لهم « وقال الآخر : اللهم اني كنت استأجرت أجيرا بفرق (1) ارز ، فلما قضى عمله قال : أعطني حقي ، فعرضت عليه فرقة فرغب عنه قلم ازل ازرعه حتى جمعت مثه بقرا ور عامها فقال : اتق الله ولا تظلمني حقي ! قلت : اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال : اتق الله ولا تستهزيء بي لا استهزيء بك . خذ ذلك البقر ورعاءها ! فأخذه وذهب به و فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فافرج النا ما بقي « ففرج الله ما بقي توجيه الأمراء والولاة هذا أسلوبه عليه السلام في التعليم بالقصص فانظر إلى أسلوبه في توجيه الأمراء والولاة كما جاء في مختار مسلم حيث قال : « كان رسول الله أذا أمر أميرا على جيش او ! ! فقلت : اني ا- المراد ، عدت من عملي ليلا ؟ - بعد ۳ - يخرجون من الجوع 4 - حالي ومالهم و كناية عن فض البكارة - اناء يسع ثلاثة اصع ، ۷۲ [73]& t 1 ، فان هم سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (۱) ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا واذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين ، و أخبرهم أنهم ان فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين فان أبوا (۲) أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء (۳) شيء ، الا ان يجاهدوا المسلمين أبوا فسلهم الجزية ، فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . « واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة (4) وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فانكم ان تخفروا (5) ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله « واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ، فأنت لا أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، ۰ وهذا أسلوبه عليه السلام في تعليم الولاة بالأوامر والوصايا • فانظر الى أسلوبه في الرسائل من رسالته إلى النجاشي حيث قال : سلم انت ، فاني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن ابن مریم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول (1) الطيبة الحصينة (۷) فحملت فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بیده و نفخه و واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله « وقد بثت اليك ابن عمي تدري 3 ، الملك عیسی بعیدی جعفرا و نفرا معه من المسلمين ا- تخونوا ۲- رفضوا ۲ - الخسراج والغنيمة - عهد و تلقفوا العهد - المنراء او المنقطعة الى الله عن الدنيا ۷ - العنيفة ، ۷۳ [74]فاذا جاءك فأقرهم ودع (۱) التجبر ۰۰ فاني أدعوك وجنودك إلى الله فقد بلغت و نصیحت فاقبلوا نصحي « والسلام علی من اتبع الهدی ، • المعاهدات والمواثيق أما أسلوبه في المعاهدات والمواثيق : فهذا طرف (۲) مما جاء في كتابه عليه السلام بين المهاجرين والأنصار واليهود • المهاجرون من قريش على ربعتهم (۳) يتعاقلون بينهم وهم
يفدون عانيتهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين دو بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (4) الأول ، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط (2) بين المؤمنين د وينو چشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وهكذا الى آخر الكتاب تلك نماذج من كلام النبي في أربع أبواب مختلفات ، تتفرق موضوعاتها كما تتفرق القصص والأوامر والرسائل والمواثيق ولكنها كلها موسومة بسمة واحدة لا اختلاف فيها ، وهي الابلاغ أو البلاغ المبين ، وأصدق ما يقال في تعريفها ما قيل في تعريف الخط المستقيم عند أهل الهندسة : أقرب موصل بين نقطتين . فليس أقرب من هذا الأسلوب في ابلاغ الغرض منه • لا كلفة ولا غموض ولا اغراب ، وقلة الغريب - بل ندرته - في كلام النبي أجدر (1) الأمور بالملاحظة في اقامة المثل والنماذج الأساليب البلاغة العربية فمحمد العربي القرشي الناشيء في بني العالم بلهجات < i اس ترك 3- جالب او جزء ۳- ربعتهم : امرهم الذي كانوا عليه 4 - المعاقل : الديات و المحل ۹ - أحق واولى . Y4 [75]مراجعة وم 4 القبائل حتى ما تفوته لهجة قبيلة نائية (۱) في أطراف الجزيرة لم يكن في كلامه كله غريب يجهله السامع او يحتاج تبيانه إلى ذلك انه يريد أن يبلغ أو يريد أن يصل الى سامعه ، ولا يريد أن يقيم بينه و بين السامع حاجزا من اللفظ الغريب أو المعنى الغريب ، ومن ذلك ما روي عنه عليه السلام : انه كان يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه ، وأنه كان يبغض التكلف والاغترار بالبلاغة كما قال : « أن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل (۲) بلسانه تخلل الباقرة (۳) بلسانها ، . وقد عرف عن النبي عليه السلام في حياته الخاصة والعامة أنه كان قليل الكلام ، معرضا عن اللغو ، لا يقول الا الحق وان قاله في مزاح . فمن ثم لا عجب أن يخلو كلامه من الحشو والتكرار والزيادة ، فاذا كرر اللفظ بعينه كما جاء في بعض المعاهدات فذلك أسلوب المعاهدات الذي لا محيص عنه ، لأن تكرار النم يمنع التأويل عند اختلافه ، فهو أيضا سمة من سمات الابلاغ على سبيل التوكيد والتحقيق ، أو على سبيل الإعادة التي روي أنه كان يتوخاها عليه السلام أحيانا ليعقل عنه كلامه وفي كتابه الى النجاشي زیادة من أسماء الله الحسنى ومن الاشارة الى المسيح وأمه لم تؤثر في الكتب الأخرى ، ولكنها ألزم ما يلزم في خطاب ملك مسيحي يراد منه أن يفهم كيف تتفق صفات الله والمسيح في دينه وفي دين المسلمين الذي يدعى اليه ، وكيف يبتني طريق المقابلة بين العقيدتين اذا شاء ما على الرسول الا البلاغ وهذا البلاغ في التعبير : كل كلمة تصل إلى سامعها ، وكل كلمة مقصودة بمقدار ولا زخرف ولا حيلة ولا مشقة متعمل (4) في ابتغاء التأثير ، الا الابلاغ الذي يليق بالرجولة والكرامة ، و على المعرض بعد ذلك وزر الأعراض سجع كحلية الذهب وكان عليه السلام يكره « سجع الكهان » الذي يخدعون به 6 5 - هو اس بعيدة ؟ - فله شق الساله ۳ - الباقر : المسنجر في العلم و المراد ، متكلفه Yo [76]6 6 السامع ليوهموه أنه يستمع إلى طلاسم السحرة والشياطين ولكنه لم يكن يأبی (۱) السجع بتة ولا يخلو كلامه من سجع يأتي على السجية (۲) ، ويغلب أن يكون ذلك فيما يرتل (۳) علانية کالأذان وما هو في حكمه ، أو فيما يحفظ من الوصايا الجامعة كقوله : « ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرطه ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط قضاء الله حق ، وشرط. الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق » أو قوله : « ان الله حرم علیکم عقوق الأمهات ووأد البنات ، ومنعا
وهات ، وكره لكم قیل و قال ، وكثرة السؤال ، واضاعة المال » • ومذهبه في هذه الحلية اللطيفة مذهبه في كل حلية تليق بالرجل : فحولة (2) في القول وفحولة في الزينة ، فسجيه عليه السلام كحلية الذهب التي يليق بالرجل أن يتحلى بها ، ولا مزيد كتب اليه أبو سفيان كتابا يقول في آخره: «۰۰۰ نريد منك نصف نخل المدينة ، فان أجبتنا الى ذلك والا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار : تجاوبت القبائل من نزار النصر اللات في البيت الحرام وأقبلت الضراغم (2) من قريش على خیل ممسومة (6) ضرام (۷) فأجابه بكتاب جاء فيه : « وصل كتاب أهل الشرك والنفاق ، والكفر والشقاق ، وفهمت مقالتكم ، فوالله ما لكم عندي جواب الا أطراف الرماح وأشفار الصفاح (۸) ، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام (۹)، و بفلق الهام (۱۰) وخراب الديار ، وقلع الآثار فهذا السجع في هذا المقام أصلح لخطاب الجاهليين ، لأنهم يعرفون منه معنی التوثيق والتمكين ، كما يعرفون منه معنی المناجزة والتخويف . ومن هنا أقر النبي نص الحلف الذي كان بين جده وخزاعة على ما كان به من سجع وتفخيم يجعلونهما موثقا تعقد به المواثيق وتؤکد به الحرمات 6 6 وهذا نصه : ا- يرفض ۴- اي دون تكلف ۲ - الترتيل ، الترسل والتبيين - المراد ، رجولة و الاسود ۲- معلمة - اي تشعل نار الحرب ۸ - المقصود ، حدود السيوف ۹. السيف ولا - الرؤوس " V ۷ [77]4 94 و باسمك اللهم ، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة حلفا جامعا غير مفرق : الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر علی الاصاغر ، والشاهد على الغائب : قد تعاهدوا وتعاقدوا أو کد عهد ، وأوثق عقد ، لا ينقضن ولا ينكث ما أشرقت شمس على شبیر (۱) ، وحن بفلاة بعير ، وما أقام الأخشبان (۲) واعتمر بمكة انسان : حلف أبد لطول أمد ، يؤيده طلوع الشمس شدا ، وظلام الليل مدا ، وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متضافرون متعاونون على عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على طالب ، وعلى خزاعة سرة لعبد المطلب وولده ومن معه على جميع العرب في شرق أو غرب، أو حزن أو سهل ، و جعلوا الله على ذلك كفيلا، و کفی به حميلا هذه أمثلة السبع الذي فاه (۳) به الرسول أو أقره من كلام غيره، وما أه من تجميل الكلام فهو تجميل الابلاغ الذي لا كلفة فيه وقد أعانه عليه السلام على أسلوب الابلاغ أن الذين كانوا يستمعون اليه انما كانوا يستمعون الى كلام نبي محبوب مطاع، فهو نافذ في نفوسهم بغير حيلة، مستجمع لأسماعهم بنير تشویق ، قائم بالكفاية الوسطى التي لا حاجة بها الى افراط ولا خوف عليها من تفريط أما رسائله الى الملوك والأمراء - ممن لم يسلم ولم يهتد - فانما كانت للابلاغ أول الأمر ، ثم يأتي بعدها التفسير والتفصيل على السنة المرشدين والموكا بالاجابة يسألونه عنه ، كذلك قائمة على كفاية الا بلاغ، تلك الكفاية الوسطى التي لا افراط فيها ولا تفريط ونقول أن الأمرين أعانا النبي على أسلوبه المبلغ البليغ، ولا نقول انهما أنشأه و اوحياه فان الحوار القليل الذي حفظه لنا من أيام الدعوة الأولى قبل استفاضة (4) الدين واقبال الأتباع و قد كانت له صبغة هذا الأسلوب بعينه غير ظاهر فيها أثر من الكلفة والاصطناع.. لأن مصدر الفحولة في الابلاغ ثقته ، فهي المؤمنين ا- جبل بمكة - جبلا مكة ۳ - تكلم به شيوعد وانتشاره ۷ [78]< بقوله لا ثقة المستمعين اليه ، فكلامه كله نسق (۱) واحد في هذه الخصلة ، وخطابه كله خطاب سهولة وكرامة ، وسياقه كله مطواع لا أحتيال فيه، ووصاته لمن يقتدي به : أن يقصر الخطبة، ويقل الكلام كما كان يقول لمن يبعث بهم من الولاة ولا يفهمن من هذا أن مقتضيات الكلام لم يكن لها أثر في اختلاف الوضع أو اختلاف الموقف وهو يخاطب الناس ، فقد كان عليه السلام يلاحظ هذا الاختلاف ، و يعطيه حقه ، كما كان يفعل حين يتكيء على قوس وهو يخطب في الحرب، أو يتكيء على عصا وهو يخطب في العظات . و كان يبدو على وجهه ما يختلج بصدره اذا غضب أو أنذر « فكان اذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جیش : صبحكم مساكم R - أسلوب عصري ولمن شاء أن يحسب أسلوب النبي - كتابا وخطابا - أسلوبا عصريا يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان .. لأن الأسلوب الذي يخرج من الفطرة المستقيمة هو أسلوب عصري في جميع العصور ، و يخطيء من يحسب الوصل بين الجمل شرطا للكلام العربي القديم والفصل بينها علامة من علامات الأساليب المبتدعة (۲) في الزمن الأخير " و يخطيء كذلك من يحسب قبول الاشارات الترقيم (۳) علامة أخرى من علامات هذه الأساليب فاليك الحديث الذي نقلناه آنفا و مو مثل من أمثلة كثار ، حيث يقول عليه السلام : « ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط. ليس في كتاب الله فهو باطل ، وان كان مائة شرط : قضاء الله حق ، وشرط الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق هذا الحديث رضي البلاغة العربية في وصله وفصله ، ورضی الأسلوب المصري في اشارات ترقيمه ، و آية على خطأ الذين يفر قون بين شروط البلاغة العربية ذلك النحو من التفريق الكلام « < ا- ترتيب ونظام ؟- المستحدثة ۳ - العلامات التي توضع بين الجمل او في نهايتها الفاصلة ، وعلامة الاستفهام والتعجب ۲۰۰ الخ . ۷۸ [79]6 رأي النبي في الشعر وقد نقلت الينا تعقيبات معدودة عن رأي النبي في الشعر والشعراء لا تدخل في النقد الفني ، وتدخل في كلام الأنبياء الذين يقيسون الكلام بقياس الخير والصلاح و المطابقة الشعائر الدین و سنن الصدق والفضيلة . و منها قوله : « اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : « ألا كل شيء ما خلا الله باطل »، ، وقوله عن امریء القيس ، أنه صاحب لواء الشعراء الى النار ، وأنه كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله مع بقاء المعنى المقصود ، فكان يقول مثلا : « ويأتيك بالأخبار من لم تزود » لأنها لا تقبل التبديل مع بقاء المعنى ، ولكنه اذا نطق بقول سحيم عبد بني الحسحاس : «كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا ، قدم كلمة الاسلام فقال : « كفي الاسلام والشيب للمرء ناهيا » لينفي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد ، و أن سور القرآن قصائد مرتلات كما المشركون » • وقد استحسن ما قيل من الشعر في النصح (۱) عن الاسلام والذود (۲) عنه وعن آله ، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحملون من كلام ، لأنهم قد بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح ، ولم يبعثوا ليلقنوهم دروسهم في قواعد النقد والانشاء $ زعم .
المعاني جوامع الكلم الا ان الابلاغ أقوى الا بلاغ في كلام النبي هو : اجتماع الكبار في الكلمات القصار ، بل اجتماع العلوم الوافية في بضع كلمات ، وقد يبسطها الشارحون في مجلدات ومن أمثلة ذلك : علم السلوك في الدنيا والدين وقد جمعه كله في أقل من سطرين قصيرين من قوله : « احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا » • ومن أمثلته : علم السيامية الذي اجتمع كله في قوله : « كما تكونوا يول عليكم
< ا- نفح البيت ، رشه بالماء 2 - الدفاع و ۷۹ [80]t فأي قاعدة من القواعد الاصيلة في سياسة الأمم لا تنطوي بين هذه الكلمات ؟ ينطوي فيها : أن الأمم مسئولة عن حكوماتها ، لا يعفيها من تبعة (۱) ما تصنع تلك الحكومات عذر بالجهل او عذر بالاكراه ، لأن الجهل جهلها الذي تعاقب عليه ، والاكراه ضعفها الذي تلقی جزاءه . وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الأمة ، لا بالتظ والاشكال التي تعلنها الحكومة ، فلا سبيل إلى الاستبداد بأمة تعاف (۲) الاستبداد ولو لم يتقيد، فيها الحاكم بقيود القوانين ولا سبيل إلى حرية أمة تجهل الحرية ولو تقيد فيها الحاكم بألف قيد من النظم والاشكال وينطوي فيها : أن الولاية تبع تابع وليست بأصل اصیل ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، و أحرى ألا يغير الوالي قوما حتى يتغيروا هم قبل ذلك و ينطوي فيها : « أن الأمة مصدر السلطات » على حد تعبير الحديث ، وينطوي فيها : أن الأمة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال وذلك هو الابلاغ الذي ينفذ في وجهاته كل نفاذ ويلحق بهذا في العلم بالتبعات قوله عليه السلام الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل » فالمزايا الانسانية واجبات وأعباء ، وليست بالمتع والأزيام ، وعلم الانسان بالخير والشر يفرض عليه الفرائض التي يبتلي بها ، ولا يهنئه بالراحة التي يصبو اليها ، وهو محسوب عليه وكذلك ذكاؤه محسوب عليه . وأمثال هذه الأحاديث في أصول السياسة والاخلاق والاجتماع ما لا يتناوله الاحصاء في هذا . كان محمد فصيح اللغة فصيح اللسان فصيح الأداء وكان بليغا مبلغا على اساس (۳) ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية ، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين ، بل قدوة المرسلين - و أشد 6 المقام ا- مسئولية 2- تكره ۳ - السلس ، السهل و ۸۰
========
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/محمد الصديق
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ البليغ محمد الصديق
المؤلف: عباس العقاد ← محمد الرئيس
[81]
محمد الصديق
عطوف ودود
اذا كان الرجل محبا للناس ، أهلا لحبهم اياه ، فقد تمت له أداة الصداقة من طرفيها . وانما تتم له أداة الصداقة بمقدار ما رزق من سعة العاطفة الانسانية و من سلامة الذوق ، ومتانة الخلق ، وطبيعة الوفاء يحب الناس ليحبوه ، لأنه قد يحبهم وفي ذوقه نقص ينفر هم منه ويزهدهم في حبه ولا يكفي أن يكون محبا سليم الذوق ليبلغ من الصداقة مبلغها فقد يكون محیا محبوبا حسن الذوق ثم يكون نصيبه من الخلق المتين والطبع الوفي نزرا (۱) ضعيفا لا تدوم علیه صداقة ، ولا تستقر عليه علاقة : انما تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية والذوق السليم ، والخلق المتين ، وقد كان محمد في هذه الخصال جميعا مثلا عاليا بين صفوة خلق الله . كان عطوفا ير أم (۲) من حوله و يودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته ، وان تفاوت ما بينه و بينهم من سن وعرق (۳) ومقام :۰۰ .. كان صبا في الثانية عشرة سافر عمه ، فتعلق به حتى أشفق العم أن يتر که وحده فاصطحبه في سفره وكان شيخا قارب الستين يوم بكي على قبر أمه بكاء لا ينسی وليس في سجل المودة الانسانية أجمل ولا أكره من حنانه على مرضعته حليمة ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين ، فيلقاها هاتفا بها : أمي ! أمي ! ويفرش لها رداءه ويمسر ثديها بيده ۰۰ ا- قليلا ۲- أي يرحم ۳ - أمل • 41 [82]عم كانه يذكر ما لذلك الثدي عليه من جميل ، ويعطيها من الايل والشاء ما يغنيها في السنة الجد باء (۱) • ولقد وفدت عليه هوازن و هي مهزومة في وقعة حنين و فيها له من الرضاعة لاجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبي الى المسلمين أن يردوا السبي من نساء وأبناء ، واشتري السبي ممن أبوا رده الا بمال وحضنته في طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته ، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية ما يشغل الأب من أمر بتاته ورحمه ، فقال لأصحابه : « من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن وما زال يناديها يا أمة كلما . رآها وتحدث اليها ، وربما رآها في وقعة قتال تدعو الله وهي لا تدري كيف تدعو بلكنتها (۲) الأعجمية ، فلا تنسيه الوقعة الجاز بة (۳) أن يصغي اليها و يعطف عليها 6
ورحم وكان هذا عطفه على كل ضعيف، ولو لم يذكره بحنان الطفولة الرضاع ، فما نهر خادما ولا ضرب احدا ، وقال انس : د خدمته النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فيما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تر تزكته ؟ • وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسا ، صافي القلب اذا كره شيئا رؤي ذلك في وجهه ، واذا رضي عرف من حوله رضاه وقد اتسع عطفه حتی بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ، ولا على الناس من غير ذوي الرحم ، فكان يصفي (4) الاناء للهرة لتشرب ، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه ، واوصى المسلمين : « أذا ركبتم هذه الدواب فاعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شيالين» وكرر الوصاية بها أن « اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة و كلوها مصالحة وقال : « ان الله غفر لامرأة مومسة (5) مرت بكلب على راس رکی (6) يلهث قد كاد يقتله العطش ، فنزعت خقها فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » .اي قليلة الخيرات - الكية ، عجمة في اللسان وعي ۳- اي العامية الشديدة 4- بميل ق - فاجرة 1- بكر .
& AY [83]هي وقال في هذا المعنى : « دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش (۱) الأرض » • لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء ، فكانت له قصعة يقال لها الغراء ، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمي ذات الفضول ، وكان له ... شعرج يسمى الداج ، و بساط الكز ، وركوة تسمی الصادر ومرآة تسمى المدلة ، ومقراض يسمى الجامع ، وقضيب يسمى الممشوق وفي تسمية تلك الأشياء بالاسماء معنی تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين ، كأن لها « شخصية » مقربة تميزها بين مثيلاتها ، كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح و بالکنی (۲) والألقاب پشمی الألفة التي هي هذه العاطفة الانسانية التي رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها ، لم تكن . أداة الصداقة في تلك النفس العلوية بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلا ، ويتمثل - فيما يرجع الى علاقات النبي بالناس - في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود • و كان اذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه ، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه ، واذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله اياها ، فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يتزع يده منه « و كان اذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده « و كان أرحم الناس بالصبيان والعيال « واذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته » « و كان أشد حياء من العذراء في خدرها . واصبر الناس على أقدار الناس . يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضر هم و يقول لمحبه : « من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في التار r C ا- حشرات ۲ و جمع كنية ، ۸۲ [84]العاطفة الانسانية والذوق السليم والأدب الكريم : سمت(۱) جميل ، و نظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس في أجمل مرآه ، ومع هذا كله ، أمانة يثق بها العدو فما بسال الصديق ؟ وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات و هم يناصبونه العداء ، فلم يخرج للهجرة وهو مهدد في سربه (۲) حتی رد الأمانات إلى أصحابها، وقد يكون في ردها ما ينبههم الى خروجه ويأخذ عليه سبيل النجاة ، وهذا الي اشتهاره بالأمانة في صباه حتى سمي بالأمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها : مثال هذه الصفات + + + . الكبير 6 كل هذه المزايا النفسية - بل بعض هذه المزايا النفسية - خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أو في تمام ، وأن يجعله محبا لمن حوله جديرا منهم بأحسن حبه وولاء. فلم يعرف في تاريخ العظمة - لا بين الأنبياء ولا غير الأنبياء - انسان ظفر بنخبة (۳) من الصداقات على اختلاف الاقدار والبيئات والأمزجة والاجناس كالتي ظفر بها محمد ، ولم يعرف عن انسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب تقدم في بعض فصول هذا الكتاب حدیث زید بن حارثة الذي خان من أهله و هو صغير ، ثم اهتدى أليه أبوه ، واهتدي هو الي أبيه على لهفة الشوق بعد اس طویل ، فلما وجب أن يختار بين الرجعة إلى آله و بين البقاء مع سيده « محمد » اختار البقاء السيد على الرجعة مع الوالد ، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذي غمره بحبه ومواساته ، وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه (4) ولا يدري من هم ذووه وكان لا يغني من لازموه أن يلزموه في الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم اياه بعد الممات ، فضعف مولاه ثوبان و نحل جسمه وألح عليه الحزن في ليله ونهاره ، فلما سأله السيدة العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال في طهارة الأبرار : « اني اذا لم ارك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة ، فذكرت الآخرة حيث 4 4 ا- ميلة - نفسا ۳ - خيار الأصحاب - اعله ، AC [85]6 لا أراك هناك ، لأني أن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين فلا أراك » ورويت هذه القصة في أسباب نزول الآية الكريمة : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (۱) وأدرك الموت بلالا فأحاط به أهله يصيحون واكر باه وهو يجيبهم : « واطرباه غدا ألقى الأحبة : محمدا وصحبه ۰۰! » • وقد عنينا مما تقدم بحب الصداقة بين الانسان والانسان لأننا لم نقصد حب المؤمن لنبيه في هذا الباب . فقد بلغ من امتلاء قلوب المسلمين والمسلمات بهذا الحب أن المرأة كانت تسمع أنباء المعركة ، فينعي (۲) اليها خاصة أهلها وهي تسترجع (۳) وتعرض عن هذا لتسأل عن النبي ، و تهتم بسلامته قبل اهتمامها بسلامة الأخوة و بني الأعمام، الا أننا عنينا (4) محبة الصداقة في هذا الباب لأنها هي المحبة التي جعلت كثيرا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم اياه واطمئنانهم اليه ، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والايمان 4 عظمة العظمات ان عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها مقام العظيم في نظر بني الانسان ولكن قد يقال : أن استحقاق العظيم أن يحية العظماء لأشرف من ذلك رتبة و أدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان صحیح وهنا أيضا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار ، تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة و عظمة الرأي وعظمة الهمة ، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة و تنهض به أمة ، كما أثبت التاريخ و هذا ديب فيه & 4 ا- الاية 19 من سورة النساء و النمي ، غير الموت ۳ - اي تقول ، انا لله وانا اليه راجعون - قمنا . ۸۰ [86]6 6 والزبير من سير ابي بكر ، وعمر ، وخالد ، و أسامة ، وابن العاص ، وطلحة ، وسائر الصحابة الأولين • وربما عظم الرجل في مزية من المزايا ، فأحاط به الاصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية ، كما أحاط الحكماء بسقراط والقادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواریون بالمسيح عليه السلام و كلهم من معدن واحد، و بيئة متقاربة .
* *
4 كلهم تلاع بلا ريب أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجذب (1) اليها الأصحاب النابغين من كل معدن و کل طراز (۲) ، وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي ، و بين عمر وعثمان ، و بين خالد و محاف ، وبين أسامة وابن العاص : عظیم، و كلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه المنظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها ، حتی أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق ، و أصبح فيها قطب (۳) جاذب لكل معدن ، وأصبحت تجمع اليها البأس (4) و الحلم ، والحيلة والصراحة، والألمعية (5) و الاجتهاد وحنكة (6) السن وحمية الشباب تلك عظمة المنظمات ، ومعجزة الاعجاز في باب الصداقات . وما استحقها محمد الا بنفس غنيت بالحبه ، وخلصت وحتی أعطت كل محب لها كفاء ما يعطيها : مودة بمودة وصفاء بصفاء ، و عليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا بما هداهم اليا من نور العقل ونور البصيرة ، وهما أشرف من نور البصر لأنه نعمة يشترك فيها الانسان والعجماوات ، و نور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الانسان، و مع هذا كان ينكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر « ما أحده أعظم عندي يدا۔۔ من أبي بكر : واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته ، و كما قال عن أبي بكر وعمر : «ابو بکر و عمر مني بمنزلة السمع والبصره وكما قال عن علي : «علي أخي في الدنيا والآخرة، و كما قال عن 6 9
أ- تشد ؟ - هيئة وشكل ۲ - قطب الرمی : مديدة في الطبق الأسفل من الرحيين يدور عليها الطبق الأعلى 4 - الشدة ه- الالمعي : الذكي المتوقد ۶ - حنكة السن : الرجل اهكمته التجارب و ۸۹ [87]
1 بعض أصحابه : أن الله تعالى أمرني بحب أربعة، و أخبرني أنه يحبهم : على منهم ، وابو ذر ، والمقداد ، وسلمان » وكما قال عن الأنصار جميعا وهو في مرض الموت : راستوصوا بالأنصار خيرا انهم عيبتي (1) التي أويت اليهم ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم » ۰۰۰ وغير ذلك كثير من الصحابة كافة وعن بعضهم مذكورين بأسمائهم
6 الانساني 9 على أننا نلمس دلائل هذا الفؤاد الرحب ، وهذا العطف الشامل في معاملته لأعدائه وشانئیه (۲) فضلا عن معاملته للأصفياء ، ومن ليس بينهم وبينه عداء ولا صفاء • فما ثأر من أحد أساء إليه في شخصه ، وقد عفا عن رجل هم بقتله وهو نائم ، ورفع السيف ليهوي به ، فسقط من يده على كره منه، وما حارب قط أحدا كان في وسعه أن يسالمه و يحاسنه ويتقي شره . ومعاملته لعبد الله بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه رأس النفاق مثل من أمثلة الإغضاء (۳) والصفح الجميل : فقد عاهد و غدر ، ثم عاهد وغدر و عاش ما عاش يكيد للنبي في سره و يماليء (4) عليه أعداءه، وشاع أن النبي عليه السلام قضى بقتله فتقدم ابنه وقال له: «یا رسول الله، أنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فان كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني ، واني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني (2) نفسي أنظر إلى قاتل ابي يمشي في الناس ، فاقتله ، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار » • فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به ، وزاد في افضاله واجماله فكافأ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وايثاره البر بدينه على البر بأبيه ، فأعطاه قميصه الطاهر يكفن به أباه ، وصلى عليه میتا ووقف على قبره حتى فرغ من دفنه ، وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصلاة على ذلك العدو الذي آذاه جهد (1) الايذاء فذكر ، الآية : م أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر أ. عيبة الرجل ، موضع مره 2- كارهية والحاقدين عليه ۳ - غض الطرف : خفضه ، او احتمل المكروه من با بالكناية - يساعد ه- تتركلي - جد في الايذاء وبالغ 4 6 AY [88]لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (۱)۰۰ ، فقال : « لو أعلم اني ان زدت على السبعين غفر له زدت »
* *
هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة والسماحة ما أعجب اتهامها بالقسوة على ألسنة بعض المؤرخين الأوربيين ! ما أعجب اتهامها بالقسوة لأنها دانت أناسا بالموت كما يدين القاضي مجرما بذنبه وهو من أرحم الرحماء !.. ما أعجبهم اذ يذكرون العقوبة و ينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب السبب النتيجة وأي ذنب ؟ ذنب لو قوبل به غير محمد لأراق فيها أنهارا من الدماء وله حجة من سلطان الدنيا والآخرة . فلا نذکر استهزاء المشركين به واعناتهم (۲) اياه والقاء هم عليه القذر والحجارة وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه ، و اخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار ، ولا نذكر العناد والاغاظة والاستثارة لغير جريرة (۳) الا انهم دعوا إلى عبادة الله، والتحلي بمكارم الأخلاق ، و ترك عبادة الأصنام ، وترك الرذيلة 4 6 لا نذكر شيئا من هذا فهو أطول من أن يحصيه هذا الكتاب ولكننا نذكر حادثا واحدا تجمع فيه من اللؤم ما تفرق في كثير غيره ، وذلك حادث الرسل الاربعين - وقيل : السبعين - الذين قتلوا في بئر معونة ولا ذنب لهم الا أنهم ذهبوا تلبية لدعوة الداعين ليعلموا من ينشد علم القرآن والذين ، غير منصوب (4) عليه . فماذا كانت دول الحضارة صانعة بالقاتلين الغادرين لو كان هؤلاء الاربعون أو السبعون مبشرين بالدين المسيحي، قتلوا في قبيلة من الهمج الذين يأكلون الآدميين ومن حقهم أن يعذروا كما تعذر الوحوش ۰ ۰ ان بقي من أبناء القبيلة من يروي أنباء المقبلة ، فقد يقال ان القوم لرحماء في العقاب ؟ ا- الآية { من سورة التوبة 1. العنت : الوقوع في امر شاق ۳ - ذئب - مكره M [89]$ ولم يكن حادث بئر معونة بالحادث الوحيد من حوادث الغدر بالرسل الأبرياء ، فلعلنا نختم هذا الفصل عن الصداقة ، بخير ما يختم به، حين نشير الى غدر قبيلة هذيل بالرسل الستة الذين ذهبوا اليهم ليعلموا من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره ، لا اکراه له ولا بغي(۱) عليه ، فقتلوا جميعا ، وجيء بأحدهم زید بن الدثنة أسيرا ليباع۰۰ فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، و نصب للقتل ، فسأله أبو سفيان مستهزئا : « أنشدك الله يا زيد - أتحب أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك ؟ فأجابه زيد : « والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وانا جالس في أهلي » فصاح ابو سفیان دهشا : «ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدی ۰۰۰ من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب الأصدقاء ومدى ما أستحقه أعداؤه من جزاء ، فقد أحب أصدقاءه وأحبوه، لأنه طبع على الصداقة ، أما أعداؤه فقد لقوا جزاءهم ، لأنهم هم طبعوا على العداء والاعتداء . . ا- عدوان ۸۹
===========
عبقرية محمد (1941)/محمد الرئيس
[90]
محمد الرئيس
الرئيس الصديق
من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس ، بعد كتابتنا عن محمد الصديق ، لأنه هو قد جعل للرئاسة معنی الصداقة المختارة فمحمد الرئيس هو الصديق الأكبر لمرؤوسيه ، استطاعته أن يعتز بكل ذريعة (۱) من ذرائع السلطان فهناك الحكم بسلطان الدنيا • وهناك الحكم بسلطان الآخرة • وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة وكل أولئك كان لمحمد الحق الأول فيه : كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه ، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه اكفا كفؤ وأوقر مهیب ولكنه لم يشأ الا أن يكون الرئيس الأكبر ، پسلطان الصديق الأكبر سلطان الحب والرضا والاختيار فكان أكثر رجل مشاورة للرجال ، و كان حب التابعين شرطا عنده من شروط الامامة في الحكم بل في العبادة ، فالامام المكروه له مدة وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه • فروي أنه كان في سفر ، وأمر أصحابه باصلاح شاة ، فقال رجل : يا رسول الله ! علي ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي طبخها فقال عليه السلام : وعلي جمع الحطب ، فقالوا : يا رسول الله تكفيك العمل ، قال : علمت أنكم تكفونني ، ولكن أكره أن . لا ترضي
< ا- وسيلة 1 1. [91]و "
فأحسب أتميز عليكم ، أن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه . وایی ، و المسلمون يعملون في حفر الخندق حول المدينة ، الا أن يعمل معهم بيديه ، ولولا أنها سنة حميدة يستنها للرؤساء في حمل التكاليف الأعفی نفسه من ذلك العمل و أعفاه المسلمون منه شاکرین - وجعل قضاء حوائج الناس أمانا من عذاب الله أو كما قال : « أن الله تعالی عبادا اختصهم بحوائج الناس ، يفزع اليهم الناس في حوائجهم . أولئك الآمنون من عذاب الله » وقد كان أعلم الناس أن الأعمال بالنيات ، ولكنه علم كذلك و ان الأمير أذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم » فوكل الضمائر الى اصحابها والى الله ، وحاسب الناس بما يجدي فيه الحساب سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج اليهم قائلا : إنما أنا بشر وانه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض أنه صدق ، فأقضي له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم فانما قطعة من النار فليأخذها أو فليتر کھا : واليوم يكثر اللاغطون (۱) بحرية الفكر ، و يحسبونها کشفا من كشوف الثورة الفرنسية وما بعدها ، ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا به ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كلامهم وعملهم ما يخالف الشريعة - فهذا الذي يحسبونه کشفا من كشوف العصر الأخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنا ، وشرعه لأمته في أحاديثه حيث قال عليه السلام : « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به » وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المسلحين المحدثين لم يسبقوا اليها وهي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط الى غيرها فقال : و أن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه ، أن رحمتي تغلب غضبي ، وقال : « أن الله تعالی رفیق ، يحب الرفق 8 هي
f هي و + اللقط : الصوت والجلبة ۹۱ [92] وروی
ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف و وقال : « أن الله تعالى لم يبعثني معنا ولا متعنتا ، ولكن بعثني معلما میسرا » عنه صاحبه من أصحابه انه ما خير بين حكمين الا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه خرق (۱) للدين وكان دومي بالضعفاء و يقول لصحبه : « أبغوني الضعفاء فانما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ويتم الترفع (۲) على الخدم والفقراء « فما استكبر من أكل مع . خادمه ، وركب الحمار بالأسواق واعتقل (۳) الشاة فحلبها » . لكنه مع الرحمة بالصغير لا ينسى حق الكبير : « من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا .. . اذ ليس الانصاف حراما على الكبراء ، حلالا لمن صفر دون من كبر ، فلكل حق ولكل انصاف ، وانزال الناس منازلهم كما أمر قومه ، وهو خير شعار تستقيم عليه الحكومة وتنعكس أمور الأمم بانعكاسه
|
+ € و كان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرءو سین وليست للموافقين منهم دون المخالفين ، فيأمر قومه أن : « اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافرا فانها ليس دونها حجاب » واذا قال هذا رئیس و نبي ، فانها الأولى السنن أن يتبعها الرؤساء كافة ، لأنهم لم يبعثوا لنشر الدين ومحفو الكفر كما بعث الأنبياء لقد كانت سنة الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة ۰۰ فلو استغني حكم عن الشريعة ، لاستغني عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعية ا- أي مخالفة ؟ - التهالي ۳- اي فيدها حتي جلبها +
=====
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/الزوج
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ محمد الرئيس الزوج
المؤلف: عباس العقاد ← الأب
[93]
الزوج
حق المرأة الكلام عن زوج يستدعي الكلام عن مكانة امرأة عند رجل وعن مكانة النساء عامة عند الرجال عامة وانما تعرف مكانة المرأة التي وصلت اليها بفضل محمد ودينه ، متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره وبين أمم أخرى غير الأمة العربية وقياسان اثنان كافيان لبيان الفارق البعيد بين ما كانت عليه المرأة في الجاهلية ، وما صارت اليه بعد رسالة محمد : كانت متاعا يورث ، ويقسم تقسيم السوائم (۱) بين الوارثين فأصبحت بفضل الاسلام ونبيه صاحبة حق مشروع ، ترث وتورث ولا يمنعها الزواج أن تتصرف بمالها و هي في عصمته كما تشاء - وكانت وصمة (۲) تدفن في مهدها فرارا من عار وجودها أو عبئا تدفن في مهدها فرارا من نفقة طعامها ، فأصبحت انسانا مرعي (۳) الحياة ، ينال العقاب من ينالها بمكروه . ولم تكن في البلاد الأخرى بأسعد حظا منها في البلاد العربية • فلا نذر کر شرائع الرومان واستعبادها النساء ، ولا نذكر المتنطسين (ع) في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم اياها من الروح وكفي أن نذكر عمر الفروسية الذي قيل فيه انه عمر المرأة الذهبي بين الأمم الأوربية ، وان الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال فهذا العصر كان كما قال الدارسون الحصان قبل أن يكون عمر المرأة أو عمر « السيدة المفداة t c . عمر ا- المواشي ؟ - أي عار ۲- يلقي الزعاية 4 - البالغين + ۱۳ [94]وقد اجمله جون لانجدون دانيز صاحب « التاريخ الموجز للنساء ، فقال : « آن عصر الفروسية كان معروفا بما لحظ فيه من فقدان الشبان على الجملة الاهتمام بالجنس الآخر ، ولعلنا نقل من الدهشة لذلك لو أننا وعينا كلمة الفروسية وذكرنا أنها لم تكن ذات شأن بالسيدات كما كانت ذات شأن بالخيل على خلاف پروق الكثيرين أن يذكروه ، فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية الا على اعتبار أنها عنوان ضيعة » Auseis .. الى القارىء محادثة من كتاب أغاني الآداب والتحيات chanson de deste يروي فيها : أن ابنة أوسيس جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان - هما جاران وجر برت - وقال أحدهما : « انظر . انظر با جر بيرت : وحق العذراء ما أجملها من فتاة ! دون أن يلتفت بوجهه وعاد صاحبه يقول مرة أخرى : « ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة ، ما أجمل هاتين العينين السوداوين !» وانطلقا وجر برت يقول: «ما أحسب أن جوادا قط يماثل هذا الجواد » وهي حادثة صغيرة ولكنها واضحة الدلالة ، إذ قلة الاهتمام تورث الازدراء (۱) والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الازدراء : واليك مثلا حادثة في الكتاب المتقدم يروي فيها : ان الملكة بلا نشفلور ذهبت الى قرينها الملك بيبن Pepin تسأله معونة أهل اللورين ، فأصغي اليها الملك ثم استشاط (۲) غضبا، ولطمها على أنفها بجمع يده فسقطت منه أربع قطرات من الدم، وصاحت تقول : « شكرا لك . أن أرضاك هذا فاعطني من يدك لطية أخرى حين تشاء ، . ولم تكن هذه حادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرا ما تتكرر كأنها صيغة محفوظة وكأنما كانت اللطمة بقبضة
*
ام الاحتقار - اي احترق [95]اليد جزاء كل امرأة جسرت (۱) في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة ومتی كانت المرأة تزف الى زوجها عند الساعة وكثيرا با تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك ، اما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري ، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع •ومتی كانت بعد زفافها الى فارس مجنون بالحرب معطل الذكاء قد يكون في معظم الأحوال من الأميين - عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة - أترى سيدة القصر أذن واجدة لها رحمة أو ملاذا من حياة الشقاء ، أو من صحبة قرين ليس لها بأهل ؟، ۰ $
$ 6 a ولقد تقدم الزمن في الغرب من المصور المظلمة الي عصور الفروسية إلى ما بعدها من طلائع العصر الحديث ولا تبرح المرأة في منزلة مسفة (۲) لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية .. ففي سنة ۱۷۹۰، بیعت امرأة في اسواق انجلترا بشلنين ، لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها • و بقيت المرأة إلى سنة ۱۸۸۲ ، محرومة حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة وكان تعلم المرأة سية (۳) تشمئز منها النساء قبل الرجال ، فلما كانت اليصابات بلاكويل تتعلم في جامعة جنيف سنة ۱۸۶۹ - وهي أول طبيبة في العالم - كان النسوة المقيمات معها يقاطعنها ويا بين أن يكلمنها ، ويزوین (۶) ذيولهن من طريقها احتقارا لها ، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها ولما اجتهد بعضهم في اقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الامريكية ، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة انها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء وهكذا تقدم الغرب الى أوائل عصرنا الحديث ، ولم تتقدم المرأة فيه تقدما يرفعها من مراغة (5) الاستعباد التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية اي تجرات ۳- اي وضيعة محقرة ۳ - عار 4 - يجمعن ويقبض ه- مراغة الابل : المكان الذي تتمرغ فيه 6 د & و t = ه 10 [96]
€ فماذا محمد ؟ وماذا منعت رسالة محمد ؟ حكم واحد من أحكام القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء(۱) ما فرض عليها : «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف (۲)» وحكم آخر من أحكامه العالية أمر المسلم باحسان معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة (۳) عند زوجها : « وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (4) ». وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما يكسب الرجال : « للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (5) ولم يفضل الرجل عليها الا بما كلفه من واجب كفالتها واقامة اودها والسهر عليها . أما محمد فقد جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم . أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقاء وخياركم خياركم لنسائهم وأمر بمداراة ضعفها و نقصها لأن « المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فان استمتعت بها استمتعت بها و بها عوج ، وان ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها ، وأوجب على الرجل أن يتجمل لامرأته ، ويبدو لها في المنظر الذي يروقها (1) ، فقال عليه السلام مما قال في هذا المعنى وهو كثير : « اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا ، فان بني اسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤه وأوجب على الرجل اذا خطب امراة أن يظهرها على عيبه ان كان به عيب مستور : « اذا خطب أحدكم المرأة و هو يخضب (۷) بالسواد فليعلمها انه يخضب » وبلغ من رعاية شعورها ومداراة خجلها الذي فطرت عليه أنه أوجب الرجل أن يمتعها كما تمتعه، لأنها لا تطلب لنفسها ما يطلبه الرجل منها: «فاذا جامع أعد كم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها (۸) حتى تقضي حاجتهاء 6 9 6 .هم ! ا- اي جراء ؟- منزلة - الآية : ۲۲۸ من سورة البقرة - الآية 19 من سورة النساء و الاية 31 من سورة النساء - يعميها ويسرها ۷ - اختضب بالحناه ولعوه كالصيغة 4 - معالجة 11 [97]. وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق، فقال مما قال في هذا المعنى : «اذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمشط الشعثة (۱) •• الكيس، الكيس (۲)!» معاملته لزوجاته وانما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معاملاتهم الزوجاتهم ، وهو دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير فكان يشفق أن بينه غير باسم في وجوههن ، ويزورهن جميعا في الصباح والمساء ، واذا خلا بهن « كان ألين الناس ضحاکا بساما» كما قالت عائشة رضي الله عنها - ولم يجعل من هيبة النبوة سدا رادعا بينه و بين نسائه ، بل انساهن برفقه وايناسه (۳) أنهن يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين • فكانت منهن من تقول له أمام أبيها : « تكلم ولا تقل الا حقا ۰۰۰» و من تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها ، و من تبلغ في الاجتراء (4) عليه ما يسمع به رجل كعمر بن الخطاب في شدته فيعجب لهم ، و يهم بأن يبطش بابنته حفصية لأنها تجتري كما يجترياء الزوجات الأخريات ، وإذا رأى النبي غضبا كهذا من جرأة كتلف كف من غضب الأب وقال له : ما لهذا دعون ناك ! وقد كان يتولى خدمة البيت معهن ، أو كما قال : « خدمتك زوجتك صدقة » و كان يستغفر الله فيما لا يملك من التسمية بين احداهن وسائرهن و هو میل قلبه : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك » ولما أقعده مرض الوفاة أن يزورهن كل يوم عودهن بعث اليهن فتلطف في سؤالهن : « أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ » ۰۰۰. ليقلن عند عائشة و يأذن له في الاقامة ببيتها ، ولو انه أحل لنشه أن يقيم حيث أقام وهو مريض لما كان في ذلك من حرج والمعاملة الطيبة في الزمن الطويل خلق نادر بين الناس ، و لكنه في حالة الرضي خلق لا يشق فهمه على كثيرين ته كما >> 9 ا- الاثمعته ; المغير الراس او الجليد الشعر - حيت على الجماع ، اوم عله حال الحيض ۲- مؤامسة - التجرؤ ۹۷ [98]الا أن الخلق الذي يشق فهمه على الأكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية لأخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاء ، في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما تتسامی فلا نخالها تحلم بمعاملة أطيب ولا أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة عائشة بنت الصديق وهي أحظى (۱) نسائه لديه، و نلخصها مما روته بلسانها اذ تقول رضي الله عنها: كان رسول الله اذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه ، فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله معه ، وأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، ثم قفلنا(۲) من الغزوة الى أن دنونا من المدينة، فقمت حين آذنوا بالرحيل فتمشيت حتى جاوزت الجيش وقفيت من شاني، و أقبلت الى الرحل فلمست صدري فاذا عقدي قد انقطع، فرجعت ألتمسه (۳) نجسني ابتغاؤه ، وأقبل الي الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي وهم يحسبون اني فيه، وكانت النساء اذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، انما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه اذ كنت ذالك جارية حديثة السن « ووجدت عقدي فجئت منازل الجيش وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت (4) منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون الي « فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، و كان صفوان ابن المعطل السلمي قد عرس (5) من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد انسان نائم، فعرفني حين رآني واسترجع، فاستيقظت وخصرت (1) وجهي بجلبابي ، ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه (۷) حتى أناخ راحلته وركبتها وانطلق يقودها حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا في نحر الظهيرة • « فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبيه عبد الله ابن ابي بن سلول . . ما و امه اعظمهن مكانة 2. اي رجعنا - اطلبه وابحث عنه - قصيدت و - غزل في اخر الليل الاستراحة 4 - غطيت ۲. قوله : أنا لله وانا راجعون WA [99]واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك (۱) ولا أشعر بشيء من ذلك و پر يبني(۲) في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي انما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول : كيف تيكم (۳) فذالك ير يبني ، و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نتهت (4) و خرجت معي أم مسطع قبل المناصع ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها (5) ، فقالت : تعس مسطح ! » قلت : بئس ما قلت ! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ , قالت : أي هنتاه ! أو لم تسمعي ما قال ؟ و قلت : وماذا قال ؟ و فأخبرتني بقول أهل الاقك ، فازددت مرضا الى مرضي ، فلما رجعت الى بيتي ، فدخل علي رسول الله ، فسلم ثم قال : كيف تیکم ؟ استأذنت أن آتي أبوي : أريد أن أتيتن الخبر من قبلهما، . 4
قه فأذن لي و و قالت أمي : يا بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة (6) عند رجل يحبها ولها ضمانر الا كثرن عليها . و قلت : سبحان الله ! و قد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ (۷) لي دمع ، ولا اكتحل بنوم .و دعا رسول الله علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أمله ، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله ، و بالذي يحلم في نفسه لهم من الود . و قال لرسول الله أهلك ولا نعلم الا خيرا « و أما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك ، و النساء سواها كثير ، وأن تسأل الجارية تصدقك « فدعا رسول الله بريرة يسألها : هل رايت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ان رأيت عليها أمرا قد .
هم go - الكدب - يشككني ۳- اي كبشه احوالكم 4 - مححت م مرمي :- کساء مر صوت او حزر يؤترر به ۹ حسية جميلة و يسكن • ۱۹ [100]a و بكيت يومي
و تو بي
أغممه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتاتي الداجن فتأكله ذلك لا قالي دمع ولا اكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم ثم جلس و تشهد
ثم قال : أما بعد ، يا عائشة ، فاني قد بلغني عنك كذا وكذا فأن كنت بريئة فسيبر ئك الله ، وان كنت ألمت (۱) بذنب فاستغفري الله اليه فان العبد اذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه « فلما قضى رسول الله مقالته قلم (۲) دمعي حتى ما أحس منه قطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ! فقال : والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله « فقلت لأمي : أجيبي عني . فقالت كذلك . والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله « قلت - وانا جارية حديثة السن لا أقرا كثيرا من القرآن - اني والله لقد عرفت انكم سمعتم بهذا ، حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به : فان قلت لكم : اني بريئة ، والله يعلم اني بريئة ، لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم اني بريئة التصدقونني ، واني والله ما أجد لي ولكم مثلا الا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون « ثم تحولت فاضطجعت على فراشي فوالله ما رام (۳) رسول الله مجلسه ولا خرج من أمل البيت أحد و حتی أنزل الله عز وجل على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (4) الوحي ، حتى أنه ليتحدر (۰) منه مثل الجمان في اليوم الشاتي فلما سرى عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال :« أبشري يا عائشة !.. اما الله نقد بر أك « قالت لي أمي : قومي اليه 4
. ق 4 عنتر >> . - الموت - ارتفع والزوی ۳. ما برح . الجهد و بتنزل عرفه ۰ [101](9 >> تلك هي t 4 « قلت : والله لا أقوم اليه ، ولا احمد الا الله ، هو الذي أنزل براءتي .. و كان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ، فأقسم لا ينفق عليه شيئا أبدا ، فأنزل الله عز وجل : « ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربی إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم (۱) ؟ » « فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، ورجع الي مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه » • القصة التي عرفت بقصة الإفك كما روتها لنا السيدة عائشة رضي الله عنها ، وهي مسبار (۲) صادق يسبر لنا أغوار المروءة والرفق في معاملة النبي لزو چاته حيث لا رفق ولا مروءة عند الأكثر ین ، فليس النبي هنا في حالة من حالات الرضى التي تسلس (۳) الطباع ولا تستغرب معها المودة وطول الأناة (4) ، ولكنه في حالة من تلك الحالات التي تثير الحمية وتثير الحب ، وتثير النقمة ، وتثير في النفس البشرية كل ساكنة تدعو إلى طبيب المعاملة ، فلم يكن في هذه الحالة الا كرما خالصا بما سلك في أمر نفسه وفي أمر أهله وفي أمر دينه ، ولم يدع لحالم من حالمي الحضارة الحديثة مرتقي يتطلع اليه في جميع هذه الغابات - سمع النبي حديثا يلاك بين المنافقين و يسري الى المسلمين بل الى خاصة ذويه الأقربين : حديثا يسمعه رجل كعلي بن ابي طالب في پره و کرم ندیز ته (2) فلا يري بعده حرجا من الطلاق والنساء كتيرات سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة ولم پر فضه بغير بينة ، و كان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها فعادها و به من الرفق والانصاف ما یابی عليه أن بفاتحها في مرضها بما يخامر (6) نفسه الكريمة ، و به من الموجدة (۷) والترقب ما أبي عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به و النشس صافية كل الصفاء ، وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفي و أن تأتيه البينة فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة ، ولا يعجله لفطر الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما تو جبه الحمية وما توجبه المروءة في آن ا- الآية 52 من سورة النور 2- السبر : امتحان غور الجرح وعيره ۳۔ تلسین 4 - الحلم و طبیعه 1- يخالط ۷ - الحزن د 4 الى حين 4 ا.ا [102]4 أحمي سمعي 9 . < + و سأل من ينبغي أن يسأل : عليا واسامة وهما بمقام ولديه و بربرة الجارية التي تعرف عائشة و تخلص لسيدها كما تخلص السيد تها ، وضرة لعائشة تنافسها و تكاد أن تضارعها (۱) في حظوتها لديه : زینب بنت جحش التي كانت اسرع من يقول لو علمت شيئا يقال ، فاستعاذت بالله وقالت :« و بصري ، و الله ما علمت الا خيرا » واتصل الحديث بعائشة فاستأذنته في زيارة أهلها ، وأن له أن يفاتحها وقد وصل النبأ الى سمعها ، ولم يئن له قبل ذلك و هو کاظم ما في فؤاده قادر على كتمانه مخافة أن يؤذيها بغير حق و هي تشكو سقامها . فاتحها لتبريء نفسها أو تستغفر الله و غضبت غضب البريء المشكوك فيه ، وانها لبريئة في نظر كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش ، و في وضح النهار ، ولغير ضرورة ، ومع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي و غضب المسلمين و غضب الله ، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة ، فكيف بها في مكانها المعلوم • الا أن النبي أراد لها البراءة أمام الخلق عامة ، و أمام نفسه المحبة ، حذرا أن تكون تبرئته اياها عن محبة وضعف لا عن تبين واستيثاق (۲) ، فلما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة ، كان قد وفي الكرم والحمية والانصاف والرحمة أجمعين نعم وفي الرحمة حتى باللاغطين المتعجلين الذين أبدأوا وأعادوا في ذلك الحديث المريب ، وما أحد أرحم ممن يرحم المفترون على سمعة أهله وهناءة بيته وامان سر به ، ولا يعذر الناس أحدا كما يعذرون نبيا مطاعا ينال في عرضه فینال بالعقاب العدل من استحقوه • . سماحة الكريم ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد بن أبي سلول كان أكبر اللاغملين بحديث الافك ا- اي تصاويها 1- توثق [103]& . عبد عن سوء نية و كيد مبيت للنبي ودينه ، و كان هذا الرجل كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب بغيضا الى المسلمين ، متهما عندهم ، يتوجسون (۱) منه و يسمونه راس المنافقين ولا يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله ، فما ضر النبي لو خلی بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته (۲) ويحاسبونه على کیده ، وينقمون لعرض النبي منه ليأمنوا شره ، ويجملوه عبرة الغيره ؟ واذا قيل : أن عبد الله بن أبي كان من أصحاب العصبية التي يحسب حسابها وتتقي بوادرها (۳) ، فلماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله ؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن على أن العصبية التي كان . بن أبي يلوة (4) بها لم تكن لتحميه عقاب النبي لو اراده بعقاب ولو كان أصرم (2) عقاب .. فما من عصبية هي الرجل و أولى بالذود عنه من ولده المشهور ببره وقد اسلفنا ان ولد عبد الله قد تطوع لقتله قيل له أن النبي يهدر (1) دمه ويقضي بموته • أنما انما السماحة التي شملت مسطحا كما شملت كبير المنافقين ، وخرجت من حديث الافك كله بالعفو عن جميع المسيئين ، مخلصين في الرأي و غير مخلصين ، وهي التي سبرت غورا في قصة هذا الحديث فتكشفت عن أطيب معاملة للزوجات في أحرج الحالات، وتلك المعاملة الطيبة في مثلها الأعلى ، معاملة لا تتبدل بعد أيام وشهور ، بل تطول مدى السنين ، و تطول مدى السنين مع نساء مختلفات لا مع امرأة واحدة ، وتطول في الحالات ومنها حالة الألم البالغ ولا تنحصر في حالة الرضی والطمأنينة ، وأقل من ذلك أمنية يتمناها الحالمون بالوئام بين الأزواج في العصر الذي وصفوه بعصر المرأة ، لفرط ما أطلب (۷) فيه المطنبون من اكبار شأنها والدعوة الى انصافها . أقرب الى رحم سماحة الكريم هي هي هي ا- يضمرون الخوف ؟ - التراثه وكتبه ۳ - خطاها وسقطاتها علنها تحتد 4 - ای يحتمي و- اي أشد - يييع ۷ - المثب الرجل : أتى بالبلاغة في الوصف من مسة كان أو ذميا . [104]هنا يعرض النا الغضبا، 4 6 5 تعدد الزوجات الكلام عن تعدد زوجات النبي وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالاسلام فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام وذكروا منها ما يزعمونه منافيا الشمائل النبوة ، مخالفا لما ينبغي أن يتصف به هدأة الأرواح السيف والمرأة ! كأنهم يريدون أن يجمعوا على النبي بين الاستسلام والاستسلام للهوى ، و كلاهما بعيد من صفات الأنبياء . أما السيف فقد أسلفنا الكلام فيه أما المرأة فالظنة (۱) فيها أضعف من الظنة في السيف على ما تراه ، لأن الاستسلام للشهوة آخر شيء يخطر على بال الرجل المحقق د مسلما كان أو غير مسلم - حين يبحث في تعدد زوجات النبي ، و فيما يدل عليه ذلك التعدد ، وفيما اقتضاه قال لنا بعض المستشرقين : أن تسع زوجات لدليل على فرمل الميول الجنسية قلنا : انك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية قط، فلا ينبغي أن تصف محمدا بأنه مفرط الجنسية Oersexed لأنه جمع بين تسع نساء و نحن قبل كل شيء لا نرى ضيرا (۲) على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها ، هذا سواء الفطرة (۳) لا عيب فيه، وما من فطرة أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى ، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى : أرأيت الى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي الوفا من الفرا سخ ليصل الى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه (4) ؟ أرأيت إلى العصفور وهو يبني عشه و يعود من هجرته إلى وطنه ؟ ار ایت الى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير و النحل بنقل لقاحه ؟ Undersexed لأنه لم يتزوج ، 8 هي ا- التهمة - اي فررا ۲ - الحلقة 4 - من حيت اني • [105]6 4 أرأيت الى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء ؟ ما سنتها ان لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين ؟ و این یکون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء ؟ فحب المرأة لا معاية فيه ۰۰ هذا هو سواء الفطرة لا مرام • وانما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوانه (۱) وحتى يشغل المرء عن غرضه ، وحتي يكلفه شططا (۲) في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة ، يعاب كما يعاب الجور في الطباع. فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ، ثم يقع في روعة (۳) أن المرأة شفتله عن عمل كبير أو عن عمل صغير ؟ من من بناة التاريخ قد بني في حياته وبعد مماته تاريخا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية والدول الاسلامية ؟ ومن ذا الذي يقول ان هذا عمل رجل مشغول ؟ شغلته المرأة ؟ ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شاو (۶) محمد في مسعاه ؟ فان كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقهاء ويعطي المرأة حقها ، فالعظمة رجحان وليست بنقص ، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب ، ورسالة محمد اذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة ولم يخلقوا ناپذین (2) لها ولا منبوذين منها ، فليست شريهة هؤلاء بالشريعة المطلوبة فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور واعجب شيء أن يقال عن النبي أنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلق نساءه ، أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن اليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها - فقد شكون على فخر هن بالانتماء اليه س. انهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة ، واجتمعت كلمتهن على الشكوى واشتددن فيها حتى وجم (6) النبي و هم بتسريحن (۷) ، أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح . 4 ا- اي حد العمل والاعتدال - اي بعدا ۲. قلبه وعقله 4 - غاية 5- النبذ : طرح الشيء 6 - الواجم : الذي اشتد حزنه حتى امسك عن الكلام ۷ - بتطليقهن . [106]6 < > وذهب اليه ابو بکر پوما « يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم . ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده فوجدا النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساکتا ، فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسري عنه ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة ! سألتني النفقة فقمت اليها فوجأت (۱) عنقها » فضحك رسول الله وقال : من حولي كما ترى يسألنني النفقة !.. فقام أبو بكر الى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ويقولان : تسألن رسول الله ما ليس عنده » • فقلن : لا والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده » . ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة و عشرين يوما ، فنزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي يا أيها النبي قل لأزواجك أن کنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسردکن سراحا جميلا ، وان كنتن تر دن الله ورسوله والدار الآخرة فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (۲) فبدا الرسول بعائشة فقال لها : « یا عائشة ! اني أريد أن اعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك » قالت : « وما هو يا رسول الله ؟ » فت عليها الآية قالت : « أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟.. بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة » ثم خير نساءه كلهن فأجبن كما أجابت عائشة ، وتنعن بما هن فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها علام يدل هذا ؟ نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة ، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه ؟ اما كان يسيرا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال (۳) والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين ، وهم موقنون أن ارادة الرسول من ارادة الله ۰۰۹ أ. اي ضربت ۲ - الآيتان ۲۸، 8 من سورة الأحزاب ام العالم ، [107]6 وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال أنه كان يفر له في میله الى النساء ؟ هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سنته، أو يخالف ما يحمد من سيرته ، او يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه ؟ لم يكلفه شيئا من ذلك ، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها ولم نر هنا رجلا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون ، بل راینا رجلا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه .. فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه (۱) ضريبة مفروضة عليه ، ولو كانت هذه الضريبة بسطة (۲) في العيش قد ينالها اصغر المسلمين ، ولا شك في قدرة النبي عليها لو اراد رجل الجد والرصانة وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرحي أوربا فلا نرى الا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم نرى رجلا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ، ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء ، ثم يقال انه رجل غلبته لذات جسه ! ونرى رجلا تألیت (۳) عليه نساؤه، لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلين بها لعينيه ثم يقال أنه رجل غلبته لذات حسه ! • ونرى رجلا اثر معيشة الكفاف (4 ) و القناعة على ارضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه، ثم يقال انه رجل غلبته لذات حسه ؟ ذلك كلام لو شاء المشرون أن يرسلوه كلاما مضحكا مستغربا الأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح ، أو لعله أقبح فلاح ! ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط (2) فيه الظنون ذلك الخبط الذريع (1) - محمد كان معروف الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية ، كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة كان معروفا من مياه الي كهولته ، فلم يعرف عنه أنه استسلم 6 ! ا- حل ؟ - اي سعة ۳ - ای تجمع عليه - القوت الضروري - اي تضرب - العریع و ۱۰۷ [108]9 من اللذات الحس في ريعان صباه ، ولم يسمع عنه انه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح .. بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة (۱) • وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه ، والناعين عليه ، والمنقبين وراءه عن أهون الهنات (۲): تعالوا یا قوم قانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم الى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات .. كلا.. لم يقل أحد هذا فقط شانتيه وهم عديد لا يخفي ، ، ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان الف قائل ولما بنى بأولى زوجاته - خديجة - لم تكن لذات الحس في التي سيطرت على هذا الزواج، لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، و نيف (۳) على الخمسين ، و أوتي الفتح المبين ، وليس له من زوجة غيرها ولا من رغبة في الزواج بأخرى ، ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء المرء للذات حس ، او ذکری متاع جمیل ، لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي احب نسائه اليه ، و كانت عائشة تغار منها في قبرها ، فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها قالت له مرة : هل كانت الا عجوزا بدلك الله خيرا منها ، فقال لها منضبا : « لا والله ما ابدلني الله خيرا منها - آمنت اذ كفر الناس ، وصدقتني اذ كذبني الناس ، وواستني بمالها آذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء . فلهذا أحب خديجة، ووفي لها، وفضلها ولم يمح ذكراها من نفسه قط من أعقبتها من الزوجات الفتيات : وفاء قلب، وليست الذات حس ، ولا ذكری متاع جميل 4 أسباب تعدد زوجاته ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة، لكان الأحجی (4) بارضاء هذه الملذات أن يجمع النبي اليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية ، فيسرعن اليه راضيات ا- الرصين : الممكم القابت ۲ - اي الرست ۲ - زاد - الامر ۱۰۸ [109]& فخررات ، وأولياء أمورهن أرضي منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة ، لكنه لم يتزوج بكرا قط غير عائشة رضي الله عنها، ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حکیم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة : قالت عائشة رضي الله عنها : «لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حکیم امرأة عثمان بن مظعون للنبي : « أي رسول الله !.. ألا تتزوج ؟ » قال : و من ؟ » قالت : « أن شئت بكرا وان شئت ثيبا ؟» قال : « فمن البكر ؟ » • قالت : « بنت أحب الناس اليك عائشة بنت أبي بكر قال : « فمن الثيب ؟ » قالت : « سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك » ثم كانت أولى النساء اللاتي بني بهن بعد وفاة خديجة ، و كان زوجها الأول - ابن عمها - قد توفي بعد رجوعه من الهجرة الى الحبشة ، وكانت هي من أسبق النساء الى الاسلام فأمنته و هجرت أهلها ونجا بها زوجها الى الحبشة فرارا من اعنات (۱) المشركين له ولها ، فلما مات لم يبق لها الا أن تعود الى أهلها فتصبا (۲) وتؤذي، أو تتزوج بغير كفؤ ، أو بكفؤ لا يريدها فضمها النبي اليه حماية لها ، وتأليفا لأعدائه من آلها . و كان غير هذا الزواج أولى به لو نظر الى الذات حس ، ومال الى متاع و كانت للنبي زوجة أخرى و سمت بالوضاءة (۳) والفتاء (4) وهبي زينب بنت جحش ابنة عمته عليه السلام، التي زوجها زيدا ابن حارثة بأمره و على غير رضي منها ، لأنها أنفت س وهي في الحسب والقرابة من رسول الله - أن يتزوجها غلام عتيق هذه أيضا لم يكن «للذات الحس» المزعومة سلطان في بناء النبي بها بعد تطل ق زيد اياها ، وتعذر التوفيق بينهما ، ولو كان ودة هي ما ا- أي اضطهاد وظلم ۴- ترجع عن الإسلام إلى عبادة الأصنام ۳- الحسن واجمال - الشباب [110]
للذات الحس سلطان في هذا الزواج لكان أيسر شيء على النبي أن يتزوجها ابتداء، ولا يروضها(۱) على قبول زيد، وهي تأباه (۲) فقد كانت ابنة عمته يراها من طفولتها ، ولا يفاجئه من حسنها شيء كان يجهله عرض عليها زيدا وشدد عليها في قبوله فلما تجافی (۳) الزوجان ، و تكررت شكوى زيد من اعراضها عنه وترفعها عليه، واغلاظها القول له كان زواج النبي بها . حلا المشكلة ، پيتية بين ربيب في منزلة الابن ، وابنة عمة أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق أما سائر زوجاته عليه السلام، فما من واحدة منهن - رضي عنهن - الا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر (4) به المرجفون من لذات الحس المزعومة . فأم سلمة : كانت كهلة مسنة خطبها ، كما قالت له معتذرة اليه ، لاعفائه من تکليف نفسه أن يتزوجها ، جبرا الخاطرها بعد موت زوجها عبد الله المخزومي من جرح أصابه في غزوة أحد " ولما برح بها الحزن لوفاته واساما رسول الله قائلا : سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ، وأن يخلفك خيرا » فقالت : « ومن يكون خيرا من أبي سلمة ؟» فأوجب على نفسه خطبتها لأنها تعلم أنه خير من أبي سلمة ، ولأنه يعلم أن أبا بکر و عمر خطباها فترفقت في الاعتذار ، وهما أعظم المسلمين قدرا بعد النبي عليه السلام وجويرية بنت الحارث سيد قومه . كانت احدى السبايا في غزوة بني المصطلق، فتزوجها النبي ليعتقها، و يحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجا عنهم و تألفا لقلوبهم ، فأسلموا جميعا وحسن اسلامهم ، وخيرها أبوها بين العودة اليه والبقاء في حرم رسول الله فاختارت البقاء في حرم رسول الله وحفصة بنت عمر بن الخطاب: مات زوجها فعرضها ابوهاعلى ابي بكر فسكت ، و على عثمان فسكت وبث (۵) عمر أسفه للنبي فلم يكن للنبي عليه السلام أن يضن على وليه وصديقه 6 و د ا- أي يذللها - ترففیه ۳ - سب بينهما التجاني والكراهية - الهذر : الخيان واهذر في كلامه : اكثر و. ابنه سمره : اظهره له 1- الاسف : أشد الحزن ، وأسف عليه: غضب . [111]6 حفصية ه 6 بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله ، وقال : يتزوج من هو خير من أبي بكر وعثمان ورملة بنت أبي سفيان : تركت اباها لتسلم ، وتركت وطنها التهاجر مع زوجها الى الحبشة ، ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة هناك بغير عائل(۱)، فأرسل النبي إلى النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة، وضياع الأهل، وضياع القرين، فكانت النجدة الانسانية باعث هذا الزواج ولم يكن له باعث من المتعة والاستزادة من النساء ، وكان للنبي مقصد جلیل من وراء هذا الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة الى التفكير فيه وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بأصرة (۲) النسب ، عسی أن يهديه ذلك الى الدين ، بما يعطف من قلبه ، و يرضي من كبريائه • وكان اعزاز من ذلوا بعد عزة : سنة النبي عليه السلام في معاملة جميع الناس ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والاقرباء ، ولهذا خير صفية الاسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها، فاختارت الزواج منه عليه السلام هو آية الآيات في رعاية الشعور الانساني انه عليه السلام انبه (۳) صفيه (4) بلالا ، لأنه مر بها و بابنة عمها على قتلى اليهود . فقال له مغضبا : « أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما ؟، واحتقرتها زينب فلقبتها يوما باليهودية، فهجرها شهرا لا يكلمها، ليأخذ بناصر هذه الغريبة ، ويدفع عنها الضيم (2) 6
تتكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السلام عن هذه الأسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد ولا حرج - كما أسلفنا على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه ، ولكن الذي حدث فعلا أن المتعة لم تكن قط مقدمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها، وفي ابان (1) الشباب أو بعد تجاوز الكهولة . عاله : كفاه معاشه 2- رابطة - لام - مصطفاه - الذل - أي قت وحين • [112]بعد پرچوه حلب من أصدقائه وأعدائه وأخر صورة يتصورها المنصف هنا : هي صورة رجل فرغ اللذاته، وجلس ينتقي واحدة واحدة من الحسان علی. عندها من متاع ، فانما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن الى الايواء الشريف أو على . المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه و بين سادات العرب و اساسلين الجزيرة ، ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته ، حتي التي بني بها فتاة بكرا موسومة (۱) بالجمال وهي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه الا أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصیلاتها ، ولم يذكروا الا شيئا واحدا حرفوه عن معناه ودلالته، ليفتروا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه ، وذاك انه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات • نسوا أنه اتسم (۲) بالطهر والعفة في شبابه، فلم يستبع قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق ، في غير مشقة عندهم ولا معابة ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في مطلب الزواج الحلال وهو ميسر له تیسره لكل فتی وسیم حسيب منظور اليه بين الأسر و بين الفتيات ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في الأربعين اكتفى بها الى أن توقيت و هو يجاوز الخمسين ونسوا أنه اختار احسا با في حاجة إلى التالف أو الرعاية ، ولم يختر جمالا مطلوبا للمتاع ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحسد لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ، ولم يجاوز حياة القناعة قط لارضاء نسائه وارضاء نفسه ، ولو شام لما كلفه ارضاء نفسه وارضاؤهن غير القليل بالقياس الى ما في يديه نسوا كل هذا وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه السلام . فلماذا نستوه ؟ . . . ا- المراد : متصفة ۲- اتسم بكذا : عرفه به + [113]& 6 نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا، و أن يتقولوا، وأن ينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الأعضاء عنها لو أنهم أرادوها ، وتعمدوا ذكرها، ولم يتعمدوا نسيانها • الوجهة الخلقية و نستطرد الي تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية، فلا نطيل فيه ، لأننا نقصر هذا الكتاب على عبقرية محمد ، وما له اتصال بجوانب هذه العبقرية في تعدد مناحيها ، ولم نرد به أن نتناول حكمة الشريعة الاسلامية في تفصيلها ولا مسوغات (۱) الأصول الدينية على اختلافها فأوجز ما نقوله في تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية : أن النبي عليه السلام لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مباحا يختاره من يختاره وله مندوحة (۲) عنه .. وانما جعله ضرورة يعترف بها الرجل ، وتعترف بها الأمة في بعض الأحوال لأنها خير من ضرورات ، ولن ينكر هذا الا متعنت يمدم (۳) الحقائق و يتجاهل المحسوس الماثل (4) للعيان ففي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرا من الاخلاء بينهن وبين التأيم (5) و المذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة ، وكان خيرا من قطع تلك الآصرة (۹) التي وصلت بينه و بين البيوت والعشائر فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به ، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة ، بل أمم تمارس الحياة الدنيا ، و كل امام عليم بطبائع الناس أما الضرورة الاجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعا، ثم تحللت منها باباحة الزنى ، وعلاج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج ، أو خارج عن نطاق البيت والأسرة، ولو اهتدت هذه الشرائع المدنية الى حل خير من هذا الجاز لها أن تنكر تعدد الزوجات ، وتنكر أنه ضرورة أكرم من ضرورات 6 6 ا- أي مجوزات - سعة ۳ - المراد : يردها ويصدها 4 - المراد : الظاهر المرئي - العيش بدون زوج 1 - الرابطة ، [114]بذرية صالحة هي 9 فلا شك أن الجمع بين المرأة العقيم (1) او المرأة المريضة و بين غيرها أكرم لها وللمجتمع من نبذها في معترك هذه الدنيا الضروس (۲) بغير ولد و بغير زوج و بغير عاصم ، ثم هو أكرم للزوج نفسه وهو كائن حي يريد أن يصل ما بينه و بين الحياة الغرض الأكبر من كل زواج ، ولولاها لانتقف في المجتمع الانساني أساس كل زواج ولا شك أن الجمع بين المرأة المزهود فيها و بين زوجة أخرى اكرم لها وأصلح من الجمع بينها وبين خليلة أو عدة خليلات ولا شك أن تسهيل الزواج وبخاصة في أوقات الحروب التي ينقص فيها الرجال أكرم للمجتمع الانساني واصلح من تسهيل العلاقات الأخرى التي لا تنفع النوع ولا تنفع الأخلاق ، ولا ترفع مكانة المرأة في عصمة رجل أو في متناول كثير من الرجال هذا شيء جائز بل هذا شيء أكثر من جائز ، لأنه واقع لا محيد (۳) عنه ولا حيلة فيه ، و غير ملوم من يواجهه بحل أكرم من حلول شتی بل اللوم عليه أن ينظر في شئون العالم ثم يغمض عينيه عن حقائقه التي تقدم كل عين + + + ومن السهل - على من أراد أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه (۶) وترضيه ! وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يسام له و يرضى بما ارتضاه ، وقد علم هذا كل رجل واجهته مشكلة واحدة من المشكلات التي واجهت محمد باديء الرأي على غير مثال سابق يحتذيه ، الا ما ألهمه الله ماذا صنع نابليون في عصرنا الحديث ؟ وانما نضرب المثل بنابليون لأنه حضر انقلابا في الأطوار والعادات يد 4 نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية، ونعني به الثورة الفرنسية، وحضر انحدارا (ه) في الأخلاق والآداب يشبه
ا- التي لا تلد ۴- المرسل : اشتداد الزمان ۲- اي و عدول عنه - اي تعجبه و- مجسسوطا و [115]الانحدار الذي أصيب به العرب في أواخر عهد الجاهلية، واسس دولة، و نظر في سن قانون، وحاول ضروبا من الإصلاح • نابليون قد طلق امرأته، و أكره أحبار (۱) المسيحية على قبول هذا الطلاق، وقد اشتهرت له علاقات بخليلات (۲) متعددات، غير الخليلات المجهولات • ونابليون يقول عن المرأة : « لقد صنعت كل ما و سعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء ابناء الزني : الا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج ، والا أحجم (۳) الناس عن الزواج الا القليل » • « ولقد كان للرجل في العهد القديم سريات (4) الى جانب الزوجات ، ولم يكن أبناء الزنی محتقرين بين الناس احتقارهم اليوم ۰۰إنه لمن المضحك أن يحظر على الرجل الزواج بأكثر من واحدة . فتحمل هذه الزوجة الواحدة ، و كان الرجل في أثناء حملها أعزب أو عقيم 4 4 .
* *
4 - واليوم لا سريات للرجال ، ولكنهم يعاشرون الخليلات وهن أقدر على التبديد والافساد و انهم في فرنسا يخولون (2) النساء فوق حقهن من التعظيم ، وانما الواجب الا ينظر اليهن كأنهن مساويات للرجال ، فما هن في الحقيقة الا آلات لاخراج الأطفال « و قد تمردن في ابان الثورة ، و عقدن الجماعات لأنفسهن ، و بدا لهن أن يؤلفن فرقا منهن في الجيش در و كان لا بد من صدهن ، لأن المجتمع ضة للخلل والفوضى إذا ترك النساء حالة الاعتماد على الرجال و هي الحق في الحياة . نعم أن المجتمع لوشيك اذن أن يتمزق بددا (1) بغير انتهاء « و علی جنس من الجنسين أن يخضع للأخر لا محالة .. فاذا نشبت (۷) الحرب بينهما ، فلن تكون كحرب الأغنياء والفقراء البيض والسود ! الانساني عرض مكانهن . او حرب أ- أي علماء 5- عشيقات ۳ - اعرض 4 - بتري بهن ويتمتع و- أي يعطون 6 - بحده : فرقه ۲- علقت 1 و۱۱ [116]حالة الرضی ا و الا و ان الطلاق لأضر بالمرأة دون مراء(۱) ، فالرجل الذي يجمع بين زوجات لا يبدو عليه من ذلك أثر كالأثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال - انها تضمحل (۲) اذن كل الاضمحلال » كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث ، فكيف اعترف بها «لنين» في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية ؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج فلا رابطة بين الزوجين أو ثق (۳) من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق ، وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة الا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات عقوبة الزوجات ولا نختم هذا الفصل عن النبي في حياته الزوجية قبل أن نعرض لعقوبة الزوجات في الاسلام، وللعقوبة التي اختارها عليه السلام • لأن عقوبة الرجل لامرأته في حالة الغضب كمحاسنته لها في كلاهما میزان صادق لمكانتها عنده ، ومكانة المرأة عامة في تقديره والقرآن ينص على العقوبات السائغة (4) في حالة النشوز (5) وهي العظة والهجر في المضاجع، و الضرب، والتسریح باحسان : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن : فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا(6) » : «و اذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهسن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه (۷) والنبي عليه السلام لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها و عاشرها -ولم يضرب قط واحدة منهن ، ولم يرو عنه قط أنه ضرب أو نهر خادما فضلا عن زوجة ، بل روي عنه ما ينفي ذلك مما عاشروه ولاز موه . بل كان عليه السلام يكره ضرب النساء و يعيبه كما قال : يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد ؟ يضر بها أول النهار ثم يجامعها آخره !»• ا- ريب او شك ؟ - اضمحل الشيء : لهب ۲- اقوى واكد 4 - المقبولة والجائزة و بشزت المراة : استعصت على زوجها وابغضته ا - الآية : ۳۶ من سورة النساء - الاية : 23 من سورة البقرة >> « أيا o . ۱۱۹ [117]4 6 فما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فانما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره ، وقيده المفسرون بشروط تمنع الايذاء وتحصره في القدر الذي يستقيم عليه الجزاء فغاية ما يفهم من ذكر الضربا بين العقوبات أن بعض النساء يتأدين به ولا يتأد بن بغيره ، وقد يعلم الكثيرون أن هؤلاء النساء لا يكرهنه ولا يسترذلنه (۱) ، وليس من الضروري أن يكن من أولئك العصبيات المريضات اللائي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب انما العقوبة التي أثرها النبي عليه السلام هي الهجر الطويل أو القصير ، بعد العظة والعتاب الجميل - والهجر - ولا سيما الهجر في المضاجع - عقوبة نفسية بالغة، يسبق الى بعضهم عقوبة حسية ، تؤلم المرأة لما يفوتها من سرور و متعة فان فوات السرور والمتعة أياما لا يؤلم المرأة هذا الايلام الذي يجعل الهجر في المضاجع من أصعب العقوبات 6 وليست كما دون الطلاق = لا يتحقق قال الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في كتابه نداء للجنس اللطيف : « أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها و يشق عليها هجره اياها ، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش ، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع وانما يتحقق بهجر الفراش (۲) نفسه ، وتعمد هجر الفراش (۳) أو الحجة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى ، وربما يكون سببا لزيادة الجفوة ، وفي الهجر في المضجع نفسه معنی بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه ، لان الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية ، فتسكن نفس كل من الزوجين الى الآخر ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك ، فاذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجی أن يدعو ها ذلك الشعور والسكون النفسي الى سؤاله عن السبب و بهبط بها من نشر المخالفة الى صف الموافقة ، و كأني بالقاریم وقد جزم بأن هذا هو المراد ، وان كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الاحياء » او استرذله : ضد استجاده 2 و المقصود بالفراش هنا : الوطء 3 - المقصود بالفرات هنا : السرير ونحوه * 4 ۱۱۷ [118]. والذي نراه أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق من هذه العقوبة النفسية ، وأن الحكمة في ايثارها أعمق جدا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ فأبلغ العقوبات ولا ريب : هي العقوبة التي تمس الانسان في غروره و تشككه في صميم كيانه : في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط (۱) وجوده وتكوينه
* *
د CC والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل ، ولكنها لا تأسی (۲) لذلك ما علمت أنها فاتنة له ، وأنها غالبته بفتنتها ، وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق اليها ورغبة فيها فليكن له ما شاء من قوة ، فلها ما تشاء من سحر وفتنة وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم ، وحسبها أنها لا « تقاوم » بديلا من القوة و الضلاعة (۳) في الأجساد والعقول: فاذ! قاربت الرجل مضاجعة له ، وهي في أشد حالاتها اغراء بالفتنة ، ثم لم يبالها ، ولم يؤخذ بسحرها ، فما الذي يقع في وقرها وهي تهجس (4) بما تهجس به في صدرها ؟ أفوات سرور ؟ أحنين الى السؤال والمعاتبة ؟ كلا ، بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها ، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها واذعانها (5) ، و أن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى (۹) بالفتنة ولا بغلبة الرغبة ، فهو مالك أمره الى جانبها وهي الي جانبه لا تملك شيئا الا أن تثوب (۷) إلى التسليم ، و تفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها ، فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد ، الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح ، لأنها جربت أمضى سلاح في يديها فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها د بل هذا هو 1 - متعلق 2- تحزن ۳ - المراد : القوة - الهاجس : الخاطر - اخضاعها . أي تتصبر ۷- ترجع ۱۱۸ [119]فانما تکا بر ضعفها حين تلوذ بفتنتها فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذالك فاذا لاذت بها فخذلتها
.
. وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بقوات متعة ، ولا باغتنام فرصة للحديث والمعاتبة انما العقوبة ، ابطال العصيان ، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل باحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه ، والهجر في المضاجع هو مثابة (۱) الرجوع الى هذا الإحساس 9
< على أن عقاب النبي لزوجاته كان من الندرة بحيث لا يذكر ، لولا ما تعود المسلمون من ذكر كل كبيرة وصغيرة في حياته الخاصة والعامة على السواء ، وهذا مع طول العشرة وتعدد الزوجات وكثرة الحوادث الجسام وقلة النسل الذي يصل المقطوع ويرأب (۲) المصدوع (۳) و كان معظم عقابه أشبه بعقاب نبي لمسلمات منه بعقاب زوج الزوجات ، وهو في حالتي عقابه و احسانه انسان على أكمل ما يكون الانسان من رحمة و كيس (4) وانصاف واذا حارت الأدلة في قوام تلك الحياة الزوجية ، فالدليل الذي لا يحار : أن ينقضي نحو أربعين سنة عليها وهي على ذلك الصفاء والولاء الذي لم يعرفی مثله في علاقات الرجال والنساء: هذه حياة زوجية لا تقوم على الحس والمتعة ، ولن تدوم ذلك الدوام لو كان لها قوام غير مودة القلوب ، وراحة النفوس وحب الخير ، ومبادلة العطف والتعظيم . f 4 مرجع - يصلح ۴ - الشفوق 4 الكيس : فمد الحمق
۱۱۹
======
عبقرية محمد (1941)/الأب
[120]
الأب
الأبوة الروحية والأبوة النوعية
حفظ النوع سر من أسرار الحياة الكبرى التي دقت عن الفهم ، وحارت في تعليلها عقول الأساطين من أهل العلم والحكمة وهو ولا ريب يجري على قانون مطرد في جميع طبقات الأحياء ، وان كنا نحن لا نعلم كنهه (۱) ولا نسير عمقه ، ولا تزيد عن استقصاء بعض الملاحظات التي تقارب الحقيقة ، أو أقرب ما نستطيع الوصول اليه وأهم هذه الملاحظات التقريبية أنه يجري على سنة المكافاة والتعويض في معظم حالاته ، فيقابل النقص في جانب بالزيادة في جانب آخر ، ويقابل القصور في مزية من المزايا بالاتقان في مزية اخرى . فالأحياء السفلى عرضة للعطب (۲) الكثير في طور الولادة و الحضانة ، فيقابل هذا أن الأحياء السفلي ترسل ذرياتها بالألوف وألوف الالوف ، فيبقى منها القليل الكافي لدوام النوع بعد فناء الكثير والأحياء العليا يقل عدد المولود منها في البطن الواحد ، فيقابل هذا أن تطول حضانتها والعناية بها ، وتجد من وسائل الصيانة ما يعوض الكثرة في الأحياء السفلي ويغلب أن يزيد النسل حين تكون زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعها الفرد لخدمة نوعه وضمان دوامه، فاذا تيسرت للفرد وسائل مختلفة لخدمة نوعه فقد يجوز ذلك على نسله وينتقص من قسمته في أبنائه ، كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور ، فاذا أداها في صورة أعفي منها في الصور الأخرى ، أو كأنما هي مواهب و ارزاق لا پستوليها الفرد الواحد الا بثمن غال يحسب عليه ، ويؤدي $ ا. كله الشيء : نهایتا ۴ - التلف [121]حسابه للنوع على نحو من الانحاء والانسان هو أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة لا تنحصر في تحديد النسل وزيادة عدده فهل يجوز لنا أن نقول : ان العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم باصلاح شئون الناس ، فلم يبق من اللازم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبية من طريق الذرية ؟ ان قلنا ذلك فانما نقوله على سبيل الملاحظة التقريبية التي أشرنا اليها ، ولا نبلغ بتلك الملاحظة فوق مبلغها من اليقين الذي تستحقه، فغاية مبلغها عندنا أنها تستوقف النظر للتأمل والمراجعة ولا تفضي بنا الى الجزم أو الى التغليب فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا ، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية كعيسی عليه السلام . و بعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية ، أو رزقوا ذرية كلها اناث ، أو رزقوا ذرية من الاناث والذكور ولم يعيشوا ، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة وتواريخ العظماء في جميع نواحي وفي جميع العصور ، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة (۱) بالتأمل و المراجعة : يدخل فيهم القديسون كما يدخل فيهم الحكماء ، و يدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون ، و يدخل فيهم القادة العسكريون والسياسيون ولا يصعب على أحد أن يدير بصره الى فترة من الزمن في بلده قريب يعرفه حق المعرفة ليشاهد مصداق ذلك في نفر من عظمائه و مشهور به ، وحسبنا في مصر أسماء جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، وسعد زغلول ، وعبد الله قد يسم ، ومصطفى كامل ومصطفى فهمي ، و محمود سامي البارودي ، وحافظ ابراهیم • فاذا جاز لنا أن تقف عند تلك الملاحظة وأن نتأمل مغزاها وجاز لنا أن نفهم أن اصلاح شئون النوع الانساني ضريبة تغني
6 العظمة ، وفي جميع الأمم، $ < 4
او جديرة [122]6 عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال . فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة ان لم نجدها في رسالة نبوية، تتناول الأجيال بعد الاجيال ، وتتناول الملايين في كل جيل ؟ .. وأي أبوة انسانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته ، وفي أمم لا يلقاها في زمانه ، و أمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان ؟ نذكر هذا حين نذكر حظ (۱) محمد من الأبوة الروحية و من الأبوة النوعية ، و ثرى تكافؤا في الجانبين جديرا بالملاحظة والاعتبار الا ما أثقل ثمن الاصلاح ! الا ما أحق المصلحين بالتمجيد وحسن الجزاء • فمحمد الأب كان أصلح الآباء ، ثم فجع في بنية فجيعة (۲) لا يداري فيها ألم الانسان الا صبر الأنبياء ومن الناس من لا يكون صديقا صالحا ، ولا سيدا صالحا ولا زوجا صالحا ، ولكنه أب صالح بره ببنيه لأن الرحم بين الآباء والأبناء أدنى الأرحام الى المودة وأحراها بتحريك الشفقة فيمن لا يشفق على أحد فكيف تكون الأبوة في نفس صلحت للصداقة ، وصلحت للسيادة ، وصلحت للزوجية، لأنها تصلح للعطف الذي يعم القريب والغريب ، ويشمل القوي والضعيف ؟ ذلك أب تعلم كيف يفرح بابنائه 4 6 6
4 ونعلم كيف يحزن حين يفجع في أولئك الأبناء و من الراجح أن الملف الأبوي لم يتمثل قط في مولد أحده من أبناء محمد عليه السلام كما . تمثل في مولد ابنه الذي سماه باسم جده الأكبر أملا في أن يصبح بعده خليفته الأكبر " ولعل العطف الأبوي قد تمثل في تشييع هذا الطفل الصغير ، أشد من تمثله في استقباله ميلاده كانت أسباب كبيرة توحي إلى قلب محمد العظيم شوقه الطويل الى استقبال ذلك الوليد : ا- نصيب ۴- الفجيعة : المصيبة [123]كان منها أن محمدا عر بي يحرص على العقب(۱) من بعده كحرص كل رجل من أبناء القبائل وأصحاب العصبية : فخورون بالنسب ، فخورون بالعقب، يحفظون سيرة السلنا ويتوقون (۲) الى استبقاء الخلف على نحو لا يعهده الحضريون (۳) وان كان حب النارية فطرة مركبة في جميع الطباع . و محمد كان يحب التكاثر (4) لنفسه ، ويحبه لأمته ويوصي المسلمين أن يستكثروا من النسل ما استطاعوا ، ليفاخر بهم الأمم وفرة وعزة ، فاشتياقه الى العقبة من الذكور خليقة عربية تقترن بالخليقة (5) الانسانية والخليقة النبوية ، فتزداد قوة على قوتها التي ركبت في جميع الطباع و كان من أسباب هذا الشوق القوي : طول العهد بالأبناء بعد من ولدتهم له السيدة خديجة رضي الله عنها ، وشماتة أناس من شانئيه سماه بعضهم بالأبتر (6) لانقطاع معظم نسله : وفي ذلك نزول الآية الكريمة : «ان شانئك هو الأبتر (۷) فقد مضي نيف وعشرون سنة لم تلد له في خلالها زوجة من زوجاته ، ومات في هذه الفترة كل أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها التي ماتت بعده بقليل : مات القاسم ، والطاهر ، طفلين وماتت زينب ، ورقية ، و أم كلثوم ، بعد أن تزوجن ، ولم يتعوض من فقدهن ما يعزیه بعض العزاء فجيعة تضاعف الشوق الى الوليد المأمول و طول انتظار يضاعف الحب له ، كما يضاعف الشوق اليه : ولسنا ندري لم طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعا بغير عقب ؟ ولكنا لا نستبعد تحليلها باجتماع المصادفات التي لا يندر أن تجتمع في أمثال هذه الأحوال : فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرا غيرها قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين ، و هي سن قد تبلغها المرأة ولا تلد ، وان كانت ولودا فيما بعدها . أما أزواجه الأخريات اللاتي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الاولين خلفا غير رملة أم 4 H ا. أي الولد والذرية 2- يشتاقون ۲- اي اهل المدي - كثرة 0- الطبيعة 6 - الإبئر : من 4 عقي له ۷ - الآية : من سورة الكوثر . ۱۲۳ [124]حبيبة ، و هند بنت أمية المخزومية ، وهذه كانت مسنة اليوم بشی بها النبي عليه السلام ، و في عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة • فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله ، و اجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها ، اذا تذكرنا أن النبي قد توخی(۱) في اختيارهن تلك الأغراض العامة التي أجملناها في الفصل السابق ولم يتحر منها النسل خاصة : و هي : الايواء الشريف والمصاهرة . و بعضهن - بل معظمهن - قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء (۲) الهجرة البعيدة، ما يعقم الولود . فاذا أضفنا الى ذلك معيشة الكفاف ، وضريبة العظمة النبوية التي أشرنا إليها على سبيل الاحتمال ، واشتغال النبي فيما بين الخمسين و الستين بتعزيز الدين و قمع (۳) الفتن ودرء (4) الاخطار - لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية بالأمر العصي على التعليل
حزن الأبوة طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول ، وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج ، حتى جاءته مارية القبطية من قطر بعيد ، ومن معدن غير المعدن الذي يختار ، لايواء المحزونات وتقريب الأسر والعصبيات ، فبشرت النبي بعقب لعله غلام ، واجتمع في هذه البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة ، ورجاء لا ينتهي بانتهاء الزمان ۰۰"وولد ابراهيم ! ۰۰ ولد الطفل الذي نظر ابوه اليه يوم موا مولده فامتد به الأمل مئات السنين بل ألوف السنين ، و تخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى ، ليكون أبا و یکون له أحفاد ، و يكون أحقاد ثم مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير مات كلاهما والأب في الستين .. أي صدمة في ختام العمر ؟ ۵ الأحفاده من بعدهم ا - تجري وقمد ۲- مشقة ۲- ضربه - دفع • ۱۲ [125]- 4 . أي أمل في الحياة ؟.. الدين قد تم ، وهذه الآصرة (۱) قد انقطعت فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر : كل ما فيها للاشاحة والادبار مات الطفل ولما يدرك السنتين مصاب صغير ان كانت المصائب تقاس بسنوات المفقودين ولكن المصائب في الأعزاء انما تقاس بمبلغ عطفنا عليهم والصغير أحوج الى العطف من الكبير المستقل بشأنه وانما تقاس بمبلغ تعويلهم علينا ، وتحويل الصغير على وليه أكبر من تعويل الكبير وانما تقاس بمبلغ الأمل فيهم ، والأمل يطول في بداءة الطريق وقد يقصر في منتصف الطريق انما تقاس الام المفقودين بأعمار الفاقدين ، وأي مصاب أفدح (۲) من مصاب الستين وما بعدها في الأمل الوحيد الواصل بينها و بين الزمان ماضيه و آتیه ؟ ما تخيلت محمدا في موقف أدنى الى القلوب الانسانية من قفه على قبر الوليد الصغير ذارف العينين مكظوم الوجد (۳) ضارعا الى الله نفس قد نفشت (4) الرجاء في نفوس الألوف بعد الألوف ، وهي في ذلك الموقف قد انقطع لها رجاء عزیز : رجاء وا أسفاه لا يحييه كل ما ينفثه المصلح في الدنيا من رجاء • وكأني محمد كان يومئذ أقرب إلى قلوب الخالفين من بعده مما كان الجالسين حوله أقرب الناس اليه كان أقرب الناس اليه زوجاته أمهات المسلمين ، و كن يحببنه النساء الأزواج ، ولكن حبهن اياه لم يكن في هذا الموقف من المقربات العاطفات ، لأنه حيا أثار غيرتهن من أم الوليد المأمول، فاحتجب من عطفهن بمقدار تلك الغيرة و بمقدار ذلك الحب ، ولا لوم عليهن فيما طبع عليه الانسان ، وفيما لا يقصيه ولا يقدرن عليه و كان أقرب الناس اليه أصحابه الخاشعون بين يديه ، و ، وكان مو ، ومع $ غاية ما حسا 6
1 ا- الرابطة 1- اثقل واشد 3- يكتم حزنه 4 - النفث ، اللفخ ۱۲۵ [126]ملايعرف 9 اكبارهم السيد الأنبياء ينسيهم أنه أب من الآباء ، بل أنه أب أرحم من سائر الآباء - ظنوا أن النبي لا يحزن ، كما ظن قوم أن الشجاع لا يخاف ، ولا يحب الحياة ، وأن الكريم قمة المال . لكن القلب الذي لا يعرف قيمة المال لا فضل له في الكرم ، و القلب الذي لا يخاف لا فضل له في الشجاعة ، والقلب الذي لا يحزن لا فضل له في الصبر ، انما الفضل في الحزن و الغلبة عليه ، وفي الخوف و السمو عليه ، و في معرفة المال و الايثار عليه . وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن و بکی ، وتلك هي الصلة بينه و بين قلب الإنسان ، و بينه و بين الناس ، و أي نبي تنقطع بينه و بين القلب الانساني صلة كهذه الصلة التي تجمع أشتات القلوب ؟ روی أسامة بن زيد أن زينب بنت النبي أرسلت اليه : « ان ابنتي قد حضرت فاشهدناه فأرسل اليها عليه السلام يقول : « أن الله ما أخذه وما أعطى ، وكل شيء عنده مسمی ولتصبر فأرسلت تقسم عليه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا ، فرفع الصبي في حجر النبي ونفسه تقعقع (۱) ، ففاضت عينا النبي صلى الله عليه و سلم - فقال له سعد : « ما هذا يا رسول الله ؟ » ۰ قال : « هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده ، ولا يرحم الله من عباده الا الى حمام » ما هذا يا رسول الله ؟! هذا رسول الله في أصدق ما تكون عليه رسالة الرسل : في الرحمة ، وفي الآصرة الانسانية ، و غير هذا لن يكون ومحمد قد اتقى رؤية طفل يموت لابنته وهو كهل غير يائس من العقب، فكيف يكون حزنه على فلذة كبده ابراهيم ومو بعده ذاهب الرجاء في الأبناء ؟! .. لقد كان حزنه لموته بمقدار فرحه بمولده ، و كان فرحه بمولده بمقدار أمله فيه ، واشتياقه اليه فلتحتسب 9 و پیمر . تضطرب . ۱۲۹ [127]هو التوسع وان العطف الانساني كله ليتجه إلى تلك النفس الزكية وهي تتوسع فرحا بالوليد المأمول حلق الأب المتهلل شعر وليده وتصدق بزنته فضة على المساكين ، وذلك الذي وسعه رجل كان أقدر الرجال على وجه البسيطة غير مستثني فيها رؤساء ولا ملوك • جاء بأقصى ما عنده من الفرح واقصى ما عنده من التوسعة ، ولو شاء لقد كان وزن الوليد کله درا وجوهرا بعض ما يستطيع في ذلك اليوم الأغر الميمون و بمقدار هذا الفرع الطهر يوم الاستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع : خرج الرجل الذي اضطلع بأعباء الدنيا ومن فيها وهو لا يضطلع بحمل قدميه : خرج يتوكأ على صديق عطوف إلى حيث يحمل الوليد آخر مرة في حجره الأبوي قبل أن يودعه حجر التراب ، و كان يستقبل الجبل بوجهه فقال : يا جبل ! لو كان بك مثل ما الهدف ، ولكن انا لله وانا اليه راجعون أي والله ! انها لاحدى الفواقر(۱) التي يحملها اللحم والدم ولا تحملها صخور الجبال
6 وصرخ أسامة حين بكی رسول الله ، فنهاه رسول الله و قال : البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان حزن كما ينبغي له أن يحزن أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراع الذي نهى عنه ، وهو أن تنکسف الشمس يوم موت ابراهيم فيحسب المسلمون أنها انكسفت لموته ، ويقول الأب الذي انكسفت الشمس حقا في عينيه :« کلا ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ! » - 1 أو تخسفان ولكن في أكباد المحزونين ، وليس في كبد السماء • ا- الفواقر : الدواهي . [128]9 ما أكرم الآباء أو كان من الحتم أن يكون محمد مثال الآباء كما كان مثال الأنبياء ؟.. كذلك شاء القدر القادر ، وكذلك رأينا محمدا مثال الأب يوم ولد له ابراهيم، ومثال الأب ذهب عنه ابراهيم يتمنى طفل سلو جاز أن يتمنى الاطفال - أبوة أرحم ولا از کی من هذه الأبوة في الحالتين بل كان محمد مثال الأب حيثما كان له نسل قريب أو بعيد ، وذكر أو أنثى ، وصغير أو كبير أرأيت الى الحسن بن فاطمة وقد دخل عليه فركب ظهره وهو ساجد في صلاته ؟ أن النبي في صلاته لهو النبي في مقامه الأسنی (۱) وان النبي في مقامه الأسني ليشفق أن يشغل الصبي عن لعبه فيطيل السجدة حتى ينزل الصبي عن ظهره غير معجل، ويسأله بعض أصحابه : لقد أطلت دك ؟ فيقول ان ابني ارتحلتي (۲) فكرهت أن أعجله ! أرأيت الى فاطمة تدخل البيت أشبه الناس مشية بمشية محمد ؟.. أرأيت الي حنان يفيض على القلب كحنانه حين يرى فتاة تشبه أباها في مشيته وسمته ! تلك فاطمة بقية الباقيات من الأبناء والبنات ، يختصها النبي بمناجاته في غشية وفاته : اني مفارق الدنيا فتبكي انك بي فتضحك .. في هذا الضحك وفي ذلك البكاء على برزخ (۳) الفراق بين الدنيا والآخرة أخلص الود والحنان بين الآباء والأبناء سرها بنبوته ، وسرها بأبوته ، فضحكت ساعة الفراق لأنها ساعة الوعد باللقاء وكذلك فارق الدنيا أكرم الأنبياء ، وأكرم الآباء سکو
ا- الرفيع ۴- اي جعلن رالحة له ۳- البرزخ : العاجل واللحاصل بين الشيئين . ۱۲۸
===========
عبقرية محمد (1941)/السيد
[129]
السيد
الخير المطبوع
قدمنا الكلام في فصول هذا الكتاب عن محمد رئيسا ، و محمد صديقا ، و محمد زوجا ، ومحمد أبا ، بعد الكلام على عبقريته في الدعوة ، وعبقريته في قيادة الجيوش ، وعبقريته في السياسة والادارة والبلاغة وبقي جانب لا تتم بغيره الاحاطة بجوانب النفس الإنسانية في العلاقات بينها و بين سائر النفوس ، و هو جانب المعاملة التي تكون بين الرجل و من هم دونه ممن يملك أمرهم ، ويقبض على زمامهم ، ولا يعتصمون منه بعاصم غير عواصم (۱) طبعه وخلقه و نريده بهم الخدم والعبيد الأرقاء ، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق . ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى ، لأنها تأتي من طبائع النفس و عقائدها ، ولا تأتي بأمر قمر ، أو بدعوة داع فالصداقة لها الحقوق المتكافئة بین الصديقين ، لا يستطيع أحدهما أن ينساها زمنا طويلا إلا ذكره بها مذكر من صديقه الحافظ الحقوقه ، القادر على مقابلة الجفاء بمثله ، ولو في طرية نفسه • والرئاسة قد تخول (۲) الرئيس حق السيطرة، وتفرض على المرؤوسين واجب الطاعة ، غير أنها قل أن تنطلق بغير وازع من خشية النضب ، أو خشية الانتفاض ، يحسب ،له الرئيس كل الحساب أو بعض الحساب . والأب يحلف على بنية فلا يعجب الناس لعطفه عليهم ، لما ركب في طباع جميع الأحياء من حب الأب لولده ، وان اختلف الآباء في صفات العطف ، و في استحقاقهم لبر الأبناء و كذلك الزوج: يرفق بزوجته ، وليس له كل الاختيار في رفقه لما يكون بين الزوجين من دالة يعتز بها الضعيف ، و يستغني بها أحيانا عن القوة والرئاسة . د. موانع وحوافظ 2- تعطيه ۱۲۹ [130]، وهي و أما العبد المملوك، فلا عاصم له غير ما في نفس سيده من رحمة وخير ، وانه لمن الرحمة والغير أن يتبع السيد أمر الدين مع عبيده وخدمة الذين لا ينصرهم عليه ناصر في هذه الدنيا، بل انها لرحمة تؤثر ولو وقفت عند حدود الأوامر الالهية ، فاذا تجاوزتها الى طواعية في الخير لم يفرضها الدين و لم يفرضها العرف، ولم يطلبها العبد نفسه، فتلك هي الرحمة في أصدق معانيها أدل الدلالات على الباب (۱) الأخلاق ولقد علم القاريء من فصولنا السابقة أننا لم نكتب هذا الكتاب لشرح الأصول الاسلامية ، و تفصيل محاسن الدعوة المحمدية فذلك غرض لا تتسع له هذه الفصول ، وليس لنا أن نتصدى له بعد من فصلوه وكرروا الكتابة فيه وانما نقصد بهذه الفصول الى غرض قدمناه على كل غرض في موضوعه، و هو بيان البواعث النفسية التي توحي إلى النبي أعماله و معاملاته، ولا شك في مطابقة هذه البواعث لكل أمر من أوامر الدين و كل نهي من نواهيه، الا أن الخير المطبوع شيء والخير المأمور شيء آخر، والخير المطبوع هو الذي قصدنا الى بيانه بكل ما بيناه ، ففي كتابتنا عن معاملة محمد العبيد والخدم : لا ننوي أن نفصل أحكام الاسلام ، و أوامر القرآن في هذه المعاملة ، أن نبين مزية محمد على جميع السادة في هذا الباب، و هي مزية لا تتوافر لمن يقنعون بالتزام الأوامر والحدود ، ولا للذين يرتفعون الی أرفع مرتبة تفرضها هذه الأوامر والحدود . الاسلام والرق على أن هذا لا يمنعنا أن نوجز الاشارة بداءة الى مزية الاسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق ، والاستعباد، لأن أناسا يخلطون بين اعتراف الاسلام بنوع من الرق ، و بين اعتباره مسئولا عن وجوده في الزمن القديم ، و يردون شيئا من ذلك اني عمل التبي عليه السلام ، فمن الواجب أن نذكر أولا، أن دينا من الأديان الأخرى لم يأمر بالغاء الرق في شكل من أشكاله ، سواء رق الحروب . وانما تنوي و - اللباب ، الفالهن [131]+ . كثيرة أو رق النخاسة (1) والبيع والشراء، وان أناسا من أقطاب المسيحية كالقديس أغسطين سوغوه (۲) واعتبروه جزاء عادلا للخطايا التي يقترفها (۳) المسترقون، وجاء بعض أحبار (4) الكنيسة فحرموا على الأرقاء شرف الخدمة فيها بالوعظ والهداية ، انفة لها أن بدنسها (2) لؤم العنصر الذي وسموا به الرقيق . ويجب أن نذكر بعد هذا أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطا بالاسترقاق أشد الارتباط ، فكان الغاؤه طفرة (1) واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات ، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة خطوة والابتداء بتصعيبه وتر غيب الناس عنه و هو ما شرعه الاسلام - فالاسلام قد بدأ بتحريم كل رق نمير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن اطلاقهم و سماه منا (۷) و عفوا يشكر فاعله عليه: « فأما منا بعد و اما فداء (۸) ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه ، و أوجب حريته في حالات معظمها الى ارادته هو ، اذا استطاع والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الاسلام هذا كان اجمل صنيع لتيه الأرقاء من دين أو شريعة . وانه اذا كان هناك تمهيد لالغاء الرقي بتة (۹)، فذلك هو تمهيد الاسلام دون غيره أقصى ما كان مستطاعا في نظام العالم القديم : نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار ، كما جاء في بعض الاحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية و اليونانية و قد نتلر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة - ونعني به أرسطو - فأقره و أوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة ، و قیدا لا فكاك منه لطائفة من الناس ، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها ، فلا غنى لها عن سيد ولا موئل( ۱۰) لها من وال معاملة محمد العبيده ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن و اجمل و امتاز بأمر دينه على كل محسن الى الارقاء في زمانه ، و دو + ا- النحاس . بائع الدواب والرقيق - أجازوه ۳ - يرتكبها 4. علماء - يوسخها - الطفرة الوثبة 7 - من عليه ، أنعم - الآية 4 من سورة محمد و قطعا ۱۰- ملجأء [132]6 اليها وترجع الا أننا نقير الواقع ولا نتعداه قید (۱) شعرة حين نقول : ان كثيرا من الأبناء لا يتمنون عند آباثهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد و عبيده ، و من من الآباء يحسن الى أبنائه خيرا من احسان محمد الزيد بن حارثة ولا بنه أسامة ؟ فقد أعتق زیدا ورآه أهلا للزواج بعقيلة (۲) من أقرب قريباته اليه ، و أولاهن بحد به (۳) و توقيره : و هي التي آها بعد ذلك أهلا الزواجه بها ، و حظوتها (4) لديه . فلم يعطه الحرية و كشي ، ولم يعطه المساواة في العيش و کفی ، بل رفعه الى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع اليها السادة ، ولا يثبتها شيء كما يثبتهاشرف المصاهرة ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة ، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، و في الجيش طائفة من أكابر الصحابة . فلو كان للنبي ولدفي سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة ، ولا ميزه أشرف من هذا التمييز نعم لم تعد (5) الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا : ان الابن لا يتمني خيرا من معاملة محمد العبده، فقد عرف زيد فعلا أن محمدا خير من أب ، و خير من أسرة كاملة يرجع اليه ، فبقي معه ولم يذهب مع أبيه ، ولم يبق معه ایثارا لبركة النبوة، فان محمدا لم يكن قد أرسل بالدعوة اختاره زيد ، وانما بقي معه لأنه الانسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن أصرة الإنسانية عنده أوثق مسن آصرة الأبوة عند آخرين آن الوالد لوليده وراثة ألوف الالوف من الأجيال ، بل وراثة الحياة في جميع الأحياء ، فاذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة ، فقد بلغ الذروة (1) العليا التي لا متسنم (۷) فوقها الراق لقد خيرت شريعة الاسلام المحسنين بين المن واعتاق الأسرى، و بين الفداء بالمال أو المبادلة ، فأيهما اختار المالك فهو احسان . أما محمد فقد اختار المن وزاد عليه . فأعتق كل أسير صار الى حوزته (۸) ، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل منتم اليه ، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالي من ام أي قدر ۴- العقيلة ، تحريمة الحي ۳- بعطفه 4- علو نزلتها و- اي ام فتجاوزه ۲ - ذروة الشيء ، قمعه واعلاه ۲ - تسنم الشيء : علاه 4- كل من فسم شيكا الى نفسه فقد جازه ، وأثره على جميع . حب ها ۱۳۲ [133]ضرب وتعزير ، وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب الى الملاطفة منها الى العقاب ، ومن ذلك : قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق ، فما زاد على أن قال لها حين عادت « لولا
خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك ! • ضرب سواك لابن عزيز ليس بالشيء الكثير . ولكن محمدا يخشى القصاص اذا استباحه في معاملة وصيفة تهمل أمره ، وهو الذي لا يهمل له أمر عند سادة الشرفاء . وروى أنس أن النبي أرسله في حاجة ، فانحرف(۱) الى صبيان يلعبون في السوق، «واذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من وراثي ، فنظرت اليه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فقال : يا أنيس ! اذهب حيث أم تك ! » - كلمة أمر لا يقولها لخادمه الا وقد ناداه مدللا ،وقا بله ضاحكا كأنه يعتب على قرین (۲)، وقد يلام القرين بأشد من هذا الملام وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده ، فكان يجاملهم و يجبر كسرهم و يقبل منهم الهدية و يكافىء عليها، ويلبي دعوتهم اذا دعوه الى طعام ، و يوصي بهم قائلا: « هم اخوانكم وخولكم (۳) جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمة مما يأكل ، و يلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فان كلفتموهم فأعينو هم (۶)» و «اتقوا الله في الضعيفين : النساء والرقیق» البر بالخدمة وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفي للهوان من البر بالخدم ۰۰ فالبر بالخادم عطف عليه ، أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم الى مقام السادة ، حيث لا يأنف (5) السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم ، و ذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه ، وذلك هو دأب (1) النبي الذي جرى عليه في بيته و بین أهله فقد كان يحلب شاته ، و يخصفه (۷) نعله و يخدم نفسه، ويعلف ناضجه - أي البعير الذي يستقي عليه الماء - فاذا رأى الخدم لهم عملا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم ، فتلك هي 9 . وخدمة - ا- انحرف عنه : مال وعدل ؟ - صاحب او صديق - الفول : اسم يقع علی العبد والامة كم ساعدوهم - اي لا يستنكف - الداب: المادة والشان ۷- اي يصلحه . [134]4 المساواة التي تمسح ضير(۱) الخدمة وتجبر كسرها ، ولا تقتصر على العطف و الرحمة ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكر ين . فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر الا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه و أتباعه ، و هذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم و مقام المريد، فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبا لا خنوعا (۲) و تو قبرا (۳) لا مذلة ، و أدبا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب و على هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس ، فتحمل بينهم على محمل الذلة و الخضوع. قال أبو هريرة رضي الله عنه : « دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم فاشتری سراويل ، وقال للوزان : زن و أرجح ، فوثب الوزان إلى يد رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، انما أنا رجل منكم ، ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله يمدح أن يقال أن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خامه ، وأن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم ، وانه جعل الخدمة على سنته ضربا من توزيع الأعمال ، أو ضربا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئو ته : « انما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد » هذه كلمة السيد بامامته ، السيد بنسبه ، السيد بسلطانه السيد بالتفاف القلوب حوله ، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه . ولو عمت هذه السيادة لبطل الاستعباد ، واصبح تفاوت الدرجات متفاوت الأعمار شيئا لا غضاضة (4) فيه على صغير ولا خنزوانة (5) فيه الكبير - انما هو تقسيم أعمال ، وتعاون بين اخوان ، وان لم يكن تعاو نا بين أمثال ولقد E < ط ا. فمررها 1- اي مهالة وذلا وخضوعا ۲- احتراما - كلة ومنقصة و - تكبره ۱۴
=====
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/العابد
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ السيد العابد
المؤلف: عباس العقاد ← الرجل
[135]
العابد
الطبائع الأربع
طبيعة العبادة ، وطبيعة التفكير ، وطبيعة التعبير الجميل ، وطبيعة العمل والحركة هذه طبائع أربع تتفرق في الناس ، وقلما تجتمع في انسان واحد على قوة واحدة ، فاذا اجتمعت معا فواحدة منهن تغلبه سائر هن لا محالة ، وتلحق الأخريات بها في القوة والدرجة على 9 شيء من التفاوت تدعو 9
طبيعة العبادة : تدعونا إلى الاتصال بأسرار الكون للمعاطفة والتألف بيننا وبينها : تدعونا إلى الحلول من الكون في أسرة كبيرة وطبيعة التفكير : تثير في نفوسنا ملكات الكشف والاستقصاء: نا الى الحلول من الكون في معمل كبير وطبيعة التعبير الجميل : تشب النار المقدسة في سرائرنا ، فتصهر معادن الجمال من هذه الدنيا وتفرغها في قوالب حسناء من صنع قرائحنا (۱) و ألسنتنا ، أو صنع قرائحنا وأيدينا ، أو صنع قرائحنا و أوصالنا (۲) ، تدعونا إلى الحلول من الكون في متحف كبير - و طبيعة العمل و الحركة : تعلمنا كيف تتأثر بدوافع الكون ، و كيف نؤثر فيها، وتجذ بنا اليها فتستمد منها القدرة التي تجد بها الينا : تدعونا إلى الحلول من الكون في ميدان مصراع ، ومضمار (۳) سباق و قلما تشعر بالكون بيتا لأسرة ، ومعملا لباحث ، ومتحف فن ، ومضمار سباق في وقت واحد . انما حالة من هذه الحالات تجب (4) سائر الحالات ، وقد تلحقها بها الحاق التابع بالمتبوع، والمساعد بالعامل الأصيل • ا- القريحة : اول كل شيء، وملك ، طبعك - مفاصلان - غاية ا الفرس في السباق 4 - الجب : القطع . . ۱۳۵ [136]6 محمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعا على نحو ظاهر في كل طبيعة : كان عابدا ، ومفكرا، وقائلا بليغا ، و عاملا يغير الدنيا بعمله ، ولكنه عليه السلام كان عابدا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة قبل كل شيء كان تفكيره وقوله وعمله ، وكل سجية (۱) فيه . تهيأ للعبادة بميراثه و نشأته وتكوينه . فولد في بيت السدانة (۲) والتقوى ، وتقدمه آباء يؤمنون و یوفون بايمانهم ، و يعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه ونشأ يتيما من طفولته ، فانطوى على نفسه، وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار ، والنظر إلى ما حوله بمين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح (۳) الى الطهر واستقامة الضمير و تكون في بنيته عابدا من صباه قيل : انه في الثانية أو الثالثة من عمره قد أدركته حالة يختلف شراح التاريخ في تفسيرها ، و پر و بها من سمعوا بها على روایات مختلفات لا ندري ما هو الواقع الصحيح منها ، ويتعجل بعض المؤرخين الأوربيين فيحسبها ضربا من الصرع على غير سند علمي أو تاريخي محقق يستند اليه كل ما يمكن أن نجزم به من هذه الحالة أو من غيرها أن محمدا قد تكون ليلتقي الوحي الإلهي ، وان لهذا التكوين استعدادا لا بد أن يلحظ من أوائل صباه ، لأن البنية الحية لن تتهيأ له في أيام ولا في شهر ولا في سنوات ، ولن تستطيعه الا إذا تمت أهبتها له والمولود في صلب أبيه ، ولا تقول في المهد او في الرضاع ، فمن الأقوال المتواترة : أنه كان عليه السلام اذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ، و كرب لذلك و تر بد (4) وجهه ، و أخذته البرحاء (2) حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي ، و سميع عند وجهه كدوي النحل ، وقد يصدع (۹) فيغلف رأسه بالحناء وقد شاب فقال : «شيبتني هود وأخواتهاه وعدد حين سئل عن أخواتها سورا أخرى من القرآن الكريم < ا- طبيعة - خدمة الكعبة ۳ - اي المائل - اغبر و - برج به الأمر تجريها : اي جهده 1 - يصيبه الصداع • [137]6 وليس هذا من خليقة كل بنية انسانية ، انما هو خليقة البنية التي تتلقى وحيا ، وتستوعب سرا، وتهتز لنبا عظيم • صفة العابد وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسا كله، وحياة كله - پیراه من ينظر اليه فيرى فؤادا يقظا يتنبه لكل خالجة نفسية ، وكل نبأة خفية - يسرع في مشيته و يلتفت فیلتفت بكل جسمه ، ويشير فيشير بكل كفه ، و يفكر فلا يزال يطرق الى الارض، أو يرفع بصره الى السماء، ويدعو فيرفع يديه حتى يرى بياض ابطيه ، ويغضب فتحمر عيناه ووجنتاه (۱)، و يمتليء عرق جبينه و ينام وقلبه يقظ لا ينام : حس مرهف يدني اليه ما وراء الحجاب، و يوقظ سريرته الأخفى البواطن ، و يجعله أبدا في حالة قريبة من حالة الوحي حیشما هبط الوحي عليه هذه صفة عابد يفكر ويعبر ويعمل، وليست بصفة عابد ينقطع للعبادة أو ينقطع للتفكير ، أو يعمل كما يعمل بعض النساء (۲) الذين هزلت بنيتهم الجسدية فلم يبق لهم الا عکسوف (۳) الصومعة (4) ، أو رحلة الزهادة كانت عبادة محمد خلوا بالنفس إلى حين ، أو عجبا من بدائع الكون التي ألفها الناس، لأنهم لم يوهب لهم في أبصارهم و بصائرهم تلك النظرة الجديدة التي ترى كل شيء كأنه في خلق جدید ما أعظم دهشة الناظر أن يرى الشمس قد خلقت اليوم أمام عينيه دهشة لا تعدلها دهشة و هي هي دهشة العين التي أبت أن تكل (5) من الالفة ، لأنها أبدا في نظر جديد ، أو في نظر الى كل منظور كأنه مخلوق جديد - و هكذا كانت عبادة محمد عليه السلام: عجب من بدائع الكون في كل نظرة كأنه يراها لأول مرة، وتفكير في الخلق ينتهي الى الايمان لأنه يبدأ بالعجب ، ولا يزال أبدا بين العجب والايمان . - ما ارتفع من فديه - العباد ۲- عكف : عبد يع - بيت عبادة للنصاری ه - كله : أعياه ۱۳۷ [138]- وأن محمدا باعث الايمان إلى القلوب. لقد كان يجدد ایمانه كما يجدد عجبه كل يوم و كان يدعو الله فيقول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ۰ ۰ و قيل له في ذلك فقال: «انه ليس آدمی الا وقلية بين اصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» حركة متجددة في الحسو في الفكر وفي الضمير فلا انقطاع عن الحس للعبادة كل الانقطاع ولا انقطاع عن الحس للتفكير كل الانقطاع وانما هو تفكير من ينتظره العمل ، وليس بتفكير من رك العمل ليوغل (۱) في الفروض و مذاهب الاحتمال والتشكيك : ثلث أيامه لربه و ثلثها لأهله ، و ثلثها لنفسه ، وما كان في فراغه لنفسه ولا لأهله شيء يخرجه من معنى عبادة الله، والاتصال بالله، على نحو من التعميم : < 9 < بهره الجمال من صباه: جمال الشمس والقمر والنهار والليل والروض والصحراء ، و جمال الوجوه التي يلمح عليها الحسن فيطلب عندها الخير - انما هو الخير على كل حال ما قد طلب من الجمال . وانما جمال الله هو الذي قد كان يدعوه اليه ، كلما نظر إلى خلق جميل . فكر في الخلق فآمن بالخالق ، واستقر هنالك لا يتقدم ولا يتأخر . فقال : «ان الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماء؟ فيقول : الله ، فيقول: من خلق الأرض ؟ فيقول : الله - فيقول: من خلق الله؟ فاذا وجد ذلك أحدكم فليقل : آمنت بالله ورسوله » تلك هي نهاية التفكير التي ينتهي اليها عقل مستقيم خلق العبادة عامل ، وتعليم الناس عبادة وعملا، ولم يخلق ليوغل في الفروض ، ويتقلب بين الشكوك وانا لنسأل مع هذا: إلى أين انتهى المفكرون الذين أو غنوا في شکو کهم وتطرحوا (۲) بها الى قصوى (۳) ما تفرضه الفروض ؟ = ه أ. کد خل في الارض : انا مار فيها وابعد 1- ای کاموا ولهموا ۲ - ابعد . ۱۳۸ [139]9 6 الى اين انتهى كانت» Kam أمام المفكرين في هذا الباب بين فلاسفة العصر الحديث ، إن لم نقل الحديث والقديم ؟ انتهى إلى أن النفس نفسان ، والوجود وجودان : نفس حسية ونفس حقيقية ، ووجود محسوس ووجود حق هو ذات الوجود • النفس الحقيقية تدرك الوجود الحقيقي عندما ترجع إلى قرارها ، ثم لا تتخطى بادراها عالم الباطن إلى عالم المحسوسات التي يتناولها التعبير وتصدير الكلام أليس معنى هذا أن ايمان النفس الباطنة أمر لا يتعلق بالبرهان ؟ و أن المرجع غاية المرجع انما هو الايمان ولا شيء غير الايمان ؟ بل حتى البرهان الأكبر على وجود الله نعود اليه الغساله ونسمع منه فماذا يقول؟ يقول لنا : ان العدم معدوم ، فالوجود اذن موجود ، وانك اذا آمنت بالوجود فلا مناص لك من الايمان به في صفته المثلى ، لأنك تحتاج إلى مقتض لفرض النقص ، ولا تحتاج الى مقتض الفرض الكمال في وجود لا يتطرق اليه العدم وما الفارق بين الايمان بالله ، والايمان بالوجود في میفته المثلي ؟ هنا ينتهي الايفال في الفروض والشكوك وهناك انتهى الإيمان ، بغير ايغال في فروض ولا شكوك • ألا تتلاقى النهایتان؟ • . او لا تضل الفروض والشكوك حيث تضل ، ثم لا يخطو لها قدما وراء خطر الايمان ؟ لهذه السنة التي استنها النبي عليه السلام في عبادته الروحية کثرت وصاياه بادمان التفكير في خلق الله ، واجتناب التفكير في ذات الله . فقال في حديث : « تفكروا في آلاء (1) الله ، ولا تفكروا » وقال في هذا المعنى : « تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله فتهلكوا ، وقال في حديث قدسي :« کنت کنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق فعرفت » أو كما جاء في رواية: « فخلقت الخلق ، فبي عرفوني » 6 5 ا- اي نعمة ۱۳۹ [140]طريق الوصول وخلاصة هذه الأحاديث وما في معناها : أن التفكير في حقائق الوجود و هو طريق الوصول الى الله ، ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة : ايه ان بالوجود الابدي في صفته المثلى ، و تفكير في حقائق الوجود کما نراها و نحسها و نعقلها ، و ذلك قصاری(۱) ما عند العقيدة ، وقصارى ما عند الفلسفة ، وقصاری با عند العلم إذ يقف العلم وهذا هو العلم الذي فرضه الاسلام على كل مسلم ومسلمة ، وقال النبي في رواية ابن عباس : وأنه أفضل من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله ، لأنه سبيل الوصول الى الله عن حله ) t ومن الواجب أن نذكر بعد هذا جميعه أن محمدا نبي ، وأن النبي يعلم جميع الناس الإيمان ، و تلك سبيل جميع الناس فيما يفتح لهم من أبواب التفكير و أبواب الاعتقاد، فهم يضلون في تيه الشكوك والمناقضات التي يتعمق فيها الفلاسفة والمنطقيون ، ولا يبلغون الى هداية أقوم وأسلم من هداية الايمان بالخالق والتفكير في الخليقة (۲) ، فأما هذه الهداية ، وأما الضلال الذي لا هداية وراءه ، وليس لنبي أن يحجب طريق الهداية ويفتح طريق الضلال • وقد تكلمنا في هذا الفعل عن روح العبادة أو عن فطرة العابد التي توحي اليه « عبادته الروحية » أما عبادة الشعائر الظاهرة : فهي عبادة الاسلام كما فرضت على جميع المسلمين : يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة على الشريعة التي يتبعها كل مسلم ، وقد يطلب الى نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلى غيره ، على سنة السماحة والتيسير التي أثرت عنه في كل عمل من أعماله و كل سجية (۳) من سجاياه • ا- اي غاية - المخلوقات ۳ - السجية : الخلق والطبيعة . [141]6 , فكان أخف الناس صلاة على الناس ، وأطول الناس صلاة لنفسه ، وربما قام الليل أكثره أو أقله ، ولا يدين (۱) أحدا بالتهجد، كما كان يتهجله ، أو بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم ، بل قد نهى الناس أن يشتدوا في العبادة فيصبحوا كالمنبت (۲) «لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى • لأن الناس جميعا يتلقون الأمر بالعبادة ، كما يتلقون الامر بفريضة واجبة ، فهم في حاجة إلى الرفق والتيسير أما النفس المفطورة (۳) على العبادة فالصلاة عندها، مناجاة حب وفرحة لقاء ، ومطاوعة لميل الضمير وميل الجوارح على السواء 6 a $ 2 وكان محمد « اذا حزبه (۶) امر صلی » - كذلك اذا حزب الأمر نفسا ، رجعت الى من تحب ، فخف وقرها (5) ، وانفرج كربها ، وانست بعد وحشة ، واهتدت بعد حيرة ومتى وجدت النفس « فرحة اللقاء » في الصلاة ، فلا اجهاد فيها لجسد ولا تضييق فيها لوقت ، بل فيها الترويح عن الجهد ، والتنفيس عن الضيق ، ولا سيما اذا كانت النفس من سعة الأفق بحيث تحيي ما تحيي من ليلها ونهارها في الصلاة والعبادة ثم تؤدي عملها ، وتفكر تفكيرها ، ولا يحسب أحد يعرفها أنها تنقطع بالصلاة والعبادة عن حق من حقوق أو عن حق
من حقوق بني الانسان ا . أي يجازي ، والمراد : يطالب 2- الذي املك راحلته من الجد في السير ، فانقطع في وسط الطريی ۲ - المجبولة والمطبوعة - تابه واشتد عليه و- حملها •
=======
عبقرية محمد (1941)/الرجل
[142]
الرجل
المختار عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت (۱) الأنباء بأوصافهم السماعية ، و أوصافهم المرسومة في المور والتماثيل ، غير أننا لا نعرف أحدا من هؤل العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصریه ، فنحن نعرفه بالوصف خيرا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية و المطابقة ، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة ، وقد تعكي للمتفرسين شيئا من طبائعهم التي تنم (۲) عليها سيماهم ، الا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته ، وكل لمحة من لمحاته : في سياه وفي هندامه ، وفي شرابه و طعامه ، وصلاته وصيامه ، وحله ومقامه و سکوته وكلامه ، لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة ، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجا (۳) من العطف والتدين ، وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض، لم يختلف الوصف مرة الا كما تختلف نظرة الناظر إلى وجه واحده بين ساعة وأخرى . فيقول غير ما قال أنفسا (۶) ثم لا يبدو التناقض ولا قصد التحريف بين القولين وخلاصة المحفوظ من الروايات المتواترة : أن النبي ، عليه السلام كان مثلا نادرا لجمال الرجولة العربية ، كان كشانه في شمائله مستوفيا للصفة من جميع نواحيها ، فرب رجل وسيم غير محبوب ، ورب رجل وسيم محبوب غير مهيب ، وربا رجل وسيم يحبه الناس و بها يو نه وهو لا يحب الناس، ولا يعلف 6 9 ا- أي تتابعت ۴- المراد : تكشف وتدل ۴- خليطا - اي معابقا • [143]عليهم ، ولا يبادلهم الولاء والوفاء، أما محمد عليه السلام فقد استونی شمائل الوسامة والمحبة والمهابة والعطف على الناس فكان على ما يختاره واصفره ومحبوه، و كان نعم المسمى بالمختار • اذا نظر إليه الناظر رأى رجلا أزهر (۱) اللون، عظيم الهامة (۲) مفاض (۳) الجبين ، سبط (4) الشعر ، ازج (2) الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب، ادعج (1) العينين في كحل ، أقنى (۷) الأنف يحسبه من لم يتأمله أشم (۸) العرنين ، أسيل الخد ، ضليع (۹) الفم، غزير (۱۰) اللحية ، جميل الجيد (۱۱)، عريض الصدر، واسع ما بين المنكبين ضخم الكراديس (۱۲)، طويل الزندين (۱۳)، رحب الراحة، شئن الكفين والقدمين ، لا بالمشذب ولا بالقصير ، مر بوعا أو أطول من المربوع، معتدل الخلق متماسكا لا بالبدين ولا بالنحيل واذا أقبل يتحرك نظر اليه الناظر فرأى رجلا يصفه الأقدمون بأنه القلب » ويصفه المحدثون « بالحركة الحيوية • يمشي فكأنما ينحدر من جبل وينحط من صبب ، و يرفع قدمه فيرفعها تقلعا كأنما ينشط بجملة جسمه، ويلتفت فيلتفت كله ويشير فيشير بكفه كلها، ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى ويضرب با بهام اليمني وراحة اليسرى، ويفتع الكلام بأشداقه ويختمه بأشداقه ، وربما حرك رأسه وعض شفته في أثناء كلامه وهو على هذه الحركة الحية جم الحياء: أشد حياء من العذراء ، نفاح المحيا، اذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه واذا و رضي تطلقت أساريره .. وتبين رضاه واقترن النشاط والحياء بالقوة والمضاء في هذه البنية الجميلة فكان عليه السلام يصرع الرجل القوي ، ويركب الفرس عاريا فيروضه على السير ، و يداعب من يحب بالمسابقة في العدو . قالت رضي الله عنها: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ، فقال صلى الله عليه وسلم للناس : تقدموا ! فتقدموا . ثم قال : تعالي حتى اسابقك فسابقته فسبقته ، فسكت . 4 ا- ابيض مشرق الوجه - الراس ۳- واسع ومستوي - همسترسل غير جعد - الزجج : دقة وطول في الحاجبين - وامع العينين أسودها ۷ محدود ۸ - الشهم ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء اعلاه ۹ - اول الانف هما پلي الفم ۲۰ - كتير شعرها ۱۱ - العنق ۱۴ - كل عظمين التقيا في مفصل از سه الزند : موصل طرفه الذراع في الكف [144]« حتى اذا حملت اللحم ، وكنا في سفرة أخرى قال صلى الله عليه و سلم للناس : تقدموا ! فتقدموا ثم قال تعالي اسابقك، فسابقته فسبقني فجعل صلی الله عليه وسلم يضحك ويقول : هذه بتلك ! » ۰ وهذا بعد أن قارب الستين - انها المسابقة تنم على فتوة (1) الروح فوق ما نمت عليه من فترة الأوصال و تجلت هذه الأريحية (۲) في علاقته بكل انسان من خاصة أهله أو من عامة صحبه . فرقته حاشية جده حتی عطفت على كل أسي ، ورحمت كل ضعف ، وامتزجت بكل شعور • مالك الله عنه : « دخل النبي عليه السلام على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا، فقال: يا أم سليم ! ما بال قال أنس بن رضي ابي عم حزينا ؟ 4 6 فقالت : يا رسول الله مات نغيره * تعني طيرا كان يلعب به فقال صلى الله عليه وسلم : أبا عمير ! ۰۰ما فعل النغير ؟ وكان كلما رآه قال له ذلك » وهذه قصة صغيرة تفيض بالعطف والمروءة من حيشما نظرت اليها ، فالسيد يزور خادمه في بيته ، و يسأل أمه عن حزن أخيه، ويواسيه في موت طائر ، ولا يزال يرحم ذكراه كلما رآه ومثل هذا : عطفه على الضعف البشري في رجل مثل عبد الله الخمار الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحده في العمر ولا يتمالك أن يضحك منه • قبول للدعابة وكان نعیمان بن عمرو أشهر الأنصار بالدعابة ، لا يقيل منها أحدا ولا يراه النبي فيتمالك أن يبتسم ، وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه و علمه بموقع الفكاهة من نفسه : جاء أعرابي إلى رسول الله ، فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه ، فقال بعض الصحابة لنعيمان : و لو نحرتها فأكلناها ؟ فانا قد قرمنا (۳) الى اللحم ، ويقوم النبي صلى الله عليه وسلم حقها ، فنحرها نعيمان ، وخرج الأعرابي فرای راحلته فصاح : ا. أي قوة 2- سعة الخلق ۲- اشتهيناه واشتقنا اليه 6 6 [145]
علي يا رسول الله هم رسول الله و فقال لهم د واعتراه یا محمد ! ۰۰» فخرج النبي يسال : « من فعل هذا ؟ قالوا : «نعیمان» ۰ ۰ فاتبعه النبي حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد : فأشار اليه رجل ورفع صوته : «ما رأيته يا رسول الله، وهو بشیر باصبعه إلى حيث هو ، فأخرجه رسول الله وقد تعفر وجهه بالتراب فقال : «ما حملك على ما صنعت؟» قال : والذين دلوك الذين أمروني ! » فجعل ره عن وجهه التراب ويضحك ، ثم غرم ثمن الراحلة ونعيمان هذا هو الذي باع عاملا لأبي بكر الصديق وهو يعلم أن النبأ وصل إلى النبي لا محالة سافر أبو بكر الى بصری تاجرا ومعه نعیمان و سويط بن حرملة عامله علی زاده ، فجاءه نعیمان ، وطلب اليه طعاما قاباه عليه حتى يأتي أبو بكر ، فأقسم نعیمان ليغيظنه ، وذهب الى قوم « تشترون مني عبدا لي ؟ قالوا : « نعم ! و قال :
« انه عبد له كلام ، و هو قائل لكم : لست بعبده • أنا رجل حر فان كان اذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا علي عبدي ۰۰ » قالوا : «لا بل نشتريه ولا ننظر في قوله ، فاشتروه منه بشر قلائص (۱)، ثم أداهم اياه فوضعوا عمامته في عنقه ، ولم يحفلوا بقوله ، وجعلوا كلما قال لهم : « أنا !انه يتهزا ولست أنا بعبده » سخروا منه وقالوا : بل عرفنا خبرك فدع عنك اللجاجة (۲)۰۰ فلما جاء أبو بكر سال عنه ، فقص عليه نعيمان قصته ، وذهبوا جميعا ليلحقوا بالقوم قیفتدوه ويعبدوه . ثم قدموا على رسول الله فضحك من فعلة نعيمان ، و جمل يذكرها حولا كاملا كلما رآه من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور ، بل بأعظمها جدا ووقارا : و هو اقامة الأديان ، واصلاح الأمم، وتحويل مجری التاريخ ثم يطيب نفسا للفكاهة ، و يطيب عطفا على المتفكهين ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ . فلابد صرامة (۳) تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الى أشباه ذلك = 6 ا- الاقوص من الإبل : الشابة ، او الباقية على السير ، او اول ما يركب من اثاثها ؟- الخصومة ۳ - حدة وشدة . و۱ [146]الحياة ، ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق الا دلت على شيء من ضيق الحظيرة (۱) و نقص المزايا وان نهضت بالعظيم من الأعمال . فاستراحة محمد الى الفكاهة : هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كل ناحية من نواحي العاطفة الانسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال وكان محمد يتفکه و يمزح ، كما كان يستريح الى الفكاهة والمزاح ، و كان دابه (۲) في ذلك كدأبه في جميع مزاياه : يعطي كل مزية حقها، ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمروءة . فعبد الله الخمار كان يجد من قلب النبي عطف القلب الكبير على نقيصة (۳) الضعف في الرجل السكير ، ولكنه كان يجد من تأديب النبي جزاء الشارب الذي يخالف الدين ، و يخل تماديه بالشريعة . عطف يجمل بالنبي على أحسن ما يكون ، لأنه يجمل بالانسان على أفضل ما يكون • واذا مزح محمد فانما كان يعطي الرضى والبشاشة حقهما ، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروعة .. فكان مزاحه آية من آیات النبوة، لأنه كان كذلك آية من آيات الانسانية ، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي کریم قال لسته صفية : لا تدخل الجنة عجوز !.. فبكت ، فقال لها وهو يضحك : الله تعالى يقول : «انا أنشأناهن انشاء - فجعلناهن . أبكارا • عربا أتراباه .. ففهمت ما اراد و ثابت (4) الى الرضی والرجاء . وطلب اليه بعضهم أن يحمله على بعير ، فوعده أن يحمله علی ولد الناقة ، فقال يا رسول الله ! ما أصنع بولد الناقة ! فقال : و هل تلد الا بل إلا الثوق ؟ وكان عليه السلام يقول لحاضنته السوداء ام ایمن وهي عجوز :« غطي قناعك يا أم أيمن ۱، ۰ وسمعها في يوم حنين تنادي بلكنتها الأعجمية : « سبت الله اقدامكم ! » فلم تنسه الغزوة القائمة أن يصغي اليها ، ويداعبها ا ا- أي القير - عادته وشانه ۳ . عيب - رهست ۱۹ [147]
بين نذر الحرب وصليل (1) السيوف، واقبل عليها يقول : «اسکتی يا أم أيمن فانك عسراء اللسان ! » فكانت هذه الدعابة في ذلك الموقف المرهوب كأنها تربیت (۲) سید الفصحاء على تلك اللكنة البريئة هي نه ويحبهم < وأنه . 4 أريحية محمد هذه الأريحية الفياضة هي الحلية الباطنة التي تمت بها حلية محمد في عيون الناس ، وهي جواب محمد لما كان له في قلوبهم من حب واعظام، أو الأسرة التي تجمع بين قلبه وتلك القلوب في نطاق الأسرة الانسانية : يحبو ، و يشعرون به ويشعر بهم ، وليس قصاري الأمر أنه محبوب وأنه مهیب سمت يقابل العيون بجمال و أريحية تقابل النفوس بجمال وقد سرت هذه الأريحية في صميم طويته ، فامتزجت طواعية وارتجالا بجمیع خصاله وجميع علاقاته بالناس ولا سيما الضعفاء والمكسورين • فكان أحرص انسان على جبر القلوب ، و تطبيبه الخواطر ، وتوخي المؤاساة ، واجتناب الاساءة ، يتفقد أصحابه كبارا وصغارا ويسأل عنهم ، ويتحدث الى ذوي الأقدار ، وعامة الناس ، فلا يحسب صغيرهم أن أحدا أكرم عليه منه ، ويتحدث اليه من شاء فلا يقطع عليه حديثه وان طال، واذا انتهى الى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ومن جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف ، وما أخذ احد بيده فأرسلها حتى يكون الأخذ هو الذي يرسلها ومن سننه التي اتبعها ، وأوصي باتباعها ، أن يجيب دعوة ، ولا يرد دعوة عبد ولا خادم ولا أمة ولا فقير ، وفي ذلك يقول من وصاياه في آداب الولائم والمحافل:« إذا اجتمع الداعيان فأجب أقر بهما بابا ، فان أقر بهما بابا أقر بها جوارا ، وان سبق احدهما فأجب الذي سبق » من دعاه اس آي موتها 2 - الربت : ضرب اليد على جنب الصبي قليلا لينام ؛ [148]يبدا من لقيه بالسلام ويمر بالصبيان فيقرئهم سلامه، وربما خفف صلاته اذا جاءه أحد وهو يصلي ليسأله عن حاجته ويلقاه بالتحية الغضب جهده ، ويعالجه اذا أحسه بعلاج من الروح ، فيقبل على الصلاة والتسبيح ، أو بعلاج من الجسد ، فيجلس اذا كان قائما ، و يضطجع اذا كان جالسا ، ويأبي الحركة التي ينزع اليها وهو غضبان 4 فلم پر < آدا به الاجتماعية وكان في آدا به الاجتماعية قدرة الرجل المهذب في كل زمان تل مادا رجليه بين أصحابه ، وتعود كلما زار أحدا ألا يقوم حتى يستأذنه ، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في اناء ، واذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وربما نهض بالليل فيشوص(۱) فاه بالسواك ، ولا يزال يستاكو يوصي بالاستياك بعد الطعام والتيقظ من النوم ، وكان يتطيب ويتحری النظافة ويقول لصحبه: «اغتسلوا الجمعة ولو كأسا بديناره • وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور، فيأكلون في جيل بأصابع اليد ، و يأكلون في الجيل الآخر بالشوكة والسكين ، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض ، وهي عرضيات يقاس بها عرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع ، فلا ضير (۲) على الناس أن تختلف عاداتهم باختلاف بيئاتهم من أمة لأمة ومن جيل لجيل ، وانما الضير فيما يتناول الطبع السليم ، والذوق الحسن ، وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان .. فلم يكن يهفو (۳) في حق احد . ولم يكن أحد يشكو من محضره بانصاف ، وذلك هو ملاك التهذيب الكامل في أصدق معانيه صاحب هذا السعت رسول وصاحب هذه الآداب رسول 6 6 . ا. بلطف ۴- ضرر ۳- اي يخطىء ۱۶۸ [149]وخلاصة سنه و آدا به: أنها سماحة في الانظار ، وسماحة في القلوب. فالسماحة، هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها ، والسماحة هي العفة التي ترقت في محمد الي ذروة (۱) الكمال ومن يكون الرسول ان كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة ؟ الرسول: هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعا يأمرهم بالحسن ، وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم ، ومن كان هذا عمله الاول فينبغي أن تكون صفته الأولى - بل صفته الكبرى - أن يستفني عن الوازع، و أن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه ، وهذه هي السليقة (۲) الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله ، فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير ، وصيانة الحرمات للعاجز و القدير . هذه علامة رسالة لا علامة أصدق منها ولا أجدر منها بالقبول، لأنها علامة من داخل السريرة .. وليست علامة من خارجها قد تلازم أو تفارق من تعروه (۳) وليس للنوع البشري مقياس صحیح يقاس به محمد ، فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل يعطيه هذه المرتبة. من يدين بالاسلام ، ومن يدين بغير الاسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل پر مي الي مقصد أسمى وأنبل من تقديم تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين 6 عزيمة الزهد والايمان وليس أولى بالحب والتبجيل ممن يطلب خير الناس ويزهد في نعمة العيش وهي بين يديه فقد ثبت أن محمدا لم يستمتع بدنياه ، ولم يشبع ثلاثة أيام اس اعلاه ا . الطبيعة ۲. تغشاه + [150]< هر من هنا » رحی « تباعا حتى مضى لسبيله ، وقالت عائشة رضي الله عنها : « لقد كنت أبكي رحمة له مما أری به وأمسح بيدي على بطنه مما اری به من الجوع واقول : نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقوتك ، فيقول : « يا عائشة ! مالي وللدنيا اخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما أشد وقالت زوجه أم سلمة تصف ما وجدته في بيته ليلة عرسها : فاذا جرة فيها شيء من شعير ، واذا و برمة وقدر وكعب ، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، و أخذت الكسب فادمته ، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أهله ليلة عرسه ! » • رآه عمر وقد أثر في جنبه حصير فقال له : « یا رسول الله ! قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير، و فارس والروم قد عليهم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا وقال:« أني شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ! • ولقد مات ودرعه مرهوتة ، ولا ميراث لأهله مما ترك من عقار ، وهو قليل أن يقول قائل في قدر هذا الرجل - آمن به او لم يؤمن ؟ ايقول : أنه رسول ، وانه كان يعلم أنه رسول ، فصدع بأمر ربه واحتمل ما احتمل في سبيل طاعته ، وفي سبيل اصلاح خلقه؟ تلك اذن منزلة الأنبياء التي تستوجب مقام أصفياء الله عند من يؤمن بالله ؟ أم ينكر النبوات و يقول : انه رجل أراد الخير وهو لا يعلم أنه رسول و لا أن الله مطالبه برسالته الى خلقه، ولكنه تجرد لهدايتهم في غير مارب (1) يناله ، ولا نعمة ينعم بها، لأنه لا يطيق لهم شرا ، ولا ينتظر في الدنيا ولا الآخرة من جزاء ؟ من قال هذا و غض (۲) من قدر رجل يحب الناس ذلك الحبه ويغار على هدا يتهم تلك الغيرة فهو انسان ممسوخ الضمير.. = ه فما عی اس مقصد وغاية 1- اي اخفي • = 1o. [151]6 & . فمحمد الرجل في المقام الأول بين الرجال : في المقام الأول بخلقته ، وفي المقام الأول بنيته ، وفي المقام الأول بعمله ، وفي المقام الأول بالقياس الى المشبهين له في دعوته ونرى عن يقين أنه لم يحرم نفسه ذلك الحرمان الا استزادة الأسباب الايمان ، وشحذها (۱) للعزيمة في سبيل ذلك الايمان واعذارا الى الله والى الناس فيما تجرد له من اصلاح لأن محمدا لم يكن كارها لطيبات الدنيا ، ولا حاضا (۲) الأحد على كراهتها والاعراض عنها . فاذا قنع بما قنع فعل ذلك ليرتفع بايمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره كأنه بخشی اذا استوفی محظوظ النعيم الميسرة له أن يحسب تلك الحظوظ غرضا من الأغراض التي نظر اليها حين نظر الى هداية الناس فليكن الايمان اذن هو كل غرض و كل عمل وكل جزاء وتلك راحة ضميره ، ومن وراء راحة ضميره أن يظفر الناس بجهده كله في هدايتهم غير منقوص ولا مظنون اذا هدى الناس ، واستمتع بالعيش ، خشي أن يحسبا 6 من آماله
هي و - واذا هدى الناس و کفی ، كانت الهداية جملة الآمال وغاية الآمال فلينقص حفله من العيش ليكمل حظه وحظ أمته من ایمانه ، وليتم بذلك حسابه لنفسه ، وحسابه عند الله وحسابه بين الناس وما حساب أولئك جميعا ؟ حساب رجل هو وازع نفسه في السر والعلانية ، وهو احق الناس أن يقيم واز عا للناس رجلا ولا کمثله الرجال . ا- اي مضاء؟ - خفه : اي حقه 1 101
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/محمد في التاريخ
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ الرجل محمد في التاريخ
المؤلف: عباس العقاد ←
[152]
محمد في التاريخ
اتصال التاريخ بمحمد
أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدا في عبقريته ، أو محمدا في نفسه ، أو محمدا في مناقبة التي يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية ، ومن لا پله ين برسالة ونريده بهذا الفصل . مس وهو خاتمة الكتاب ب أن نذكر كلمة موجزة عن محمد في التاريخ ، أو محمد في العالم وأحداثه الخالدة ، وهو بحث يغنينا فيه الايجاز ، لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان محمد فيه محمد في نفسه عظیم بالغ في المنظمة وفاقا لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة • فما مكان هذه العظمة في التاريخ ؟ ما مكانها في العالم و أحداثه الباقية على تعاقب (۱) العصور ؟ مكانها في التاريخ : أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله ، وأن حادثا واحدا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله فلا فتوح الشرق والغرب ، ولا حرکات اوربا في العصور الوسطى ، ولا الحروب الصليبية ، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب ، ولا كشف القارة الأمريكية ، ولا مساجلة الصراع بين الأوربيين والآسيويين والافريقيين ، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات ، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة ، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت، واقعة في . + ان اي توالی ۰ ۱۵۲ [153]الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة واحدى وسبعين سنة من مولد المسيح كان التاريخ شيئا فأصبح شيئا آخر ، توسط بينهما ولید مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام الى هذه الغبراء (۱) ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء ما أقواها بعد ذلك أثرا في دوافع التاريخ ما أضخم المعجزة وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال ، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك پسنين حيثما يبحث عنها المنجمون والعرافون
فتوح ایمان
على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح ، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان . وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ ، ويبعث دوافع الشعوب أما غير الجائز فهو أن تنفتح للانسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان ، و بغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار ولقد فتح الاسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالما مغلقا تحيط به الظلمات ، فلم يزد الارض بما استولى عليه من أقطارها ، فان الارض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم (۲) وراء التخوم ، ولكنه زاد الانسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة ، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ، ودنا به مرتبة الى الله يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير فمن أنكرها فانما ينكر تقدم الانسان كثيرا أو قليلا في هذه 6 الطريق عقد عالم اور بي مقارنة بين محمد و بوذا والمسيح فسال : اس الارضي - الحدود [154]. اليس محمد نبيا على وجه من الوجوه ؟ » ثم أجاب قائلا : «انه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء : فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله ، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة ، وانه لخليق (۱) في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر (۲) الأنبياء شجاعة و بطولة بين بنی اسرائیل ، لأنه جازف بحياته في سبيل الحق ، وصبر على الايذاء يوما بعد يوم عدة سنين ، وقابل النفي والحرمان والضغينة (3) ، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة ، فصابر علی الجملة قصارى (4) ما يصبر عليه انسان دون الموت الذي نجا منه بالهجرة ، ودأب (5) مع هذا جميعه على بث (6) رسالته غير قادر على اسكاته وعد ولا وعید ولا اغراء وربما اهتدي إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان ، الا أن أحدا آخر غير محمد لم يقم في العالم مثل ما أقام به من ایمان بالوحدانية دائم مكين ، وما أتيح له ذلك الا لمضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الايمان . فاذا سأل سائل : « ما الذي دفع بمحمد الى اقتناع غيره حيث رضي الموحدون بعبادة العزلة ؟ فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في ايمانه بصدق ما دعا اليه » والحقيقة التي يراها المنصف مسلما كان أو غير مسلم ، هي هذه : هي أن فتوح محمد فتوح ایمان ، وأن قوة محمد قوة ایمان ، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة ، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل . لقد جاء الاغراء الذي أشار اليه العالم الأوربي وهو داع مهدد في سربه ، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته ، فيا حفل (۷) بالاغراء و هو بعيد من مقعده ، ولا حفل به وهو واصل اليه جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة وهو في مبدا أمره فقال له واعدة ملطفا بعد أن أعياهم (۸) تخويفه متوعدين : « يا ابن أخي ، انك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبا و نسبا ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني < 6 6 او الجدير ؟ - أعظمهم واكثرهم ۳ - الحقد - اي غاية و - بابه من عمله : جد وتعب - نشر ۷ - اي اهتم 4 - اجهدهم : ۱۰ [155]أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها . فقال عليه السلام : قل يا أبا الوليد . فقال : يا ابن أخي ! ۰۰ آن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت تريد شرفا سود ناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وان كان الذي يأتيك ردیا(۱) من الجن لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه » . فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم ثم تر که يعود كما أتی 6 ثم أدرك النبي غاية ما سعى اليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب ، ولم يكن التعيم المستطاع أفعل في اغرائه من النعيم الموعود ، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم به عتبة بن ربيعة وكان النبي أزهد فيه من زهره في النعيم الموعود فلم كل هذا ؟ لم هذا الجهاد ؟ و لم هذا العناء (۲) ؟ ولم هذا الصبر ان لم يكن في سبيل الايمان ؟ وأي نبي له من الايمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ، ورسالة أكبر من هذه الرسالة ؟۰۰ وأي انسان يعرف تعظيم الأنبياء ان لم تظفر نبوة محمد عنده . بالتعظيم ؟ التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه (۳) : حكمه أنفذ من حكم الشانئين والاصدقاء ، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين ، و أنفذ من حكم المتدينين و الملحدين وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهد بين ، وكان في عمله أعظم الرجال أثرا في الدنيا ، و كان في عقيدته مؤمنا يبعث الايمان ، مصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان - و سيطلع في الأفق هلال و يغيب هلال ، و سيذهب في الليل قمر ويعود قمر ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت التاريخ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ، ولا مواعد الاشغال ، ولا أدوار الدواوين والحكومات ، ولا ينتظرونها الا هداية مع الظلام ، وسكينة مع الليل : أشبه شيء بهداية العقيدة في غياهب (4) الضمير 4 أنه حكم الله . . ده 9 . ا- هسا 2- التعب ۳ - حيفضية - اي ظلمات . 100 [156]الحمد هو الي يوم كان 4 كان الغار ستطلع الأقمار بعد الأقمار ، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية ، و كأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يوميء (۱) الى بقعة من الارض : هي غار الهجرة ، أو يومي اجمل أيام . محمد ، لأنه أدل الأيام على رسالته، و أخلصها لعقيدته ورجاء سريرته ، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بالهام لا يعلوه تفكير ولا تعلیم الم الهجرة ابتداء التاريخ في الاسلام ، ولم يكن يوم الدعوة ؟ ولم لم يكن يوم بدر ، ، أو ولادة النبي ، أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ .. كل يوم من هذه الأيام في ظاهر الرأي و عاجل النظر أولى بالتاريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءا لتاريخ الاسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والايمان و مواقف الخلود من كل مؤرخ و كل مفكر يرى غير ما رآه لأن العقائد انما تقاس بالشدائد، ولا تقاس بالفوز والغلب: كل انسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة ، أما التفس التي تعتقد حقا ، و يتجلى فيها انتصار العقيدة حقا فهي النفس التي تؤمن في الشدة وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء وليس أحق بالتاريخ اذن من اليوم الذي هجر فيه النبي بلده ۰۰۰ و اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في النار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة العليا والله عزيز حكيم (۲) ليقل من قال : ان التوقيت بما قبل الهجرة وما بعدها كان توقيتا معروفا على عهد النبي عليه السلام .. وليقل من قال : آن دخول المدينة هو المقصود بالتاريخ من الهجرة عظيم ليقل من قال هذا أو ذاك ، فان تاريخ النصر في القرآن ظاهر اذ هو « ثاني اثنين » في النار ا 9 « ، وهو يوم اس يضير 1- الآية : 44 من سورة التوبة - 101 [157]وان ابن الخطاب لنبيل ملهم الفؤاد - سواء كار هو المقترح او مجیب الاقتراح . حين نظر إلى غار « ثور » ولم ينظر في التاريخ الى نصر المدينة ولا إلي نصر بدر ، ولا الى نصر أحد ، ولا الى نصر فارس ، ونظر الى تلك « الجنود التي لم تروها » وقد نراها نحن الآن يوم الدعوة لم يكن يوم الاسلام الاول ، لأن الدعوة كلمة يستطيعها كل انسان ، و يستطيع النكول (1) عنها بعد قليل أو كثير . ويوم میلاد النبي لم يكن يوم الاسلام الاول ، لأن ميلاد محمد لم يكن معجزة الإسلام كما كان ميلاد عیسی معجزة المسيحية ، ولأن محمد بشر مثلنا في مولده ولكنه سيد الرسل ، يوم دعا ، و يوم تجا بالدعوة إلى حيث تنجو و حیث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصديق ، وهما اثنان في غار كذلك تؤرخ العقائد والأديان : بالشدة تاريخها ، وليس بالغنائم والفتوح وانها لشيء في القلوب ، فلنعرفها اذن حين لا تكون الا في القلوب ، وحين يكون كل شيء ظاهر كأنه ينكرها وينفي وجودها وهي يومئذ من الوجود في الصميم عقيدة ورجاء الغار ليوم له عبر ته وعزاؤه في كل يوم ولا سيما ایام القلق والحيرة والانتظار عقيدة : فهو يوم رجاء ، ويوم نظر الى المستقبل الذي ينظر اليه من ليس له رضي في حاضر عهده ، وحاضر العالم في عهده لا يرضى أحدا من محبيه حیشما غلبت الحيرة والقلق في العالم فهنالك أمر واحد کن منه على أتم اليقين : كن على يقين أن العالم يبحث عن عقيدة روحية ! لأنه يضيق بالحاضر و ينظر إلى المستقبل ، و كل مستقبل فلا محل له من جوانح الصدور ان لم يكن موضع رجاء و مرجع ایمان ، وغاية سعي يستحق الكفاح و في التاريخ الانساني كله لم تقم قط حركة عظيمة على الماضي الذي لا مستقبل بعده، الحركات العظمی جمیعا على الر جاء في غد محجوب (۲) اس النكوض والرجوع ۴. مستور غير مرئي ' انه انما تقوم 10V [158]او على شيء يمكن أن يتحقق في حياة الانسان ، وشيء يبقى ابدا موضع الرجاء البعيد لقد كان علي فتى يستقبل الدنيا ، وكان أبو بكر کھلا پد بر عنها أعانا محمدا في يوم حراء ولكنهما كانا معا على أبواب غد واحد ورجاء واحد ، يستوي فيه الفتي والكهل والشيخ الدالف (۱) الى قبره ، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء المیان (۲) - المستقبل للايمان ماذا فتح الاسلام لأبي بكر من عوالم الحياة ؟ هل رجع به إلى الماضي ، أو أقبل به على المستقبل ؟ هل مشي به في حركة الى أمام أو قفل (۳) به في رجعة الى وراء ؟ الحق أن الاسلام مثل المستقبل للشيخوخة كما مثل المستقبل للشباب ، وانفصل من حالة لا تبقى ليتصل بحالة يرجي لها البقاء ، و كان يفتح أمام أبي بكر - وليس أمام علي وحده - باب الحياة الصالحة في الدنيا ، و باب الحياة الخالدة في الآخرة .. وهكذا كل عقيدة فما هي بعقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد أن كان خيرها كله شيئا يناله الانسان في أيامه .. فلا مناص في العقيدة من خير وراء أيام الفناء . ليذكر هذا جميعه من يتحفزون (4) للنهوض ومن يبتغون الحركة، و يقودون الخطوات المقبلة في عجلة أو أناة (5) لن تتحرك أمة الا اذا فتحت أمامها باب المستقبل، ولن تلتفت الى الماضي الا اذا كان التقاء بالمستقبل ، ولن تعيره الحياة الا وهو مبعوث من جديد في صورة الخلق الجديد ليذكر هذا من يحارون في أمر العالم اليوم وهو غارق في دمائه ، ضائق بحاضره ، معرض عن ماضيه. فيم يحار ؟ في طلب المستقبل ، في طلب العقيدة ، في طلب المسوغ للوجود لأن الوجود وحده لا يكفي الانسان الا أن يكون على طبقة مع الحيوان - فالايمان للمستقبل . • و عسى أن يكون المستقبل للايمان أن يجد العالم عزاء باقيا من يوم النار ون صاحب و عسی يوم : النار . ا- الذي يمشي مشي المقيد وفوق الدبيبه - المشاهدة ۲- رجع وعاد - اي پستعدون 5. تمهل وهمسر TOA
======
=====
===========================
وبعد :
فان الكتابة في رسول الله ، والقراءة عن رسول الله ، عمل تهنأ به النفس ، وينشرح له الصدر ، ويتفتح معه القلب ، ويأخذ بمجامع اللب ، وتستريح في ظله الخواطر ، وتتسع في رحابه الابصار والبصائر وكيف لا ؟ ومحمد وحده نبع صافي ، وري شافي ، وهدي وسيرته العطرة لا ينضب معينها ، ولا يجف مدادها، لأنها متلاحمة مع كلمات الله : ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾
وكيف لا وهو مثال الانسانية الكاملة ، وملتقى الأخلاق الفاضلة ، وحامل لواء الدعوة العالمية الشاملة !!
اما انسانيته : فقد ولدت معه ، ولازمته في اطوار حياته ، وميزته على سائر أقرانه ولدانه ، وصانته من كل زلل ، وحمته من كل شطط ، ودفعته دائما الى الخير، ومثالية السلوك .
فكان نبنة رطبة بين قلوب قد تست ، وطباع قد غلظت ، وعواطفه قد جفت ، ومشاعر قد تلبدت ، وعقول قد تحجرت
وكان زهرة نضرة وسط غابة من الاشواك ، في اطرافها حدة ، وفي جذوعها خشونة وغلظة ، وفي لمسها اذى وايلام
وكان شجرة سامقة مثيرة ظليلة ، وسط صحراء قاحلة ، وفلاة مجدبة ۰۰. وهو في حالاته الثلاث : كثير النفع
ولا عجب انن - تبل أن يكولا رسلا - ان سلطت عليه الأضواء ، ولم تتنازع في انسانيته الأهواء ، وانتزع - عن جدارة . - من بين القلوب الغلاظ ، والالسنة الحداد ، اعترافا بعفة نفسه ، وعذوبة حبسه، وسمو سلوكه ، وعلو انسانيته ... كان الصادق الأمين !
واما اخلاقه : فكانت مستمدة من عند الله ، فهو بس سبحانه الذي منعه على عينه ، وأحبه فأحسن تأديبه ، وجعله بشرا سويا ، وخلقا رضياء وكيف لا وقد سئلت ام المؤمنين عائشة - رضوان الله عليها - عن أخلاقه، فاجابت : « كان خلقه القرآن )
وهل القرآن الا كتاب الله ، وهدي السماء $$
وكيف لا؟ – ايضا سه والهدفه من رسالته ، والغاية من دعوته ، ما انصح عنه في عبارته : « انما بعثت لاتمم مكارم الأخلاق »
[3]وكان أحب الناس اليه : احسنهم خلقا ، وأكثرهم انبا، وأقومهم سلوكا « اإِنَّ أَحَبَّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي منازل يوم القيامة، أحَسانُكُمْ أَخْلَاقًا الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون » !!
وكان ارفع وسام لرسول ، واسمي وصف النبي .. ما جاء في محكم التنزيل : « وانك لعلى خلق عظيم »
ومما لا ريب فيه ، أن اخلاقياته وشمائله عليه أفضل صلاة وأزکی تسليم . - قد انعكست على أصحابه ، وتأصلت في هديه ، وكانت الصوت العالي في دعوته ، والنور الساطع المشع من رسالته ، نعمت ، واستمرت - ولو لم يتخلق بها المعرضون ت وكفاها انها اخلاق محمد .. أو اخلاق القرآن واما عن الدعوة في عمومها وشمولها :- نكانت نورا بدد الظلام وعدلا مسخ الظلم وأملا أطاح باليأس .. وفيما بعد جفاف وارتواء بعد مدى .. حبيت الداء ، ووصفت الدواء ، ليسلم الناس .. كل الناس ، وتسعد البشرية .. في ظل القيم الاسلامية ، وتتخطى حواجز الخلل التي ابعدتها عن فطرتها ، ونات بها عن قيمتها ، وتحيا في جو من الانسانية .. يؤمن بانسانية محمد .. وعظمة محمد .. وعبقرية محمد . والعبقرية ، منة خلعها الكتاب ، والأدباء ، والباحثون ، علي كل حانق بارع في فن من الفنون ولو قارنا بين عبقرية محمد .. وعبقرية غيره : لوجدنا أن عبقرية غيره تد انحصرت في جانب من الجوانب ، أو اتجاه من الاتجاهات في مدلولها محدودة في آناتها . قاصرة عن عموم النفع ، وشمول لاح اما عبقرية محمد : نقد برزت في كل مناحي القيادة ، والاخلاق ، والدعوة ، بل في كل مناحي الحياة .. مما جعلها عبقرية شامخة وفريدة وصلت في شموخها عنان السماء ، فلو تدانت منها غيرها لهوت ، ولو حلقت اليها غيرها لسقطت ومن هنا ... ظهرت « عبقرية » العتاد في كتابه عن « عبقرية محمد »، والأستاذ العقاد : مشهود له بالالمعية والذكاء ، وهو غني من التعريفا ، ولا يحتاج الى أضواء تسلط عليه .. نقد عودنا ان يكون هو السلط للاضواء . بيد اننا نريد ان نقول : ان الاستاذ العتاد قد تصدى في هذا الكتاب للدفاع عن رسول الله ، والذود عن شرعته ، والرد على شانتيه ممن اجتراوا على مناواته ، والاتيان بالبرهان تلو البرهان : على اثبات عظمته ، وعظمة دعوته، وقدسية رسالته ، وسمو عبقريته وهل يفعل ذلك الا محب غيور ، وحانت و « عبقري » بلا تطاول ولا غرور ؟؟ لقد تناول الكشف عن عبقرية محمد في قوله وفعله ، بل في سكوته ونكره .. فأناد .. واجاد ، واستعرض نلبدع ، واستقصی نشبع، وتألقت غيرته على محمد - صلى الله عليه وسلم س في رد سهام مناوئيه الى نحورهم ، واتحامهم في كل باطل من دعاويهم وتن لهؤلاء اللاغطين والمغالطين بالمرصاد ، وتعقبا ل لنط لهم وغلط
[4]فأظهر كيدهم ولجاجتهم وافتراءهم في ادعائهم : أن الإسلام قد قام على حد السيف ، وأن محمدا كان يستهوي القتل ، ويتعشق رؤية الدماء ، وان دين محمد قد أباح العبودية ، وأجاز الرق ، وأن تعدد زوجات محمد كان استجابة للذات حسه ، وان الإسلام تد تخطي الإنصاف في إباحته تعدد الزوجات ، وتوقيع العقوبة عند نشوز الزوجة ، وجواز الطلاق الخ .
واستطاع العقاد - في اقتدار وإبداع - أن يحيل مواطن التهم - كما أرادوها - إلى مواقف عظمة ، وعبقرية ، وفخار
ولست براغب في سرد كل ما حواه الكتاب من أبحاث ... لأترك للقارىء الكريم فرصة المتعة في البحث عن الدرر..
بيد أني راغب في الإفصاح عن شعوري نحو هذا الكتاب ، وما رغبت في تلك إلا لأنه قد أبكاني ، وأضحكني ... أبكاني حتى انتفضت ، وأضحكني حتى استلقيت ... أبكاني عند عرضه لإسلام عمر .. وأبكاني عندما وصف حالة رسول الله لما توفي ابنه إبراهيم.
وأضحكني عندما قرأت عن دعابات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومزحه ، وحسن قبول الدعابات في نفسه ، وما كان من أمر نعيمان بن عمرو . وعبد الله الخمار ..
على أن هذه المواقف لم تكن جديدة علي عندما قرأت هذا الكتاب ولكن الذي حرك المشاعر ، وأثار الخواطر ، وأهاج الأحاسيس ، حتى اضحك .. وابكي .. إنما هو : جمال العرض ، وصدق التعبير، ودقة التحليل ، وروعة الاستقصاء ...
وهذه سمات تميز بها العقاد.
فجزاه الله خير الجزاء.
مهدي عبد الحمید مصطفی
مبعوث الأزهر الشريف في لبنان
..
=======
مقـَـدّمــة
تعود بنا هذه المقدمة ثلاثين سنة، إلى اليوم الذي سمعت فيه أول اقتراح بتأليف كتاب عن محمد عليه السلام.
وكنت أقيم يومئذ في ضاحية العباسية البحرية على مقربة من الساحة التي كانت معدة للاحتفال بالمولد النبوي في كل عام.
ولنا رهط[1] من الأصدقاء المشتغلين بالأدب، يشتركون في قراءة كتبه العربية والإفرنجية، ويترددون معًا على الأحياء الوطنية، وقلَّما يترددون على غيرها، فلا يزالون متنقلين فترة بعد فترة، بين الحي الحسيني والحي الزينبي، أو بين منشية القلعة، وضاحية العباسية، أو بين الروضة والخليج … على حسب المناسبات، وعلى غير مناسبة في كثير من الأوقات.
وكان رهطًا له نقائض[2] الدنيا مجتمعات: نقائض الشباب، ونقائض الحياة الفنية، ونقائض الاختلاف في البيئة بين ناشئ في العاصمة وناشئ في الريف وناشئ في الصعيد وناشئ في الثغور[3]، إلى غير ذلك من النقائض التي كانت حلية لهذه الجماعة، ولم تكن فيها من دواعي التفرق والشتات.
* * *
ومن عجائبها أن الذي كان يغريها بالأحياء الوطنية هو قراءتها في الكتب الإفرنجية التي كانت شائعة[4] بينها؛ لأنهم كانوا يقرءون أكثر ما كانوا يقرءون كتب «ديكنز» و«هازليت» و«لي هانت» و«كارليل» وهم كتَّاب مولعون[5] بعرض الأخلاق الاجتماعية ودراسة العادات المحلية، وتمثيل الريفيين والحضريين[6] في أوضاعهم المختلفة، ولهم فصول عن الأسواق، والدكاكين، والباعة، تفيض بحسن الملاحظة، وبراعة الفكاهة، ومتعة القراءة، وتُعَوِّد من يدمن قراءتها أن يتحرى نظائرها[7] حيثما رآها.
ففي يوم من أيام المولد — والرهط يزورني لِنَؤُمَّ[8] الساحة [6]مجتمعين في المساء — كان الكاتب الإنجليزي العظيم «توماس كارليل» هو محور الحديث كله؛ لأنه كما يعلم الكثيرون بين قراء العربية، صاحب كتاب «الأبطال» الذي عقد فيه فصلًا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وجعله نموذج البطولة النبوية بين أبطال العالم الذين اختارهم للوصف والتدليل.
* * *
وإنا لنتذاكر آراءه ومواضع ثنائه على النبي، إذ بدرت[9] من أحد الحاضرين الغرباء عن الرهط كلمة نابية[10] غضبنا لها واستنكرناها لما فيها من سوء الأدب وسوء الذوق وسوء الطوية[11]. وكان الفتى الذي بدرت منه الكلمة متحذلقًا[12]، يتظاهر بالمعرفة، ويحسب أن التطاول على الأنبياء من لوازم الاطلاع على الفلسفة والعلوم الحديثة … فكان مما قاله: شيء عن النبي والزواج، وشيء عن البطولة، فحواه أن بطولة محمد إنما هي بطولة سيف ودماء!
قلت: «ويحك![13] … ما سوَّغ[14] أحد السيف كما سوَّغته أنت بهذه القولة النابية!»
وقال صديقنا المازني: «بل السيف أكرم من هذا، وإنما سوغ صاحبنا شيئًا آخر يستحقه … وأشار إلى قدمه!»
وارتفعت لهجة النقاش هنيهة[15]، ثم هدأت بخروج الفتى صاحب الكلمة من النَّدِي[16]، واعتذاره قبل خروجه بتفسير كلامه على معنى مقبول، أو خيِّل إليه أنه مقبول.
وتساءلنا: ما بالنا نقنع بتمجيد[17] «كارليل» للنبي، وهو كاتب غربي لا يفهمه كما نفهمه، ولا يعرف الإسلام كما نعرفه … ثم سألني بعض الإخوان: «ما بالك أنت يا فلان لا تضع لقراء العربية كتابًا عن محمد على النمط[18] الحديث؟»
قلت: «أفعل … وأرجو أن يتم ذلك في وقت قريب.»
ولكنه لم يتم في وقت قريب … بل تمَّ بعد ثلاثين سنة! … وشاءت المصادفة العجيبة أن تتمَّ فصوله في مثل الأيام التي سمعت فيها الاقتراح لأول مرة … فكتبت السطر الأخير فيه يوم مولد [7]النبي على حسب الشهور الهجرية، واتفقت هذه المصادفة على غير تدبير مني ولا من أحد؛ لأني لم أدبر لنفسي أوقات الفراغ التي هيَّأت لي إتمام فصوله، وتقسيم العمل فيه يومًا بعد يوم.
* * *
والخيرة في الواقع..
والخيرة كذلك في هذا التأخير..
فإنني لو كتبته يومئذ لعدت إلى كتابته الآن من جديد، واحتجت إلى السنين الثلاثين أضيف خبرتها وقراءتها ورياضتها النفسية والفكرية إلى محصول ذلك العمر الباكر[19].. إذ هو عمر يستطيع المرء أن يمتلئ فيه إعجابًا بمحمد؛ لأنه عمر الإعجاب والحماسة الروحية، بيد أنه لا يستطيع أن يقيسه بمقياسه وأن يشعر بشعوره في مثل تجاربه، وفي مثل السن التي اضطلع فيها بالرسالة وإن تقارب السن هنا لضرورة لا غنى عنها لتقريب ذلك الشأو[20] البعيد من شتى[21] نواحيه.
أين كنا قبل تلك السنين الثلاثين؟!
إنها مسافات في عالم الفكر والروح لو تمثلت مكانًا منظورًا، لأخذ المرء رأسه بيديه من الدوار وامتداد النظر بغير قرار.
كم رأي … كم مذهب … كم وسواس … كم محنة … كم مراجعة … كم زلزال يتضعضع[22] له الكيان وتميد[23] معه الدعائم[24] والأركان … كم، وكم في ثلاثين سنة مما يطرق نفسًا لا تعفيها الحياة من التجارب والعوارض[25] لمحة عين في نهار … وكم لذلك كله من أثر في توطيد[26] الرأي وتهدئة الثوائر[27] وتجلية الغبار … وكم يضيف ذلك كله إلى الشباب الباكر الذي كان يحلم يومئذ بالعظمة في كل أوج[28]، وبالأوج المحمدي في عليا مراتب الأنبياء!
الخيرة في الواقع.
الخيرة في ذلك التأخير.
واليوم ونحن نضع كتابنا هذا عن «عبقرية محمد» بين يدي [8]القراء؛ لا نقول .. إننا قد استوفيناه كما أردناه، ولا إننا فصلنا فيه الغرض الذي توخيناه[29] .. ولكننا نقول إننا التزمنا فيه الباعث الذي أوحى الاقتراح بتأليفه لأول مرة. كأننا شرعنا في كتابته مساء ذلك اليوم قبل ثلاثين سنة، فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط[30] بها الأغرار[31] والجهلاء عن حذلقة[32] أو سوء نية، ونظرنا اتفاقًا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف محمد من الحرب ومن الحياة الزوجية .. لأنهما كانا مثار اللغط تلك الليلة على مقربة من ساحة المولد، وكانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين[33] من الأصلاء والمقتدين في هذا الباب .
* * *
فسيرى القارئ أن «عبقرية محمد» عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السير العربية والإفرنجية، التي حفلت بها «المكتبة المحمدية» حتى الآن .. لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال متسع لعشرات من الأسفار[34] في هذا الموضوع، ثم لا يقال إنه استنفد كل الاستنفاد.
وليس الكتاب شرحًا للإسلام أو لبعض أحكامه، أو دفاعًا عنه، أو مجادلة لخصومه .. فهذه أغراض مستوفاة في مواطن شتى[35]، يكتب فيها من هم ذووها[36] ولهم دراية بها وقدرة عليها.
إنما الكتاب تقدير «لعبقرية محمد» بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين به المسلم وكفى، وبالحق الذي يثبت[37] له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى.
فمحمد هنا عظيم .. لأنه قدوة المقتدين في المناقب التي يتمناها المخلصون لجميع الناس ..
عظيم؛ لأنه على خلق عظيم ..
[9]وإيتاء العظمة حقها لازم في كل آونة[38] وبين كل قبيل .. ولكنه في هذا الزمن وفي عالمنا هذا ألزم منه في أزمنة أخرى، لسببين متقاربين لا لسبب واحد: أحدهما أن العالم اليوم أحوج مما كان إلى المصلحين النافعين لشعوبهم وللشعوب كافة .. ولن يتاح لمصلح أن يهدي قومه وهو مغموط[39] الحق، معرض للجفوة[40] والكنود[41].
والسبب الآخر أن الناس قد اجترءوا على العظمة في زماننا بقدر حاجتهم إلى هدايتها .. فإن شيوع الحقوق العامة قد أغرى أناسًا من صغار النفوس بإنكار الحقوق الخاصة، حقوق العلية[42] النادرين الذين ينصفهم التمييز، وتظلمهم المساواة .. والمساواة هي شرعة[43] السواد[44] الغالبة في العصر الحديث.
* * *
ولقد جار هذا الفهم الخاطئ للمساواة على حقوق العظماء السابقين، كما جار على حقوق العظماء من الأحياء والمعاصرين، ثم أغرى الناس بالجور بعد الجور[45] غرورهم بطرائف العصر الحديث، واعتقادهم أنه قد أتى بالجديد الناسخ[46] للقديم في كل شيء .. حتى في ملكات النفوس والأذهان، وهي مزية خالدة لا ينسخ فيها الجديد القديم.
يرون أن البخار يلغي الشراع[47]، وربما كان الاختراع السابق أدل على القدرة وأبين عن الفضل من الاختراع الذي تلاه، ولم يكن ليتلوه لولا ما تقدم عليه ..
وينظرون إلى أقطاب الدنيا كأن الأصل في النظر إليهم أن يتجنوا عليهم ويثلبوا[48] كرامتهم، ولا يثوبوا[49] إلى الاعتراف لهم بالفضل إلا مكرهين، بعد أن تفرغ عندهم وسائل التجني والثلب والافتراء[50].
هذه الآفة حِطَّةٌ تهبط بالخلق الإنساني إلى الحضيض[51]، وتهبط بالرجاء في إصلاح العيوب الخلقية والنفسية إلى ما دون الحضيض ..
[10]فماذا يساوي إنسان لا يساوي الإنسان العظيم شيئًا لديه؟ وأي معرفة بحق من الحقوق يناط[52] بها الرجاء إذا كان حق العظمة بين الناس غير معروف؟ .. وإذا ضاع العظيم بين أناس، فكيف لا يضيع بينهم الصغير؟ .
لهذا كان تقدير «محمد» بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعًا في هذا الزمن الذي الْتَوَتْ فيه مقاييس التقدير ..
إنه لنافع لمن يقدِّرون محمدًا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار[53] بإنكار، ولا ينال منه بغي[54] الجهلاء إلا كما نال منه بغي الكفار .
وإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدًا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها … لأن مسلمًا يقدر محمدًا على هذا النحو يحب محمدًا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس.
وحسبنا من «عبقرية محمد» أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية، إلا أن يَرِينَ[55] العنتُ[56] على الطبائع فتنحرف عن السواء وهي خاسرة بانحرافها، ولا خسارة على السواء.
* * *
إن عمل محمد لكافٍ جد الكفاية لتخويله[57] المكان الأسنى[58] من التعظيم والإعجاب والثناء …
إنه نقل قومه من الإيمان بالأصنام إلى الإيمان بالله، ولم تكن أصنامًا كأصنام يونان، يحسب للمعجب بها ذوق الجمال إن [11]فاته أن يحسب له هدى الضمير … ولكنها أصنام شائهات[59] كتعاويذ السحر التي تفسد الأذواق وتفسد العقول، فنقلهم محمد من عبادة هذه الدمامة[60] إلى عبادة الحق الأعلى .. عبادة خالق الكون الذي لا خالق سواه، ونقل العالم كله من ركود[61] إلى حركة، ومن فوضى إلى نظام، ومن مهانة[62] حيوانية إلى كرامة إنسانية، ولم ينقله هذه النقلة قبله ولا بعده أحد من أصحاب الدعوات .
* * *
إن عمله هذا لكافٍ لتخويله المكان الأسنى بين صفوف الأخيار الخالدين، فما من أحد يضن[63] على صاحب هذا العمل بالتوقير[64] على اسم إنسان.
إلا أننا نمضي خطوة وراء هذا، حين نقول إن التعظيم حق «لعبقرية محمد» ولو لم تقترن بعمل محمد ..
لأن العبقرية قيمة في النفس قبل أن تُبرزها[65] الأعمال، ويكتب لها التوفيق، وهي وحدها قيمة يُغالى[66] بها التقويم .
فإذا رجح بمحمد ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة .. فهو نبي عظيم وبطل عظيم وإنسان عظيم. وحسبنا من كتابنا هذا أن يكون بَنَانًا[67] تومِئ[68] إلى تلك العظمة في آفاقها، فإن البَنانَ لأقدر على الإشارة من الباع[69] على الإحاطة، وأفضل من عجز المحيط طاقة المشير
عباس محمود العقاد
الباع قدر مد اليدين
=============
ما دون العشرة من الرجال
نقيض الشيء : عكسه
المراد: المدن المطلة على الشواطيء
ذائعة منتشرة
اي شغوفون
سكان المدن
اشباهها ومثيلاتها
نقصد
أي تسرع واحتد فأخطأ
خارجة
الضمير
مدعيا العلم
بمعنی ويلك
جور
أي فترة
مجلس القوم ومتحدثهم
تعظيم
المنهج او النظام
أول العمر
الغاية والامد
اي جميع
يتهدم
تتمايل وتتحرك
الاعمدة
ما يعترضها في جنباتها
تقوية
أي الانفعالات
الأوج:ضد الهبوط
قصدناه
اللغط : الصوت والجلبة
الغافلون
ادعاء العلم
المبعضين
الكتب
كثيرة ومتعدة
اصحابها المتخصصون فيها
ينشر
اي رقت
غمط الناس : احتقارهم وازدراوهم
المراد : الهجر والغلظة
كفران النعمة والشكر للفضل
جمع علي وهو الشريف الرفيع
شريعة
سواد الناس : عوامهم
الظلم
المزيل
شراع السفينة
يعيبوا
يرجعوا
الاختلاق
القرار من الأرض عند منقطع الجبل
بتملق
يصيبه ضرر
عدوان وظلم
يغلب
الإثم
تمليكه
الرفيع
قبيحات
الأصنام القبيعة
خمول وسكون
مذلة
يبخل
التعظيم
تظهرها
غالى بالشيء : اشتراه بثمن غال
أصبع
تشير
======
المؤلف: عباس العقاد ←عبقرية الدَّاعي
[12]
عَلامات مَولد
كان عالَمًا متداعيًا[1] قد شارف[2] النهاية .. خلاصة ما يقال فيه : إنه عالَم فقد العقيدة كما فقد النظام ..
أي أنه فقد أسباب الطمأنينة في الباطن والظاهر .. طمأنينة الباطن التي تنشأ من الركون[3] إلى قوة في الغيب، تبسط العدل، وتحمي الضعف، وتجزي الظلم، وتختار الأصلح الأكمل من جميع الأمور .
وطمأنينة الظاهر التي تنشأ من الركون إلى دولة تقضي بالشريعة، وتفصل بين البغاة[4] والأبرياء، وتحرس الطريق، وتُخيف العائثين[5] بالفساد .
بيزنطة قد خرجت من الدين إلى الجدل[6] العقيم[7] الذي أصبح بعد ذلك علمًا عليها، وتضاءلت سطوتها[8] في البر والبحر حتى طمع فيها من كان يحتمي بجوارها .
وفارس قد سخر فيها المجوس من دين المجوس .. وكمنت حول عرشها كوامن الغِيلَة[9]، وبواعث الفتن، ونوازع الشهوات .
والحبشة ضائعة بين الأوثان المستعارة من الحضارة تارة ومن الهمجية تارة، وبين التوحيد الذي هو ضرب من عبادة الأوثان . ثم هي بعد هذا التشويه في الدين، ليست بذات رسالة في الدنيا ولا بذات طور من أطوار التاريخ .. فليس لها عمل باق في سجل الأعمال الباقيات.
عالم يتطلع إلى حال غير حاله .. عالم يتهيأ للتبديل أو للهدم ثم للبناء.
[13]أمَّة
وبين هذه الدول المتداعيات، أمَّة ليست بذات دولة، ولكنها تتأهب لإقامة دولة .. هي أمَّة العرب وقد تيقظت لوجودها وشعرت بمكانتها، كما شعرت بالخطر عليها وبمواضع النقص منها.
في أيديها تجارة العالمين كلها ..
فإذا سارت القوافل من خليج فارس إلى بحر الروم، فهي تسير في البادية بين حراس من العرب لا سلطان عليهم للدول المتداعية .. أو هم قد شعروا بذلك السلطان حينًا في إبان[10] الصولة الرومانية والصولة[11] الفارسية، ثم علموا أنهم مالكون لزمامهم[12] يرضون فتتصل الأرزاق بين المشرق والمغرب وبين المغرب والمشرق، ويغضبون فتبور التجارة وينضب[13] المورد وتكسد الأسواق.
وإذا سارت القوافل من اليمن إلى الشام أو من بحر القلزم إلى بحر الروم، فهي في جيرة[14] الأعراب من كلتا الطريقين.
أمَّة تيقظت لوجودها، وعرفت شأنها بين من يحْدِقون[15] بصحرائها .. ثم رأت هؤلاء المحيطين بها يجورون عليها، ويريدون إخضاعها وابتلاعها ..
فهرقل الرومي يرسل إلى مكة من يحكمها، وأبرهة الحبشي يزحف إلى مكة بمن يهدم كعبتها ويستبدل بها كعبة غيرها، وفارس تطغى على شرق البلاد وعلى جنوبها ..
خطر من خارجها، يزيد الأمة يقظة وانتباهًا لوجودها ..
وخطر من داخلها، يدفع بها إلى الزوال أو إلى استكمال النقص المستشري[16] في حياتها ..
مدينة واحدة تجتمع فيها ثروة الجزيرة، وعصبة[17] واحدة من سادة القوم تجتمع في أيديها ثروة المدينة ..
حالة لا استقرار فيها ..
[14]فمن هنا الترف[18] ، والطمع، والخمر، والقمار، والمتعة، وتسخير الأقوياء للضعفاء ..
ومن هنا الفاقة[19]، والحسرة، والشك في صلاح الأمور ..
ولكنه شك يبحث ويضطرب، وليس بالشك الذي يستجم[20] ويستكين[21] فحيثما اجتمع أناس من أولي الرأي يذكرون العقيدة وطمأنينة الضمير، فهناك هاتف بينهم بسوء ما هم عليه. اجتمع أناس بنخلة[22] لإحياء عيد العُزَّى، فقال رجل منهم لإخوانه: «والله ما قومكم على شيء وإنهم لفي ضلال .. فما حجر نطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، ومن فوقه يجري دم النحور. يا قوم التمسوا لكم دينًا غير هذا الدين الذي أنتم عليه» .. ثم تفرقوا، فمنهم من تنصر، ومنهم من اعتزل الأوثان، ومنهم من انتظر حتى سمع دعوة الإسلام فلبَّاها[23].
وكان الذي تنصر وسمع دعوة الإسلام ورقة بن نوفل الذي كتب له أن يتلقى بشارة النبي العربي عند ظهوره، ويلقي إليه بالبشارة.
هؤلاء شكوا وبحثوا عن العقيدة وطمأنينة الضمير ..
وغيرهم شكوا وبحثوا عن وازع[24] من الضمير، ووازع من السلطان، فاجتمعت بنو هاشم وزهرة وتَيم يتعاهدون باسم الله المنتقم لَيكونُنَّ مع المظلوم حتى يُؤدَّى إليه حقه .. وذلك حلف الفضول الذي شهده النبي العربي في شبابه، وقال فيه: «ما أحب أن يكون لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم.»
حالة لا تستقر، ولا تزال في طلب الاستقرار ..
وأمَّة يقظى! ..
وخطر محدق[25] بها مما حولها، ومما هو في دخائلها وأحشائها ..
حالة تنذر بالزوال، وقلَّما تزول أمة يقظى في أوان انتباهها .. فتلك إذن حالة للتبديل والتجديد.
قبيلة
وقبيلة في تلك الأمَّة، في تلك المدينة .. لها شعبتان:
إحداهما من أصحاب الترف والطمع واستبقاء ما هو قائم، كما كان قائمًا على هواها .
[15]والأخرى من أصحاب التقوى والسماحة والتوسط بين مقام القوي الذي يجور ويطغى ويستبقي أداة الجور والطغيان، ومقام الضعيف الذي يحتمل الأذى، ويصبر على الكريهة، ولا يملك مع السيد الآمر إلا أن يُذعن[26] له، ويأكل من فضلات يديه.
بيت
وبيت من تلك الشعبة الوسطى له كرم النسب العريق، وليس له لؤم الثروة الجامحة[27] والكبرياء الجائحة[28]، والقسوة على من دونه من المحرومين .. ذلك هو بيت عبد المطلب من صميم قريش ومن ذؤابتها[29] العليا، وإن لم يكن معدودًا من أثرياء القبيلة القرشية في ذلك الأوان ...
ورأس هذا البيت — عبد المطلب — رجل قوي الخلق، قوي الإيمان فيما آمن به، حكيم مع قوة طبعه وشدة إيمانه، خليق[30] أن يُنجب العَقِب[31] الذي يبشر بدعوة وينضح [32]عن دين.
نَذَرَ لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة .. ثم أحله قومه وأحلته العرَّافة من نذره، فأبى أن يتحلل حتى يستوثق من رضا الرب ورضا ضميره . سألتهم العرَّافة: «كم الدِّية فيكم؟».
قالوا: «عشر من الإبل».
قالت: «فتقربوا إذن بعشر من الإبل واضربوا على الفتى وعليها بالقداح[33] .. فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم» فما زالوا يزيدون حتى بلغت الإبل مائة وخرجت القداح عليها فهتفت قريش بعيد المطلب: «لقد رضي ربك .. فأطلق فتاك». وكان خليقًا بمن يريد أن يتحلل ويتعلل أن يقبل ولا حرج عليه، ولكن عبد المطلب لم يكن من [16]المتحللين المتعللين، فأبى إلا أن يضرب عليها القداح ثلاث مرات، ثم نحرت الإبل للجياع من الأناسي[34] والسباع.
وجاء القائد الحبشي يهدم الكعبة ويسطو على الإبل والشاء .. فلما سأله عبد المطلب أن يردَّ إليه إبله، قال له مقال السياسي المحرج المداور[35] بالكلام: «أراك تسأل عن إبلك ولا تسأل عن الكعبة».
فأجابه عبد المطلب جواب الحكيم المؤمن: «أما الإبل فأنا ربُّها، وأما البيت فله ربٌّ يحميه!».
فكان إيمانه إيمانًا كفئًا لدهاء السياسة، ولم يكن إيمان العجز والتواكل والاستسلام ..
ومن كان له هذا الخلق، وهذا الضمير، وهذا الإيمان، وهذه الرئاسة، فليس من عجب أن ينجب نبيًّا في زمان يستدعي الأنبياء، ومكان مهيأ لهم دون كل مكان .. بل العجب أن يكون الأمر غير ما كان.
أب
وإذا كان عبد المطلب جدًّا صالحًا لنبي كريم، فابنه عبد الله نعم الأب لذلك النبي الكريم ..
لكأنما كان بضعة[36] من عالم الغيب، أُرْسِلت إلى هذه الدنيا لتعقب[37] فيها نبيًّا وهي لا تراه .. ثم تعود.
كان إنسانًا من طينة الشهداء، يتجه إلى القلب الإنساني بكل ما فيه من حب وحنو ورحمة. فهو الفتى الذي اسمه عبد الله والذي اختير للفداء، فجاشت[38] له شفقة قومه حتى تركه لهم القدر إلى حين. وهو الفتى الذي تحدثت الفتيات في الخدور[39] بوسامته وحيائه، وودت مئات منهن لو نعمن منه بنعمة الزواج، وهو الفتى الذي أقام مع عروسه ثلاثة أيام، ثم سافر ليتَّجر فإذا هي السفرة التي لا يؤوب[40] منها الذاهبون، وهو الفتى الذي مات وهو غريب، وولد له نسله الكريم وهو دفين. وهكذا تتمثل [17]البصائر الخاشعة آباء الأنبياء والسلالة التي تصل بين الآخرة والدنيا وبين عالم البقاء وعالم الفناء .
رجل
عالم يتطلع إلى نبي .. وأمة تتطلع إلى نبي، ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي .. ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته، ولا يدانيه[41] رجل آخر في مناقبه الفضلى التي هيَّأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة … وفي الجزيرة، وفي العالم بأسره.
نبيل عريق[42] النسب .. وليس بالوضيع الخامل، فيصغر قدره في أمَّة الأنساب والأحساب ..
فقير .. وليس بالغني المترف، فيطغيه بأس النبلاء والأغنياء، ويغلق قلبه ما يغلق القلوب من جشع القوة واليسار.
يتيم بين رحماء .. فليس هو بالمدلل الذي يقتل فيه التدليل ملكة الجد والإرادة والاستقلال، وليس هو بالمهجور المنبوذ[43] الذي تقتل فيه القسوة روح الأمل وعزة النفس وسليقة[44] الطموح، وفضيلة العطف على الآخرين.
خبير بكل ما يختبره العرب من ضروب العيش في البادية والحاضرة، تربى في الصحراء وألِف المدينة، ورعى القطعان، واشتغل بالتجارة، وشهد الحروب والأحلاف، واقترب من السراة[45] ولم يبتعد من الفقراء ..
فهو خلاصة الكفاية العربية في خير ما تكون عليه الكفاية العربية .. وهو على صلة بالدنيا التي أحاطت بقومه .. فلا هو يجهلها فيغفل عنها، ولا يغامسها كل المغامسة فيغرق في لُجَّتها[46].
أصلح رجل من أصلح بيت في أصلح زمان لرسالة النجاة المرقوبة، على غير علم من الدنيا التي ترقبها .
ذلك محمد بن عبد الله عليه السلام ..
قد ظهر والمدينة مهيأة لظهوره لأنها محتاجة إليه، والجزيرة [18]مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، والدنيا مهيأة لظهوره؛ لأنها محتاجة إليه، وماذا من علامات الرسالة أصدق من هذه العلامة؟ وماذا من تدبير المقادير أصدق من هذا التدبير؟ وماذا من أساطير المخترعين للأساطير أعجب من هذا الواقع، ومن هذا التوفيق؟ علامات الرسالة الصادقة هي عقيدة تحتاج إليها الأمة، وهي أسباب تمهد لظهورها، وهي رجل يضطلع بأمانتها في أوانها.
فإذا تجمعت هذه العلامات، فماذا يلجئنا إلى علامة غيرها؟ .. وإذا تعذر عليها أن تجتمع فأي علامة غيرها تنوب عنها أو تعوِّض ما نقص منها؟
خُلق محمد بن عبد الله ليكون رسولًا مبشرًا بدين، وإلا فلأي شيء خلق .. ولأي عمل من أعمال هذه الحياة ترشحه كل هاتيك المقدمات والتوفيقات، وكل هاتيك المناقب والصفات؟
لو اشتغل بالتجارة طول حياته كما اشتغل بها فترة من الزمن، لكان تاجرًا أمينًا ناجحًا موثوقًا به في سوق التجار والشراة … ولكن التجارة كانت تشغل بعض صفاته، ثم تظل صفاته العليا معطلة لا حاجة إليها في هذا العمل مهما يتسع له المجال.
ولو اشتغل زعيمًا بين قومه لصلح للزعامة، ولكن الزعامة لا تستوفي كل ما فيه من قدرة واستعداد ..
فالذي أعده له زمانه وأعدته له فطرته هو الرسالة العالمية لا سواها، وما من أحد قد أعد في هذه الدنيا لرسالة دينية إن لم يكن محمد قد أعد لها أكمل إعداد .
بشائر الرسالة
والمؤرخون يُجهدون أقلامهم غاية الجهد في استقصاء بشائر الرسالة المحمدية .. يسردون[47] ما أكده الرواة منها وما لم يؤكدوه، وما قَبِلَه الثقات منها وما لم يَقْبلوه، وما أيدته الحوادث أو ناقضته، وما وافقته العلوم الحديثة أو عارضته، ويتفقون [19]في الرأي والهوى بين تفسير الإيمان وتفسير العيان[48]، وتفسير المعرفة وتفسير الجهالة، فهل يستطيعون أن يختلفوا لحظة واحدة في آثار تلك البشائر التي سبقت الميلاد، أو صاحبت الميلاد حين ظهرت الدعوة واستفاض[49] أمر الإسلام؟
لا موضع هنا لاختلاف ..
فما من بشارة من تلك البشائر كان لها أثر في إقناع أحد بالرسالة يوم صدع[50] النبي بالرسالة، أو كان ثبوت الإسلام متوقفًا عليها.
لأن الذين شهدوا العلامات المزعومة يوم الميلاد، لم يعرفوا يومئذ مغزاها[51] ومؤداها، ولا عرفوا أنها علامة على شيء، أو على رسالة ستأتي بعد أربعين سنة .
ولأن الذين سمعوا بالدعوة وأصاخوا[52] إلى الرسالة بعد البشائر بأربعين سنة، لم يشهدوا بشارة واحدة منها، ولم يحتاجوا إلى شهودها ليؤمنوا بصدق ما سمعوه واحتاجوا إليه.
وقد ولد مع النبي عليه السلام أطفال كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا جاز للمصدق أن ينسبها إلى مولده؛ جاز للمكابر أن ينسبها إلى مولد غيره. ولم تفصل الحوادث بالحق بين المصدقين والمكابرين إلا بعد عشرات السنين .. يوم تأتي الدعوة بالآيات والبراهين غنية عن شهادة الشاهدين وإنكار المنكرين.
أما العلامة التي لا التباس فيها ولا سبيل إلى إنكارها، فهي علامة الكون وعلامة التاريخ ..
قالت حوادث الكون: لقد كانت الدنيا في حاجة إلى رسالة ..
وقالت حقائق التاريخ: لقد كان محمد هو صاحب تلك الرسالة ..
ولا كلمة لقائل بعد علامة الكون وعلامة التاريخ ..
استمعوا
===============
اي ضعيفا غير متماسك
المراد : قارب
من ركن : اي مال وسكن
الجناة الظالمين
العيث : الفساد
النقاش والحوار
غير المفيد
aعفت قوتها
المراد : بواطن الشر والهلاك
وقت المتجبرة
القوة
المراد : ما يقودهم
نضب الماء غار في الارض
الجوار
يحيطون
المستفحل والمتزايد
ما بين العشرة الى الاربعين من الرجال
نعومة العيش
الفقر والحاجة
يستريح
يهدأ ويستسلم
مكان
استجاب لها
سلطان
محيط
أي يخضع
أي الغالبة القاهرة
الشديدة
الذؤابة : الناصية أو منبتها من الرأس ، والمراد الرحمة والشرف
جدير
ولده وولد ولده
المراد :يدافع
السهام
البشر
داوره مداورة ودوارا : اي دار معه
بفتح الباء : القطعة من اللحم
اي لتخلف
تحرکت عاطفتهم
جمع خدر وهو الستر
يرجع
يقاربه
أي اصيل
البغيض الممقوت
طبيعة وفطرة
علية القوم وسادتهم
لجة الماء : معظمه
يسرد الحديث، إذا كان جيد السياق له،
عيان الشيء بكسر العين، رآه بالعين
استزاد
صدع بالحق، تكلم به جهارا
مقصدها ومرادها
======
→ عَلامات مَولد عبقرية الدَّاعي
المؤلف: عباس العقاد ←عبقرية محمد العسكرية
[20]
عبقرية الداعي
اتفقت أحوال العالم إذن على انتظار رسالة ..
واتفقت أحوال محمد على ترشيحه لتلك الرسالة ..
وكان من الممكن أن تتفق أحوال العالم وأحوال محمد، ولا تتفق معها الوسائل التي تؤدَّى بها رسالته على أحسن الوجوه .
كان من الممكن أن ينتظر العالم الرسول، ثم لا يظهر الرسول .
وكان من الممكن أن يظهر الرسول في البيت الصالح وفي البيئة الصالحة، ثم لا تتهيأ له الصفات التي يتم بها أداء الرسالة .
ولكن الذي اتفق في رسالة محمد قد كان أعجب أعاجيب الاتفاق، وكان المعجزة التي تفوق المعجزات؛ لأنها مع ضخامتها، وتعدد أجزائها، وتوافق تلك الأجزاء جميعها، مما يقبله العقل قبولًا سائغًا[1] بغير عنت[2] ولا استكراه .
فكان محمد مستكملًا للصفات التي لا غنى عنها في إنجاح كل رسالة عظيمة من رسالات التاريخ .
كانت له فصاحة اللسان واللغة ..
وكانت له القدرة على تأليف القلوب وجمع الثقة ..
وكانت له قوة الإيمان بدعوته وغَيرته البالغة على نجاحها ..
وهذه صفات للرسول غير أحوال الرسول .. ولكنها هي التي عليها المدار في تبليغ الرسالة، ولو اتفقت فيما عداها جميع الأحوال.
الفصاحة
فالفصاحة صفة تجتمع للكلام، ولهيئة النطق بالكلام، [21]ولموضوع الكلام .. فيكون الكلام فصيحًا وهيئة النطق به غير فصيحة، أو يكون الكلام والنطق به فصيحين، ثم لا تجتمع لموضوعه صفة الفصاحة السارية في الأسماع والقلوب.
أما فصاحة محمد .. فقد تكاملت له في كلامه، وفي هيئة نطقه بكلامه، وفي موضوع كلامه .
فكان أعرب العرب، كما قال عليه السلام: «أنا قرشي واستُرضعت في بني سعد بن بكر» .
فله من اللسان العربي أفصحه بهذه النشأة القرشية البدوية الخالصة .. وهذه هي فصاحة الكلام.
ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون نطقه بعد ذلك غير سليم، أو يكون صوته غير محبوب، أو يكون ترتيبه لكلماته غير مأنوس [3] .. فيتاح له الكلام الجميل ثم يعوزه [4] النطق الجميل.
أما محمد فقد كان جمال فصاحته في نطقه، كجمال فصاحته في كلامه، وخير من وصفَه بذلك — عائشة رضي الله عنها — حيث قالت: « ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد [5] كسردكم هذا، ولكن كان يتكلم بكلام بيِّن فَصْلٍ، يحفظه من جلس إليه» . واتفقت الروايات على تنزيه نطقه من عيوب الحروف ومخارجها، وقدرته على إيقاعها في أحسن مواقعها .. فهو صاحب كلام سليم في نطق سليم ..
ولكن الرجل قد يكون عربيًّا قرشيًّا مسترضعًا في بني سعد، ويكون سليمًا في كلامه سليمًا في نطقه .. ثم لا يقول شيئًا يستحق أن يستمع إليه السامع في موضوعه.
فهذا أيضًا قد تنزَّه عنه الرسول في فصاحته السائغة [6] من شتى نواحيها .. فما من حديث له حفظه لنا الرواة الثقات إلا وهو دليل صادق على أنه قد أوتي حقًّا «جوامع الكلم»، ورزق من فصاحة الموضوع كِفَاء[7] ما رزق من فصاحة اللسان وفصاحة الكلام .
[22]الوسامة والثقة
وكانت له مع الفصاحة [8] صباحة ودماثة [9] تحببانه إلى كل من رآه، وتجمعان إليه قلوب من عاشروه، وهي صفة لم يختلف فيها صديق ولا عدو، ولم ينقل عن أحد من أقطاب الدنيا أنه بلغ بهذه الصفة مثل ما بلغه محمد بين الضعفاء والأقوياء على السواء.
وحسبك من حب الضعفاء إياه أن فتى مستعبدًا يفقد أباه وأسرته — كزيد بن حارثة — ثم يظهر له أبوه بعد طول الغيبة، فيؤثر البقاء مع محمد على الذهاب مع أبيه ..
وإن خادم خديجة رضي الله عنها — ونعني به ميسرة — يقدمه ليبشر سيدته بالربح والتوفيق في تجارته، وهو أولى أن ينفُس [10] عليه، وأن يدَّعي لنفسه ما اختصه به من الفضل والتقدم.
وحسبك من حب الأقوياء إياه أنه جمع على محبته أناسًا بينهم من التفاوت في المزاج والخصال ما بين أبي بكر وعمر وعثمان وخالد وأبي عبيدة، وهم جميعًا من عظماء الرجال.
ولكن الرجل قد يكون صبيحًا دمثًا محبوبًا، ولا يكون له من ثقة الناس وائتمانهم إياه نصيب كبير .. لأن الرجل المحبوب غير الرجل الموثوق به، وإذا اتفقت الخصلتان حينًا فمن الجائز أن تفترقا حينًا آخر؛ لأنهما في عنصر الخصال لا تتلازمان.
أما محمد فقد كان جامعًا للمحبة والثقة كأفضل ما تجمعان، وكان مشهورًا بصدقه وأمانته كاشتهاره بوسامته وحنانه، وشهد له بالصدق والأمانة أعداؤه ومخالفوه، كما شهد بهما أحبابه وموافقوه، وامتلأ هو مِن العلم بمنزلته مِن ثِقَة القوم، فأحبَّ أن يستعين بها على هدايتهم وترغيبهم في دعوته فكان يسألهم: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقونني؟»
فيقولون: «نعم، أنت عندنا غير متهم» .. إلا أن الإنسان ينفر مما يصدمه في مألوفاته وموروثاته، ولو صدقه وقام لديه ألف برهان عليه. فلم يكن ما بالقوم أنهم لا يصدقون محمدًا ولا يعلمون فيه الشرف والأمانة، وإنما كان بهم أنهم [23]ينفرون من التصديق كما ينفر المرء من خبر صادق يسوءه فيمن يحب أو فيما يحب، وهو مفتوح العينين ناظر إلى صدق ما يلقى إليه.
الإيمان والغَيرة
ومن المحقق أن هذه الموافقات على كثرتها، وهذه الشمائل على ندرتها، لا تزال تتوقف على صفة أخرى يحتاج إليها الداعي أشد من احتياجه إلى الفصاحة والصباحة .. وهي إيمانه بدعوته وغيرته على نجاحها. فقد نجح داعون كثيرون تعوزهم طلاقة اللسان [11] وطلاقة القسمات [12]، ولم ينجح قط داع كبير يعوزه الإيمان بصواب ما يدعو إليه والغَيرة عليه ..
وقد قضى محمد عليه السلام شبابه وهو يؤمن بفساد الزمان وضلال الأوثان .. وجاوره أناس أقل منه نبلًا في النفس ولطفًا في الحس ونفورًا من الرجس، آمنوا بمثل ما آمن به من فساد عصره وضلال أهله، ومن حاجتهم إلى عبادة غير عبادة الأصنام، وآداب غير آدابهم في تلك الأيام. فإذا جاوزهم في صدق وعيه، وسداد سعيه فقد وافق المعهود فيه، الموروث من جده وأبيه.
ولما آمن برسالته هو، ودعوة ربه إياه إلى القيام بأداء تلك الرسالة، لم يهجم على هذا الإيمان هجوم ساعة ولا هجوم يوم، ولم يتعجل الأمر تعجل من يخدع نفسه قبل أن يخدع غيره، ولكنه تردد حتى استوثق [13]، وجزِع حتى اطمأن. وخطر له في فترة من الوحي أن الله قلاه [14] وأعرض عنه، ولم يأذن له في دعوة الناس إلى دينه، ثم تلقى الطمأنينة من وحي ربه ومن وحي قلبه ومن وحي صحبه .. فصدع بما أُمِر، ورضي ضميره بما أوتي من الهداية على النحو الذي رضيت به ضمائر الأنبياء وأصحاب الفطرة الدينية، مع ما بينه وبينهم من فارق في الرتبة والأهبة[15] ، وما بين زمانهم وزمانه من فارق في الحاجة إلى الإصلاح.
فما من عجب إذن أن يكون محمد صاحب دعوة .
وما من عجب أن تتجه دعوته حيث اتجهت، وأن تبلغ من [24]وجهتها الغاية التي بلغت، وإنما العجب ممن يغفلون عن هذه الحقيقة، أو يتغافلون عنها لهوًى في الأفئدة، فيُشْبِهون اليوم أولئك الجاهلين الذين أصروا أمس على الكفر به، وحجبوا بأيديهم نوره عامدين .
نجاح الدعوة
ما من حركة كبرى في التاريخ تتضح للفهم إن لم يكن نجاح الدعوة المحمدية مفهومًا بأسبابه الواضحة المستقيمة التي لا عوج في تأويلها، وما من شيء غير الغرض الأعوج يذهل صاحبه عن هذه الأسباب الطبيعية البينة، ثم يخيل إليه أن الدعوة الإسلامية كانت فضولًا غير مطلوب في هذه الدنيا، وأن نجاحها مصطنع لا سبب له غير الوعيد والوعود، أو غير الإرهاب بالسيف والإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين.
أي إرهاب وأي سيف؟ ..
إن الرجل حين يقاتل من حوله إنما يقاتلهم بالمئات والألوف .. وقد كان المئات والألوف الذين دخلوا في الدين الجديد يتعرضون لسيوف المشركين ولا يُعرِّضون أحدًا لسيوفهم، وكانوا يلقون عنتًا ولا يصيبون أحدًا بعنت، وكانوا يَخرجون من ديارهم لِياذًا [16] بأنفسهم وأبنائهم من كيد الكائدين، ونقمة الناقمين، ولا يُخرجون أحدًا من داره.
فهم لم يسلموا على حد السيف خوفًا من النبي الأعزل المفرد بين قومه الغاضبين عليه، بل أسلموا على الرغم من سيوف المشركين ووعيد الأقوياء المتحكمين .. ولما تكاثروا وتناصروا حملوا السيف؛ ليدفعوا الأذى ويُبطلوا الإرهاب [17] والوعيد، ولم يحملوه ليبدأوا واحدًا بعدوان أو يستطيلوا على الناس بالسلطان.
فلم تكن حرب من الحروب النبوية كلها حرب هجوم، ولم تكن كلها إلا حروب دفاع وامتناع.
أما الإغراء بلذات النعيم ومتعة الخمر والحور العين .. فلو [25]كان هو باعثًا للإيمان، لكان أحرى [18] الناس أن يستجيب إلى الدعوة المحمدية؛ هم فسقة المشركين وفجرتهم وأصحاب الترف والثروة فيهم، ولكان طغاة قريش هم أسبق الناس إلى استدامة الحياة واستبقاء النعمة. فإن حياة النعيم بعد الموت محببة إلى المنعمين تحبيبها إلى المحرومين، بل لعلها أشهى إلى الأولين وأدنى [19]، ولعلهم أحرص عليها وأحنى، لأن الحرمان بعد التذوق والاستمراء [20] أصعب من حرمان من لم يذق ولم يتغير عليه حال.
* * *
لم يكن أبو لهب أزهد في اللذة من عمر ..
ولم يكن السابقون إلى محمد أرغب في النعيم من المتخلفين عنه .. ولكننا ننظر إلى السابقين وننظر إلى المتخلفين، فنرى فارقًا واحدًا بينهم أظهر من كل فارق. ذلك هو الفارق بين الأخيار والأشرار، وبين الرحماء المنصفين والظَّلَمة المُتَصلِّفِين [21]، وبين من يعقلون ويصغون [22] إلى القول الحق، ومن يستكبرون ولا يُصغون إلى قول.
ذلك هو الفارق الواضح بين من سبقوا ومن تخلفوا .. وليس هو الفارق بين طالب لذة وزاهد فيها، أو بين مخدوع في النعيم وغير مخدوع . ولعلنا لا نستبين هذه الحقيقة من مثال واحد كما نستبينها من مثال عمر — رضي الله عنه — في إسلامه فقصته في ذلك نموذج لتلبية الدعوة المحمدية، ينفي كل كلام يقال عن الوعيد والإغراء وأثرهما في إقناع الأقوياء أو الضعفاء.
قال ابن إسحاق: «... خرج عمر يومًا متوشحًا [23] بسيفه، يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورهطًا [24] من أصحابه .. قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين بين رجال ونساء . ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق، وعلي بن أبي طالب، في رجال من المسلمين رضي الله عنهم ممن كان أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: «من تريد يا عمر؟ ..» .
[26] فقال: «أريد محمدًا هذا الصابئ [25] الذي فرَّق أمر قريش، وسفَّه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها، فأقتله.»
فقال نعيم: «والله قد غرتك نفسك يا عمر! .. أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟ . أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيمَ أمرهم؟» .
قال: «وأي أهل بيتي؟» .
قال: «خَتَنُك [26] وابن عمك سعيد بن عمرو! وأختك فاطمة بنت الخطاب .. فقد والله أسلما، وتابعا محمدًا على دينه، فعليك بهما» .
قال: «فرجع عمر عامدًا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب في مخدع [27] لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: «ما هذه الهينمة [28] التي سمعت؟» .. قالا له: «ما سمعت شيئًا! ..» .
قال: «بلى والله! .. لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدًا على دينه» .. وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت له أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه [29] عن زوجها، فضربها فشجها [30]، فلما فعل ذلك قالت له أخته: «نعم .. قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك» فلما رأى عمر ما بأخته من الدم، ندم على ما صنع فارْعَوَى [31]، وقال لأخته: «أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرءون آنفًا[32] أنظر ما هذا الذي جاء به محمد» . وكان عمر كاتبًا، فلما قال ذلك، قالت له أخته: «إنا نخشاك عليها» .
قال: «لا تخافي» وحلف لها بآلهته لَيرُدَّنَّها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: «يا أخي! .. إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر» فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة وفيها «سورة طه» فقرأها فلما قرأ منها صدرًا قال: «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه!» فلما [27]سمع ذلك خباب خرج إليه، فقال له: «يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته وهو يقول: «اللهم أيِّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب» .. فالله الله يا عمر!» .
فقال له عند ذلك عمر: « فدلَّني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم » . فقال له خباب: « هو في بيت عند الصفا معه فيه نفر من أصحابه» فأخذ عمر سيفه فتوشحه [33]، ثم عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر من خَلَلِ الباب فرآه متوشحًا السيف، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فزع، فقال: « يا رسول الله! .. هذا عمر بن الخطاب متوشحًا بالسيف » .
فقال حمزة بن عبد المطلب: « نأذن له .. فإن كان جاء يريد خيرًا بذلناه له، وإن كان يريد شرًّا قتلناه بسيفه » .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ائذن له! » فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لقيه بالحجرة فأخذ بِحُجْزته [34] أو بمجمع ردائه، ثم جبذه [35] جبذة شديدة وقال: «ما جاء بك يا بن الخطاب؟ .. فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة [36]» . فقال عمر: «يا رسول الله! .. جئتك لأومن بالله ورسوله وبما جاء من عند الله» .
قال: «فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر قد أسلم.» فتفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكانهم وقد عزُّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله، وينتصفون بهما من عدوهم ...».
هذه قصة إسلام عمر بن الخطاب، وهذا موضع ما فيها من الوعيد والإغراء .. خرج بالسيف ليقتل محمدًا ولم يخرج عليه أحد من المسلمين بسيف، وقرأ صدرًا من «سورة طه» ليس فيه ذكر للخمر والنعيم وهو: طه . مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ . [28]
إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ * تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَىٰ[37] * وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى . فلا جبن إذن، ولا طمع في إسلام عمر بن الخطاب، بل رحمة وإنابة [38] واعتذار ..
ولم يكن في إسلام الفقراء الذين هم أقل من عمر ناصرًا، وأضعف منه بأسًا [39] جبن ولا طمع؛ لأنهم تعرضوا بإسلامهم للسيف ولم يخضعوا للسيف حين أسلموا لله ورسوله، وما كفر الذين كفروا لزهد ولا شجاعة؛ فيقال إن الذين سبقوهم إلى الإسلام قد فعلوا ذلك لشغف بلذات الجنة، وجبن عن مواجهة القوة .. ولكنهم اختلفوا حيث تطلب طهارة السيرة وصلاح الأمور، فمن كان أقرب إلى هذه الطلبة من غني أو فقير، ومن سيد أو مستعبد فقد أسلم، ومن كان به زيغ [40] عنها فقد أبى [41] .. وهذا هو الفيصل القائم بين الفريقين قبل أن يتجرد للإسلام سيف يذود [42] عنه، وبعد أن تجرد له سيف تهابه السيوف، وما يقسم الطائفتين أحد فيضع أبا بكر وعمر وعثمان في جانب اللذة والخوف، ويضع الطغاة من قريش، في جانب العصمة والشجاعة إلا أن يكون به هوى كهوى الكفار من قريش، في الإصرار والإنكار.
إنما نجحت دعوة الإسلام لأنها دعوة طلبتها الدنيا ومهدت لها الحوادث، وقام بها داعٍ تهيَّأ لها بعناية ربه وموافقًا أحواله وصفاته ..
فلا حاجة بها إلى خارقة ينكرها العقل أو إلى علة عوجاء يلتوي بها ذوو الأهواء، فهي أوضح شيء فهمًا لمن أحب أن يفهم، وهي أقوم شيء سبيلًا لمن استقام .
يدافع
=========
سهلا
العنت، الوقوع في أمر شاق
المراد : محبوب
العوز، الفقر والحاجة
المراد، كثرة الكلام في التعبير عن المعنى
السهلة المقبولة
أي قدر
جمال
سهولة الخلق
يحسده ويحقد عليه
طلاقة اللسان، القدرة على حسن التعبير
طلاقة القسمات، ضاحك الوجه مشرقة
تيقن وتاكد
هجره
الاستعداد
لاذ، أي لجأ
البطش والظلم
أجدر واخق
اقرب
المراد، الاستطعام والتلذذ
المتجاوزين حدودكم والمتكبرين
يسمعون ويستجييون
متقلدا
ما دون العشرة من الرجال
صبا، خرج من دين الى دين
زوج ابنتك او صهرك والمراد هنا، الصهر
المراد ، مكان غير ظاهر
الصوت الخفي
لتمنعه
شج رأسه، أي كسره وادماه
ارعوى عن القبيح ، أي كف ونراجع
سلفا
تقلده
حجزة الازار، معقدة
جلبه
مصيبة من مصائب الدهر
الثرى: التراب الندي
رجوع
قوة وشدة
ضلال
رفض
=====
[29]
عبقرية محمد العسكرية
حروب دفاع
قلنا في الفصل السابق إن الإسلام لم ينجح لأنه دين قتال كما يردد أعداؤه المغرضون، ولكنه نجح لأنه دعوة لازمة يقوم بها داعٍ موفق، وليس بين أسباب نجاحه سبب واحد يصعب فهمه على هذا الاعتبار.
ونريد في هذا الفصل أن نقول: إن محمدًا كان على اجتنابه العدوان يحسن من فنون الحرب ما لم يكن يحسنه المعتدون عليه، وإنه لم يجتنب الهجوم والمبادأة بالقتال لعجز أو خوف مما يجهله ولا يجيده .. ولكنه اجتنبه؛ لأنه نظر إلى الحرب نظرته إلى ضرورة بغيضة يلجأ إليها ولا حيلة له في اجتنابها حيثما تيسرت له الحيلة الناجحة. وقبل ذلك ينبغي أن نستحضر في الذهن بعض الحقائق التي تُظهر لنا الاختلاف بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في مسألة القتال، لنثبت أن للإسلام شأنًا في اجتناب القوة كشأن كل دين، وأنه ما كان لينتصر بالقوة لو لم يكن إلى جانب ذلك صالحًا للانتصار، وأن الأديان الأخرى ما كانت لتحجم[1] عن عمل أقدم عليه النبي لو كانت دعوتها كدعوته، وكانت أسبابها كأسبابه.
* * *
فالحقيقة الأولى، أن مطعن القائلين بأن الإسلام دين قتال إنما يصدق — لو صدق — في بداءة عهد الإسلام كما أسلفنا يوم دان بهذا الدين كثير من العرب المشركين، ولولاهم لما كان له جند ولا حمل في سبيله سلاح..
[30]لكن الواقع أن الإسلام في بداءة عهده كان هو المعتدى عليه . ولم يكن من قِبَله اعتداء على أحد .. وظل كذلك حتى بعد تلبية الدعوة المحمدية، واجتماع القول حول النبي عليه السلام، فإنهم كانوا يقاتلون من قاتلهم ولا يزيدون على ذلك: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.
وقد صبر المسلمون على المشركين حتى أُمِروا أن يقاتلوهم كافة كما يقاتلون المسلمين كافة، فلم يكن لهم قط عدوان ولا إكراه.
وحروب النبي عليه السلام كما أسلفنا كانت كلها حروب دفاع ولم تكن منها حرب هجوم إلا على سبيل المبادرة بالدفاع بعد الإيقان[2] من نكث[3] العهد، والإصرار على القتال، وتستوي في ذلك حروبه مع قريش وحروبه مع اليهود أو مع الروم .. ففي غزوة تبوك عاد الجيش الإسلامي أدراجه[4] بعد أن أيقن بانصراف الروم عن القتال في تلك السنة، وكان قد سرى[5] إلى النبي نبأ أنهم يعبئون جيوشهم على حدود البلاد العربية، فلما عدلوا عدل الجيش الإسلامي عن الغزوة على فرط ما تكلف من الجهد والنفقة في تجهيزه وسفره. والحقيقة الثانية: أن الإسلام إنما يعاب عليه أن يحارب بالسيف فكرة يمكن أن تحارب بالبرهان والإقناع.
ولكن لا يعاب عليه أن يحارب بالسيف «سلطة» تقف في طريقه، وتحول بينه وبين أسماع المستعدين للإصغاء إليه.
لأن السلطة تُزال بالسلطة، ولا غنى في إخضاعها عن القوة .
ولم يكن سادة قريش أصحاب فكرة يعارضون بها العقيدة الإسلامية، وإنما كانوا أصحاب سيادة موروثة وتقاليد لازمة لحفظ تلك السيادة في الأبناء بعد الآباء، وفي عهد الأعقاب[6] بعد الأسلاف[7] .. وكل حجتهم التي يذودون[8] بها عن تلك التقاليد أنهم وجدوا آباءهم عليها، وأن زوالها يُزيل ما لهم من سطوة الحكم والجاه.
وقصد النبي بالدعوة عظماء الأمم وملوكها وأمراءها، لأنهم [31]أصحاب السلطة التي تأبى[9] العقائد الجديدة، وقد تبين بالتجربة بعد التجربة أن السلطة هي التي كانت تحول دون الدعوة المحمدية، وليست أفكار مفكرين ولا مذاهب حكماء؛ لأن امتناع المقاومة من هؤلاء العظماء والملوك كان يمنع العوائق[10] التي تصد الدعوة الإسلامية، فيمتنع القتال.
ومن التجارب التي دل عليها التاريخ الحديث كما دل عليها التاريخ القديم أن السلطة لا غنى عنها لإنجاز وعود المصلحين ودعاة الانقلاب .. ومن تلك التجارب تجربة فرنسا في القرن الماضي، وتجربة روسيا في القرن الحاضر، وتجربة مصطفى كمال في تركيا، وتجارب سائر الدعاة من أمثاله في سائر الدنيا.
فمحاربة السلطة بالقوة غير محاربة الفكرة بالقوة .. ولا بد من التمييز بين العملين؛ لأنهما جد مختلفين.
* * *
والحقيقة الثالثة: أن الإسلام لم يحتكم إلى السيف قط إلا في الأحوال التي أجمعت شرائع الإنسان على تحكيم السيف فيها ..
فالدولة التي يثور عليها من يخالفها بين ظهرانيها، ماذا تصنع إن لم تحتكم إلى السلاح؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم حيث جاء فيه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [11] والدولة التي يحمل أناس من أبنائها السلاح على أناس آخرين من أبنائها، بماذا تفُضُّ[12] الخلاف بينهم إن لم تَفُضَّه بقوة السلطان؟
وهذا ما قضى به القرآن الكريم أيضًا حيث جاء فيه: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ[13] إِلَىٰ أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾[14]
وفي كلتا الحالتين يكون السلاح آخر الحيل، وتكون نهاية [32]الظلم والاعتداء نهاية الاعتماد على السلاح .. ثم يأتي الصلح والتوفيق، أو يأتي التفاهم بالرضا والاختيار.
* * *
والحقيقة الرابعة: أن الأديان الكتابية بينها فروق موضعية لا بد من ملاحظتها عند البحث في هذا الموضوع ..
فاليهودية أو الإسرائيلية كانت كما يدل عليها اسمها أشبه بالعصبية المحصورة في أبناء إسرائيل منها بالدعوة العامة لجميع الناس .. فكان أبناؤهم يكرهون أن يشاركهم غيرهم فيها، كما يكره أصحاب النسب الواحد أن يشاركهم غيرهم فيه، وكانوا من أجل هذا لا يحركون ألسنتهم فضلًا عن امتشاق [15] الحسام [16] لتعميم الدين اليهودي وإدخال الأمم الأجنبية فيه، ولا وجه إذن للمقارنة بين اليهودية والإسلام في هذا الاعتبار ..
أما المسيحية فهي قد عنيت «أولًا» بالآداب والأخلاق، ولم تعن مثل هذه العناية بالمعاملات ونظام الحكومة.
وقد ظهرت «ثانيًا» في بلاد للمعاملات والنظم الحكومية فيها قوانين تحميها كما يحميها الكهان المعززون بالسلطان، فهي قد عدلت عن فرض المعاملات والدساتير لهذه الضرورة، لا لأن المعاملات والدساتير ليست من شأن الدين ..
وقد ظهرت «ثالثًا» في وطن تحكمه دولة أجنبية ذات حول وطول[17]، وليس للوطن الذي ظهرت فيه طاقة بمصادمة تلك الدولة في ميدان القتال . أما الإسلام فقد ظهر في وطن لا سيطرة للأجنبي عليه، وكان ظهوره لإصلاح المعيشة وتقويم المعاملات وتقرير الأمن والنظام .. وإلا فلا معنى لظهوره بين العرب ثم فيما وراء الحدود العربية.
فإذا اختلفت نشأته ونشأة المسيحية، فذلك اختلاف موضعي طبيعي لا مناص منه ولا اختيار لأحد من الخلق فيه.
آية ذلك أن المسيحية صنعت صنع الإسلام حين قامت بين أهلها الدول والجيوش، وحين استقلت شعوبها عن الأجانب المتغلبين، وأرِبَتْ [18] حروب المذاهب فيما بين أبنائها على حروب صدر الإسلام مجتمعات.
[33]والحقيقة الخامسة: أن الإسلام شرع الجهاد، وأن النبي عليه السلام قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.» وجاء في القرآن الكريم: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا والله أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (النساء: ٨٤).
وحدث فعلًا أن المسلمين فتحوا بلادًا غير بلاد العرب، ولم يفتحوها ولم يكن يتأتى لهم فتحها بغير السلاح.
إلا أن هذه الفتوح تأخرت في الزمن، ولم يتم شيء منها قبل استقرار الدولة للإسلام، فلا يمكن أن يقال إنها كانت هي وسيلة الإسلام للظهور، وقد ظهر الإسلام قبلها وتمكن في أرضه، واجتمعت له جنود تؤمن به وتُقْدم على الموت في سبيله.
ثم إن هذه الفتوح كانت تفرضها سلامة الدولة إن لم تفرضها الدعوة إلى دينها …
فلو قدرنا أن الخليفة المسلم لم يكن صاحب دين ينشره ويدعو إليه، لوجب في ذلك العهد أن يأمن على بلاده من الفوضى التي شاعت في أرض فارس وفي أرض الروم … ووجب أن يكف الشر الذي يوشك أن ينقض عليه من كلتيهما، وأن يمنع عدوى الفساد أن تسري منهما إلى حماه.
هذا إلى أن الإسلام قد أجاز للأمم أن تبقى على دينها مع أداء الجزية والطاعة للحكومة القائمة، وهو أهون ما يطلبه غالب من مغلوب. والحقيقة السادسة: أن المقابلة بين ما كانت عليه شعوب العالم يومئذ قبل إسلامها وبعد إسلامها تدل على أن جانب الإسلام هو جانب الإقناع لمن أراد الإقناع …
فقد استقر السلام بين تلك الشعوب ولم يكن له قرار، وانتظمت بينها العلاقات ولم يكن لها نظام، واطمأن الناس ا- الاية غل من سورة النساء ؟ - يمنع ۳- ارفه ؛ [34]على أرواحهم وأرزاقهم وأعراضهم، وكانت جميعها مباحة لكل غاصب من ذوي الأمر والجاه … فإذا قيل إن المدعوِّين إلى الإسلام لم يقتنعوا بفضله سابقين، فلا ينفي هذا القول أنهم اقتنعوا به متأخرين … وأن الإسلام مقنع لمن يختار ويحسن الاختيار، إلى جانب قدرته على إكراه من يركب رأسه ويقف في طريق الإصلاح …
ومن نظر إلى الإقناع العقلي، تساوى لديه من يَسْتَمِيلُك إلى العقيدة بتوزيع الدواء والطعام، أو بتربية الأطفال عليها وهم لا يعقلون، ومن يستميلك إليها بالخوف من الحاكم، على فرض أن خوف الحاكم كان ذريعة من ذرائع نشر الإسلام.
فالشاهد الذي تطعمه وتكسوه ليقول قولك في إحدى القضايا، كالشاهد الذي ينظر إلى السوط في يديك فيقول ذلك القول، كلاهما لا يأخذ بإقناع الدليل ولا بنفاذ الحجة، ولا يدفع عن عقيدة دفع العارف البصير …
وصفوة ما تقدم أن الإسلام لم يوجب القتال إلا حيث أوجبته جميع الشرائع وسوغته جميع الحقوق، وأن الذين خاطبهم بالسيف قد خاطبتهم الأديان الأخرى بالسيف كذلك، إلا أن يحال بينها وبين انتضائه، أو تبطل عندها الحاجة إلى دعوة الغرباء إلى أديانها، وأن الإسلام عقيدة ونظام، وهو من حيث النظام شأنه كشأن كل نظام في أخذ الناس بالطاعة ومنعهم أن يخرجوا عليه …
القائد البصير
لم يكن الإسلام إذن دين قتال، ولم يكن النبي رجلًا مقاتلًا يطلب الحرب للحرب، أو يطلبها وله مندوحة عنها، ولكنه مع هذا كان نعم القائد البصير إذا وجبت الحرب ودعته إليها المصلحة اللازمة، يعلم من فنونها بالإلهام ما لم يعلمه غيره بالدرس والمرانة، ويصيب في اختيار وقته وتسيير جيشه وترسيم خططه إصابة التوفيق وإصابة الحساب وإصابة [35]الاستشارة، وقد يكون الأخذ بالمشورة الصالحة آية من آيات حسن القيادة تقترن بآية الابتكار والإنشاء؛ لأن القيادة الحسنة هي القيادة التي تستفيد من خبرة الخبير كما تستفيد من شجاعة الشجاع، وهي التي تجند كل ما بين يديها من قوى الآراء والقلوب والأجسام.
وقد كانت غزوة بدر هي التجربة الأولى للنبي عليه السلام في إدارة المعارك الكبيرة، فلم يأنف أن يستمع فيها إلى مشورة الحباب بن المنذر حين اقترح عليه الانتقال إلى غير المكان الذي نزل فيه، ثم وعى من تجربة واحدة ما قلَّ أن يعيَه القادة المنقطعون للحرب من تجارب شتى، فلو تتبع حروبه عليه السلام ناقد عسكري من أساطين فن الحرب في العصر الحديث؛ لِيقترح وراء خططه مقترحًا أو ينبه إلى خطأ؛ لأعياه التعديل. ونختار أبرع القادة المحدثين وهو نابليون بونابرت على أسلوب حرب الحركة الذي كان هو الأسلوب الغالب في العصور الماضية، والذي ظهر في الحرب العالمية الحاضرة١ أنه لا يزال الخطوة الأخيرة في جميع الحروب، على الرغم من الحصون والسدود؛ لأن اختيار نابليون بونابرت يبين لنا السبق في خطط النبي العسكرية، بالمضاهاة بينها وبين خطط هذا القائد العظيم …
فنابليون كان يوجه همه الأول إلى القضاء على قوة العدو العسكرية بأسرع ما يستطيع، فلم يكن يعنيه ضرب المدن ولا اقتحام المواقع، وإنما كانت عنايته الكبرى منصرفة إلى مبادرة الجيش الذي يعتمد عليه العدو بهجمة سريعة يفاجئه بها أكثر الأحيان، وهو على يقين أن الفوز في هذه الهجمة يغنيه عن المحاولات التي يلجأ إليها جلة القواد.
وعنده أنه يستفيد بخطته تلك ثلاثة أمور: أن يختار الموقع الملائم له، وأن يختار الفرصة، وأن يعاجل العدو قبل تمام استعداده.
وكان النبي عليه السلام سابقًا إلى تلك الخطط في جميع تفصيلاتها، فكان — كما قدمنا — لا يبدأ أحدًا بالعدوان، [36]ولكنه إذا علم بعزم الأعداء على قتاله لم يمهلهم حتى يهاجموه جهد ما تواتيه الأحوال، بل ربما وصل إليه الخبر كما حدث في غزوة تبوك والناس مجدبون، والقيظ ملتهب، والشدة بالغة، فلا يَثْنِيه ذلك عن الخطة التي تعودها، ولا يكف عن التأهب السريع وعن حض المسلمين على جمع الأموال وجمع الرجال، ولا يبالي ما أرجف به المنافقون الذين توقعوا الهزيمة للجيش المحمدي فلم يحدث ما توقعوه.
وكان عليه السلام يعمد إلى القوة العسكرية حيث أصابها، فيقضي على عزائم أعدائه بالقضاء عليها، ولا يضيع الوقت في انتظار ما يختاره أولئك الأعداء، وإضعاف أنصاره بتركه زمام الحركة في أيدي الهاجمين، إلا أن يكون الهجوم وبالًا على المقدمين عليه، كما حدث في غزوة الخندق.
وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد …
والنبي عليه السلام كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان. وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك، مع رجحان الفئة الكثيرة في السلاح والركاب إلى جانب رجحانهم في عدد الجنود. ومعجزة الإيمان هنا أعظم جدًّا من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع نفوس رجاله من صبر وعزيمة. فالنبي عليه السلام كان يحارب عربًا بعرب، وقرشيين بقرشيين، وقبائل من السلالة العربية بقبائل من صميم تلك السلالة، فلا يقال هنا إن الفضل لقوم على قوم في المزايا الجسدية أو المزايا النفسية، كما يمكن أن يقال هذا في جيوش نابليون، وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان. وقد كان نابليون مع اهتمامه بالقضاء على القوة العسكرية لا يغفل القضاء على القوة المالية أو التجارية التي يتناولها اقتداره. فكان يحارب الإنجليز بمنع تجارتهم وسفنهم أن تصل إلى القارة الأوروبية، وتحويل المعاملات عن طريق إنجلترا إلى طريق فرنسا …
[37]هكذا كان النبي عليه السلام يحارب قريشًا في تجارتها، ويبعث السرايا في أثر القوافل كلما سمع بقافلة منها.
وأنكر بعض المتعصبين من كتَّاب أوروبا هذه السرايا وسموها «قطعًا للطريق» وهي هي سُنَّة المُصَادَرة بعينها التي أقرها «القانون الدولي» وعمل بها قادة الجيوش في جميع العصور، ورأينا تطبيقها في الحرب الحاضرة والحرب الماضية، رشيدًا تارة وغاليًا في الحمق والشطط تارة أخرى.
وقد أسلفنا أن نابليون كان يوجه همه إلى الجيش، ولا يقتحم المدن أو يشغل باله بمحاصرتها لغير ضرورة عاجلة.
ونرجع إلى غزوات النبي عليه السلام فلا نرى أنه حاصر محلة، إلا أن يكون الحصار هو الوسيلة الوحيدة العاجلة لمبادرة القوة التي عسى أن تخرج منها قبل استعدادها، أو قبل نجاحها في الغدر والوقيعة، كما حدث في حصار بني قريظة وبني قينقاع، فكان الحصار هنا كمبادرة الجيش بالهجوم في الميدان المختار بغير كبير اختلاف.
وكان نابليون معتدًّا برأيه في الفنون العسكرية ولا سيما الخطط الحربية، ولكنه كان مع هذا الاعتداد الشديد لا يستغني عن مشاورة صحبه في مجلس الحرب الأعلى، قبل ابتداء الزحف أو قبل العزم على القتال.
ومحمد عليه السلام كان على رجاحة رأيه يستشير صحبه في خطط القتال وحيل الدفاع ويقبل مشورتهم أحسن قبول، ومن ذلك ما صنعه ببدر — وألمعنا إليه آنفًا — حين أشار عليه الحباب بن المنذر بالانتقال إلى مكان غير الذي نزلوا فيه أول الأمر، ثم بتغوير الآبار وبناء حوض للشرب لا يصل إليه الأعداء، وقيل في روايات كثيرة إنه عمل بمشورة سلمان الفارسي في حفر الخندق، عند المنفذ الذي خيف أن يهجم منه المشركون على المدينة، فحفر الخندق وعمل النبي بيديه الكريمتين في حفره.
وقبول النبي مشورة سلمان عمل من أعمال القيادة الرشيدة، وسنة من سنن القواد الكبار، غير أننا نعتقد أنه عليه السلام [38]كان خليقًا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشِّعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميًا مشددًا عليهم في التزام موقفهم، قائلًا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل.»
والذي يفعل هذا في شِعب جبل، لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزُرِ التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع مِنْ كِلٍّ فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة [39]كان خليقًا أن يشير بحفر الخندق لو لم يكن سلمان الفارسي بين أهل المدينة في إبان الهجمة عليها، لأنه عليه السلام كان شديد الالتفات إلى سد الثغور وحماية الظهور في جميع وقعاته، وفي وقعة أحد جعل الجبل إلى ظهره، وأقام على الشِّعب الذي يخشى منه النفاذ والالتفاف خمسين راميًا مشددًا عليهم في التزام موقفهم، قائلًا لهم: «احموا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئوا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، وإنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل فإن الخيل لا تقدم على النبل.»
والذي يفعل هذا في شِعب جبل، لا يفوته أن يفعل مثله في ثغرة مدينة، ولكن المشاورة هنا هي المقصود بالمضاهاة بين ما سبق إليه النبي وما نبغ فيه نابليون، فهذه خصلة معهودة في كبار القواد لا تقدح فيما عرفوا به من قدرة على وضع الخطط وابتكار الأساليب.
ولم يعرف عن قائد حديث أنه كان يعنى بالاستطلاع والاستدلال عناية نابليون.
وكانت فراسة النبي في ذلك مضرب الأمثال، فلما رأى أصحابه يضربون العبدين المستقيين من ماء بدر، لأنهما يذكران قريشًا ولا يذكران أبا سفيان، علم بفطنته الصادقة أنهما يقولان الحق ولا يقصدان المراء، وسأل عن عدد القوم فلما لم يعرفا العدد سأل عن عدد الجُزُرِ التي ينحرونها كل يوم، فعرف قوة الجيش بمعرفته مقدار الطعام الذي يحتاج إليه. وكان صلوات الله عليه إنما يعول في استطلاع أخبار كل مكان على أهله وأقرب الناس إلى العلم بفجاجه ودروبه، ويعقد ما يسمى اليوم «مجلس الحرب» قبل أن يبدأ بالقتال، فيسمع مِنْ كِلٍّ فيما هو خبير به من فنون حرب أو دلائل استطلاع.
واشتهر عن نابليون أنه كان شديد الحذر من الألسنة [40]السيف في وجهه، فإن الضرب بالسيف لأهون من المقتل الذي يضربون فيه.
•••
تلك مقابلة مجملة بين الخطط والعادات التي سبق إليها محمد، وجرى عليها نابليون بعد مئات السنين، ومن الواجب أن نحكم على قيمة القيادة بقيمة الفكرة أو الخطة قبل أن نحكم عليها بضخامة الجيوش وأنواع السلاح.
لم يتخذ محمد الحرب صناعة، ولا عمد إليها — كما أسلفنا — إلا لدفع غارة واتقاء عداوة، فإذا كان مع هذا يُتْقِن منها ما يتولاه مدفوعًا إليه، فله فضل السبق على جبار الحروب الحديثة الذي تعلمها، وعاش لها، ولم ينقطع عنها منذ ترعرع إلى أن سكن في منفاه، ولم يبلغ من نتائجه بعض ما بلغ القائد الأمي بين رمال الصحراء.
ولقد كانت خبرة النبي ببعوث الاستطلاع كخبرته ببعوث القتال، فكانت طريقته في اختيار المكان والغرض، أو في اختيار القائد وتزويده بالوصايا والأتباع مثلًا يحتذى في جميع العصور، ولا سيما العصر الحديث الذي كثرت فيه ذرائع التخبئة والمراوغة وذرائع الكشف والدعوة، فكثرت فيه — من ثم — حاجة المقاتلين إلى استقصاء أحوال الأعداء.
ففي الحروب الحديثة يتردد ذكر الأوامر المختومة التي تصدر إلى قواد السرايا والسفن ليفتحوها عند مدينة معلومة، أو بعد مسيرة ساعات، أو في عرض البحر على درجة معينة من درجات الطول والعرض، إلى أمثال ذلك من العلامات التي تعين بها الجهات.
ويتفق في أمثال هذه البعوث أن يكون القائد وحده مطلعًا على سر البعثة، ورجاله جميعًا يجهلونه ولا يعرفون أهم خارجون في غزوة أم في مناورة استطلاع، إلى ما قبل الحركة المقصودة بساعات معدودات، وهنالك تصدر الأوامر التي لا بد من صدورها للتهيؤ والتنفيذ، ولا خوف من كشفها في تلك الساعات لصعوبة الاستعداد الذي يقابلها به العدو إذا انكشف له قبل تنفيذها بفترة وجيزة، ولا سيما إذا كانت الحركة من حركات البحار …
هذه الأوامر المختومة ليست بحديثة … فقد عُرفت في [41]& . . پېغله يكون منهم 4 المأثورات النبوية على أتم أصولها التي تلاحظ في أمثالها ، ومن ذلك أنه عليه السلام بعث عبد الله بن جحش ومعه كتاب أمره إلا ينظر فيه حتى يسير يومين ، وفحواه أن « سر حتى تأتي بطن نخلة على اسم الله وبركاته ، لا تكرهن أحدا من أصحابك على المسير معك ، وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فتر صد بها عين قريش وتعلم لنا من أخبارهم وهذا نموذج من الأوامر المختومة جامع لكل ما يلاحظ فيها حديثا وقديما وعند بداعة الدعوات على التخصيص فأولهما كتمان الخبر عمن يحيطون بالنبي عليه السلام ، فلا يبعد أن يكون منهم من هو مدخول النية عينا (۱) عليه وعلى أصحابه من قبل قريش ، ولا يبعد أن يكون منهم من يبوح بالخبر ولا يريد به السوء أو يدرك ما في البوح به من الخطر المحظور ، ولا أن الضعفاء والمخالفون وأن الاستعانة على قضاء الحاجات بالكتمان لسنة حكيمة من سنن النبي عليه السلام في جميع المطالب ، وهي في حروب الدعوات على التخصيص أقمن (۲) باتباع ۰۰ ولهذا كان اذا أراد غزوة ورى (۳) بغيرها على النحو الذي يتبعه قادة الحروب الى الآن ومما لوحظ في كتاب النبي لعبد الله بن جحش کتمان الخبر عن أصحابه ثم وصايته ألا يكره أحدا منهم على السير معه بعد معرفته بوجهته ، أهم الملاحظات في هذا المقام فقد يحارب الرجل وهو مكوه مهدد بالموت الذي يتقيه اذ يفر من القتال ، ولكنه لا يستطلع وهو مكره ثم يفيد استطلاعه من أرسلوه ، بل لعله ينقلب الى النقيض فيحرف الأخبار عمدا ، أو يتلقاها على غير اكتراث (4) ، أو يطلع الأعداء على أسرار أصحابه وهم غافلون عنه ولهذا تعاني الدول اكبر العناء في مراقبة الجواسيس بالجواسيس وفي امتحان كل خبر بالمراجعة بعد المراجعة والمناقضية المناقضية ، حتى تطمئن الي صحته قبل الاعتماد عليه وفي الحرب الحاضرة تجربة جديدة لهذا النوع من المستطلعين أو الرواد المتقدمين . وهذا هو f
بعل [42]من بعيد . $ فقد عرف أن هتلر يعتمد على أفراد من جنده يهبلون من الطيارات وراء الصفوف ، فيتسللون الى مراكز المواصلات ويعيثون (۱) بين القرى المعزولة ، فيشيعون فيها الرعب والخيرة ويوهمون من يراهم أن الجيش المنير كله على مقربة منهم فلا جدوى لهم من الاستغاثة او المقاومة ، ويحمل معظم هؤلاء الرواد المتقدمين أجهزة للمخاطبة يستعينون بها على الاتصال برؤسائهم قيل في الاعجاب بهذه الخطة الهتلرية كثير ، وقيل في انتقادها و التنبيه الى خطرها كثير فمن دواعي الاعجاب بها أنها أفادت في قطع المواصلات واشاعة الذعر وتضليل المدافعين ، وانها شيء جديد في شكله وان لم يكن جديدا في غايته ومرماه ومن أسباب انتقادها أن كل فائدة فيها تتوقف على العقيدة وحسن النية ، فهي تستلزم أن يكون الرائد غيورا على عمله متحمسا لانجازه رقيبا على نفسه وهو بمعزل عن رقبائه ، فليس ایسر له أذا هو انفرد وأعوزته (۲) الرغبة في انجاز عمله من أن يستأسر (۳) في أول مكان يصل اليه من بلاد الأعداء، طلبا للسلامة، ولا عقاب عليه إلى نهاية القتال • ثم يتعلل بما شاء من المعاذير ان وجد بعد ذلك من يحاسبه ويعاقبه ، و هيهات أن تستجمع الأدلة عليه في أمثال هذه الفوضى بين معسكرين أو عدة معسكرات - فالخطة الهتلرية فاشلة لا محالة إن لم ينفذها مريدون متعصبون غير مكرهين ولا متشككين فيما هو موكول اليهم ، وهي لهذا أدري اخوان الطريق و الهام العقائد لا من النظام الذي يدرب عليه كل جيش ويصلح لجميع الجنود ، فلولا أن النازيين قضوا قبل الحرب الحاضرة زهاء عشر سنين ينفخون في نفوس الناشئة جذوة (4) البغضاء ويلبهو نهم بحماسة العقيدة ، ويخلقون فيهم اللدد (4) الذي يغني عن الرقابة ساعة التنفيذ الحبطت (1) الخطة كل الحبوط وانقلبت على النازيين شر انقلاب وها هنا تتجلى حكمة النبي عليه السلام في اشتراط الرغبة أن تحسب من وحي [43]وهي " والطواعية و اجتناب القسر (۱) والاكراه . فهذه « أولا ، بعثة منفردة لا سبيل الى الأكراه الفعال بين رجالها اذا أريده ثانيا » بعثة استطلاع لا يغني فيها عمل الكاره المقسور (۲) ، و الزم ما يلزم العامل فيها ايمانه وصدق نیته وحسن مودته لمن أرسلوه ، فان أعوزته (۳) هذه الميفة فقد أعوزه كل شيء أما غرض البعثة كلها وهو الاستطلاع فقد كان النبي عليه السلام عليما بمزاياه ، معنيا به غاية العناية ، يحسب العدو المجهول كالعدو المستتر بأسوار الحصون، في حمى من الجهل به قد يحول دون الاستعداد له بالعدة الضرورية في الوقت الضروري ، ويحول من ثم دون الانتصار عليه و نحن نكتب هذه الفصول والحرب الروسية تذكرنا كيف اصيب نابليون في هذا الميدان حين أصيب في وسائل الاستطلاع، ثم تذكرنا كيف تكررت هذه الخلطة بعينها على نوع من المشابهة بين غزوة نابليون في روسيا امس و غزوة هتلر لتلك البلاد اليوم فمن أسباب هزيمة نابليون : اهماله النصائح التي سمعها في مجلس الحرب من بعض الثقات قبل التوغل في الحرب الروسية ، الاعتقاده خطا أن القيصر سيطلب ملحه بعد أسابيع ومن أسباب تلك الهزيمة : أن الروس كانوا يتراجعون أمامه تحت جنح الظلام ويخلون المدن والطرقات حتى لا يرى فيها دیارا (4) يسأله عن مكان الجيش المتراجع أو يلتقط من خلال اجوبته ما يعينه على الاستطلاع الذي كان شديد التعويل عليه • اما هتلر فقد أتي من قبل هذين النقصين كما أتي من قبله من هو اعظم منه واولى بالتحرز (2) والأناة (1) . فقد اشتهر أنه كان في مجلس الحرب على خلاف مع قواده الثقات الذين علموا من شأن الروس ما ليس له به علم واشتهر أنه أخطأ في استطلاع أخبار القوم ، اذ خيل اليه أن الشعب الروسي يتحفز للثورة ، ويترقب الاغارة عليه لنصرة + [44]94 المنير كائنا من كان ، ولو جاءت الغارة من عنصر معاد للعنصر السلافي ، وهو عنصر الجرمان ومحمد عليه السلام لم يتعلم ما تعلمه هتلر و نابليون ، ولكنه لم يخطيء قط مثل هذا الخطأ في جميع غزواته و کشوفه ، ولعلنا نفهم - كلما درسنا زمانه الحافل بالعبر والأمثلة الباقية س أن دراسته فترب من دراسة العصر الحديث والقادة المحدثين وينبغي تمر بنا سرية عبد الله بن جحش دون أن نستوفي كل ما فيها من الشئون العسكرية ، لأنها تشتمل على أكثر من جانب واحد من جوانب السنة النبوية والتشريع الإسلامي في هذه الشئون .. فهي سرية استطلاع كما علمنا لم تؤمر بقتال ولم يؤذن لها فيه . لكن حدث بعد فض الكتاب أن اثنين من رجال السرية ذهبا يطلبان بعيرا لهما ضل فأسرتهما قريش ، وهما سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان ثم نزل الركب بنخلة فمرت بهم عير قريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي ، آخر شهر رجب . و كانت قريش قد حجزت أموال أناس من المسلمين منهم بعض من في السرية فتشاوروا في قتال أهل العير ، وحاروا فيما يصنعون : أن تر کوا العير تمضي ليلتها امتنعت بالحرم ، وفاتهم تعويض ما حجزته قريش في هذه الفرصة السانحة (1) ، وان قاتلوا أهلها قتلوهم في شهر حرام ، لكنهم اندفعوا الى القتال فأصابوا من أصابوه أحدهم عمرو بن الحضرمي بسهم فأرداه (۲) وأسروا رجلين • وقفل عبد الله بن جحش ومن معه الى المدينة وقد حجزوا للنبي عليه السلام الخمس من غنيمتهم ، فأباه عليه السلام وقال لهم : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ، وعنفهم اخوانهم المخالفة النبي ، وساءت لقياهم بين أهل المدينة وراحت قريش تثير ثائرة العرب ، واندس جماعة من اليهود يحضأون (۳) نار الفتنة ، وتنادوا أن محمدا واصحابه قد أباحوا الدماء والأموال في الشهر الحرام ، وقال المسلمون في مكة : بل كان ذلك في شعبان ، ثم نزلت الآيات :« يسألونك عن الشهر f 6 ورمی [45]الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله و کفر به
و المسجد الحرام و اخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونکم حتى یردوکم عن دینکم آن استطاعوا » (1) فقبض النبي العير و الأسيرين . و طلبت قريش فداء هما فقال عليه السلام : « لا نفديكمو هما حتى يقدم صاحيانا ، فأنا نخشاكم عليهما ، فان تقتلوهما نقتل صاحبيكم هذه قصة السرية و ما وقع فيها خلافا لأمر النبي و ما نجم (۲) عنها من تشريع .. فاذا نحن كتبناها باصطلاح العصر الحديث فكيف نكتبها ؟ و كيف نفهمها ؟.. هي لا خلاف حادثة طلائع او حادثة حدود : ترسل احدى الدول طليعة من جندها الى حدودها للكشف أو للحراسة ، فيقع الاشتباك بينها و بين طليعة في بلاد دولة أخرى على غير علم من الحكومتين 6 فالذي يحدث في هذه الحالة أن تنظر الحكومة الأخرى الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية لا تستوجب القتال ، وتكتفي بما ينال المسئولين على أيدي حکو متهم من جزاء أو تأنيب وينحسم (۳) النزاع هذا أو تمر الحكومة الأخرى على طلب الترضية ، فان قبلتها الحكومة المطلوبة فالنزاع منحسم ، وان لم تقبلها فالمفاوضية والمساومة أو امتشاق الحسام (4) ذلك اذا نظر الفريقان الى المسألة كأنها مسألة فردية عرضية ولم يشأ أحدهما أو كلاهما أن يضعاها موضع التشريع العام التقرير الحكم الذي تجريان عليه فيها وفي أمثالها ، أو تقرير ما يعترفان به وما ينكر انه من الشرائط والأصول وقريش لم تكتف بالنظر الى حادثة السرية (5) كأنها حادثة [46]t f فردية عرضية ، ولم تعلن الحرب توا (۱) لأنها تبيت النية الاعلانها بعد حين ولكنها أثارت مسألة تشريع عام في قتال الشهر الحرام ، فوجب أن ينص الاسلام على هذا التشريع مربعا لا لبس فيه ، وهذا الذي كان ليست المسألة أن عبد الله بن جحش قد خالف أمر النبي فهذا أمر مفروغ منه ولا محل للبحث فيه إنما المسألة هي ما الحكم بعد الآن في قتال الأشهر الحرم ؟•
وماذا يبلغ من حق المشركين في الاحتماء بحرمة هذه الأشهر اذا كانوا لا يرعون للمسلمين حرمة ولا يزالون يقاتلونهم ويردونهم ما استطاعوا ؟ وما الجواب علی تشهیر قریش و احتجاجها بالحرمات التي لا ترعاها ؟۰۰ الحكم الذي وجب ان يعلنه الاسلام ، وقد أعلنه على الوجه الذي دانت به الشرائع الحديثة في علاقاتها الحربية ولا تزال تدین به حتى اليوم ، فهناك حرمات دولية اذا خالفتها احدی الدول بطل احتماؤها بها وأحل لغيرها أن يخالفها كما خالفتها أو يتخذ من القصاص ما يردع الشعر و يعوض الخسارة ، والا كانت الحرمات درعا (۲) للمعتدين ولم تكن مانعا لهم وسدا في أريد بها أن تكون . عن دينهم هذا هر 9 كما وجو مهم
* *
واليوم تنقطع العلاقة بين دولتين في حالة . حرب أو جفاء فيجوز لكلتيهما أن تحجز ما عندها من أموال الدولة الأخرى ، وان تأسر الذين في بلادها من رعاياها ، ويجوز لها أن تجعل تلك الأموال ضمانا لسداد المغارم التي تنزل بها وبأبنائها ، وأن تتخذ من المعتقلين رهائن تعاملهم بمثل ما يعامل به المعتقلون من ابنائها ، في سجون الدولة الأخرى فالذي حدث بعد سرية عبد الله بن جحش هو هذا بعينه ، وهو حكم القانون الدولي المتفق عليه : اسيران بأسيرين ، وأموال العير بالأموال التي حجزتها قريش للمسلمين . ولا محل لضجة الناقدين من المبشرين والمتعصبين في تعقيبهم على هذا الحادث المألوف او على حكم النبي والاسلام فيه . فان أصحاب هذه
41 [47]ما 1 الضجة يسمون عما حولهم وينسون أن المعاملات الدولية في زمانهم لم تفصل في أمثال هذه الحوادث بحكم أنفع ولا أعدل من الحكم الذي ارتضاه النبي ونزل به القرآن ، وهو حكم مساواة يدين به المسلمون كما يدانون ، ويحار المعتسف (۱) لو شاء أن يستبدل هو خير منه وأدني الى النفاذ والاتباع وكان هذا القائد الملهم الخبير بتجنيد بعوث الحرب وبعوث الاستطلاع خبيرا كذلك بتجنيد كل قوة في يديه متى وجب القتال أن قوة رأي ، وان قوة لسان ، وان قوة نفوذ ، فما نعرف أن احدا وجه قوة الدعوة توجيها أسد (۲) ولا أنفع في بلوغ الغاية من توجيهه عليه السلام • غرضان و الدعوة في الحرب لها - كما لا يخفی - غرضان أصيلان بين أغراضها العديدة أحدهما : اقناع خصمك والناس بحقك وهذا قد تكفل به القرآن والحديث ودعاة الاسلام جميعا فالدين كله دعوة من هذا القبيل وثانيهما : أضعافه عن قتالك باضعاف عزمه وايقاع الشتات (۳) بين صفوفه .. وربما بلغ النبي برجل واحد في هذا الغرض ما لم تبلغه الدول بالفرق المنظمة ، و بالمكاتب و الدواوين 6 و بدر الأموال قال ابن اسحق ما ننقله ببعض تصرف : « أن نعيم بن مسعود الغطفاني أتی رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، اني قد أسلمت ، وان قومي لم يعلموا باسلامي .. فمرني بما شئت ۰۰ فقال رسول الله : انما أنت فينا رجل واحد فخذل (4) عنا آن استطعت فان الحربا خلعة اي أدخل بين القوم حتی يخذل بعضهم بعضا فلا يقوموا لنا ولا يستمروا على حر بنا . « فخرج نعیم بن مسعود حتى أتي بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية . فقال : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودي اياكم وخاصة ما بيني و بينكم قالوا : صدقت . لست عندنا بمتهم [48]ة - >> بلغني « فقال لهم : أن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ۰۰ البلد بلد كم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤ کم ، لا تقدرون على أن تتحولوا منه الى غيره ، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمده وأصحابه ، وقد ظاهر تموهم (۱) عليه وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره فليسوا كأنتم ! ۰۰ فان رأوا نهزة (۲) أصابوها وان كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به ان خلا بكم ، فلا تقاتلوه مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون باید یکم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه (۳) ۰۰ فقالوا له : لقد أشرت بالرأي .
ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من قريش : قد عرفتم ودي لكم وفراقي محمدا ، وانه قد أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم .. فاکتموا عني ! قالوا : نفعل و قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم و بين محمد ، وقد أرسلوا اليه : انا قد ندمنا على ما فعلنا، فهل يرضيك أن تأخذ لك من القبيلتين قريش وغطفان رجالا من اشرافهم ، فنعطيكهم فتضرب أعناقهم ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم (4) ؟.. فأرسل اليهم أن نعم بعثت اليكم يهود يلتمسون رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا اليهم منكم رجلا واحدا « ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، انکم أهلي و عشيرتي و أحب الناس الي ولا أراكم تتهمو نتي ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم « قال : فاکتموا عني « قالوا : نفعل ، فما أمرك ؟ .. فقال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم
د فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، أرسل ابو سفيان بن حرب ورؤوس غطفان الى بني قريظة عكرمة بن ابي فان [49]
و هو يوم 6 بني و . جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : انا لسنا بدار مقام وقد ملك الخف والحافر فاغدوا للقتال حتي تناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا اليهم : ان اليوم يوم السبت لا نعمل فيه شيئا ، ولسنا مع ذلك بمقاتلي محمد حتی تعطونا رهتا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا ، فأنا نخشى ان ضرستکم (۱) الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا (۲) الى بلادكم وتتر کونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه . د فلما رجعت اليهم الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : والله ان الذي حدثكم نعيم بن مسعود لحق ، فأرسلوا الي قريظة : انا والله لا ندفع اليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فان کنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا م وقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل اليهم بهذا : أن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم الا أن تقاتلوا ، فان رأوا فرصة انتهزوها ، وان كان غير ذلك انشروا الى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلدكم وخذل الله بينهم و بعث الله عليهم الريح في ليال شائية باردة شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح أبنيتهم ثم رحلت قريش وغطفان الى بلادها ، وانصرف رسول الله عن الخندق راجعا الى المدينة » هذه دعوة نعيم بن مسعود ۰۰ وما نجحت دعوة قط برجل واحد نجاح هذا الرجل ، ولا انتهزت فرصة العناصر الطبيعية والعناصر التي تتألف منها جماعة الأعداء كما انتهزت هذه الفرصة .. فكل كلمة قيلت الطائفة من طوائفهم فهي الكلمة التي ينبغي أن تقال في الوقت الذي ينبغي أن تفعل فيه فعلها ، وهذه هي دعوة الاضعاف والتمزيق كأمضي ما تكون قائد بغير نظير عندما تنعقد المقارنة بين المعارك القديمة والمعارك العصرية ينبغي أن ننظر الى فكرة القائده قبل أن ننظر الى ظواهر المعارك [50]¢ أو إلى أشكالها وأحجامها ، لأننا إذا نظرنا إلى الظواهر فلا معنی اذن للمقارنة على الاطلاق ان من المقطوع به آن عشرة ملايين يجتمعون في ميدان واحد أضخم من عشرة آلاف ، وان حر با تدار بالمذياع والتليفون أعجب من حرب تدار بالفم والاشارة ، وان نقل الجنود بالطائرات والدبابات أبرع من نقلهم على ظهور الخيل والابل ، وان المدفع أمضى (۱) من السيف ، والرصاصة أمضى من السهم . فلا معنى اذن لمقارنة بالفاوا هر تنتهي الى نتيجة واحدة هي استضخام الحرب الحديثة والنظر الى القيادة الغابرة كأنها شيء صغير الى جانب القيادة التي توجه هذه الضخامة . لكننا اذا نظرنا إلى فكرة القائد ، أمكننا أن نعرف كيف أن توجيه ألف رجل قد تدل على براعة في القيادة لا تراها في توجيه مليون بينهم الراجل و الراكب ، ومنهم من يركبون كل ما يركب من مخلوقات حية وآلات مخترعة د -
* *
هي 6 وهذه الفكرة التي تربينا محمدا عليه السلام قائدا حر بيا بين أهل زمانه بغير نظير في رأيه ، وفي الانتفاع بمشورة صحبة ، وتبرز لنا قدرته النادرة بين قادة العصور المختلفة في توجيه كل ما يتوجه على يدي قائد من قوى الرأي والسلاح والكلام وهذه القدرة . شهادة كبرى لرسول تأتي من طريق الشهادة للقائد الخبير بفنون القتال فمن كانت عنده هذه الأداة النافذة فاقتصر بها على الدفاع واكتفى منها بالضروري الذي لا محيم عنه (۲) ، فذلك هو الرسول الذي تغلب فيه الرسالة على القيادة العسكرية ، ولا يلجأ الى هذه القيادة الا حين توجبها رسالة الهداية ويزيد هذه الشهادة عظما أن الرجل الذي يجتنب القتال في غير ضرورة رجل شجاع غير هياب شجاع وليس كبعض الهداة المصلحين الذين تجوز فيهم فضيلة الطيبة على فضيلة الشجاعة ، فيحجمون عن القتال لأنهم ليسوا بأهل قتال . [51]ان بعض المستشرقين زعموا أنه عليه الصلاة والسلام قد اشترك في حرب الفجار بتجهيز السهام ، لانه عمل أقرب الى خلقه من الخوض في معمعة القتال .. وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادرا على المشاركة في المعمعة بغير ذلك فهذا خطأ في الاحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان واكرم صفات البسالة والاقدام - فمحمد كان في طليعة رجاله حين تحتدم (۱) نار العرب ويهاب شواظها من لا يهاب ، و كان علي فارس الفرسان يقول : « كنا اذا البأس (۲) اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم - فما يكون أحد أقرب منه الى العدو » حمي
* *
4. ولولا ثباته في وقعة حنين ، وقد ولت (۳) جمهرة الجيش وأوشك أن ينفرد وحده في وجه الرماة والطاعنين ، لحقت الهزيمة على المسلمين ۰۰ وخروجه والليل لما يسفر (4) عن صبحه ليطوف بالمدينة مستطلما ، وقد هددها الأعداء بالغارة والحصار امر لو لم تدعه اليه الشجاعة الكريمة لم يدعه اليه شيء ۰۰ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بمن يؤدون عنه مهمة الاستطلاع و هو قرير في داره ، ولكنه أراد أن يرى بنفسه فلم يثنه (۰) خوف ولم يعهد بهذا الواجب الى غيره ومشاركته في الوقعات الأخرى هي مشاركة القائد الذي لا يعفي نفسه وقد أعفته القيادة من مشاركة الجند عامة فيا يستهدفون له ، فهي شجاعة لا تؤثر أن تتوارى حيث يتاح لها أن تتواری ، وعندها العذر المقبول بل العذر المحمود واذا كان القائد خبيرا بالحرب قديرا عليها غير هياب المخاوفها ثم اكتفى منها بالضروري الذي لا محيم عنه (6) فذلك الرسول تأتيه الشهادة بالرسالة من طريق القيادة العسكرية ، صفاته الحسنى تبعا لصفات الرسول . ده مر وتأتي جميع [52]خصائص العظمة لكن للعظمة خصائص تدعو الى العجب ، وان كانت معروفة الأسباب ۰۰ وناهيك (۱) بالعظمة التي ترتقي هذا المر تقی فمن تلك الخصائص انها قد توصف بالنقيضين في وقت واحد لأنها متعددة الجوانب ، فيراها أناس على صورة ، و يراها غيرهم على صورة أخرى ، وربما رأتها العين الواحدة على اختلاف في الوقتين المختلفين ولأنها تبعث الحب الشديد كما تبعث البغض الشديد ، و بين الطرفين مجال للاعتدال يستقيم للراشدين ، ومجال للمغالاة (۲) من هنا وللمغالاة من هناك ولأنها عميقة الأغوار (۳) فلا يسهل استبطانها (4) لكل ناظر ، ولا يتأتى تفسيرها لكل مفسر وهذا اذا سلمت النفوس من سوء النية .. فأما اذا ساءت النيات وران (5) الهوى على البصائر فلا عجب اذن في الضلال -
. د ومن خصائص العظمة النبوية في محمد عليه السلام أنه وصف بالنقيضين على السنة المتعصبين من أعداء دينه .. فهو عند أناس منهم صاحب رقة تحرمه القدرة على القتال ، وهو عند أناس آخرین صاحب قسوة نضرية (6) بالقتل واهدار الدماء البشرية في غير جريرة (۷) ، وتنزه محمد عن هذا وذاك فاذا كانت شجاعته عليه السلام تنفي الشبهة في رقة الضعف والخوف المعيب ، فحياته كلها من ملفولته الباكرة تنفي الشبهة في القسوة والجفاء .. اذا كان في كل صلة من صلاته بأهله او بمرضعاته أو بصحبه أو بزوجاته أو بخدمه مثلا للرحمة التي عز نظيرها في الأنبياء ولا نقف كثيرا عند الحوادث التي ذكرها المتعصبون ليستدلوا بها على أهدار الدماء في غير جريرة فأكثرها لم يثبت قط ثبوتا يقطع الشك فيه ، ولا سيما القول بتحريض النبي عليه السلام على قتل عصمناء بنت مروان اليهودية لأنها كانت تهجو [53]الاسلام والمسلمين ، فان النبي عليه السلام قد نهى في قول صریح عن قتل النساء و كرر نهيه في غير موضع ، حتی قال بعض الفقهاء بمنع قتل المرأة وان خرجت للقتال ، ما لم يكن ذلك لدفع خطر لا يدفع بغير قتلها . والحادث الوحيد الذي يستحق الالتفات إليه هو مقتل كعب ابن الأشرف الذي كان يهجو المسلمين ، ويقدح (۱) في دينهم ، و يؤلب عليهم الأعداء ، ويأتمر (۳) بقتل النبي ، ويدخل في كل دسیسسة تنقض معالم الاسلام و كان قومه معاهدا على أن يحالف المسلمين ، و يحارب من يحار بو نهم ، ولا يخرج لقتالهم ، ولا يقابلهم الا بما يقابل به الحليف حليفه من المودة و المعونة فنقض العهده وزاد على تقضة تأليب العرب مع قومه على النبي وصحبه ، وأنه رجع الى المدينة « فشبب (۳) ينساء المسلمين حتى آذاهم » وافترى عليهن و عليهم ما ليس يفتريه رجل شريف، وليس يرضاه في عرضة عربي غيور بني النضير 6 ه ورد في حديث مقتله أن الرهط الذين خرجوا لقتله انتهوا الى حصنه ، فهتف به أبو نائلة - و كان حديث عهد بعرس - فوثب في ملحفته ۰۰. فأخذت أمرأته بناحيتها وقالت : « انك امرؤ محارب ، وأن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة ! » وصدقت امرأته حين وصفته بأنه محارب يعامل معاملة المحاربين وقد حنثوا (4) في أيمانهم ، فلم يكن راعيا لعهده ، ولم يكن له وازع من نفسه ولا من قومه ، ولم يكن مأمونا على المسلمين وهو لائن (5) بحصنه فهو أقل الناس حقا في أمان " وجاء في الخبر أن النبي عليه السلام أقر مقتله ، فعاب بعض المؤرخين الأوربيين ذلك ، وحسبوه خروجا على سنن القتال يشبه فعلة نابليون الكبير حين أمر باختطاف الدوق دنجان 6 [54]t t ومحاكمته بغير حق مع ما بين الحادثين من بون (۱) بعید بيناه من قبل فلا نعود اليه الا أننا نوجز هنا ، فلا نزيد على أن نشير الى حكم القانون الدولي في أحدث العصور على من يؤخذون بصنيع معيب كصنيع ابن الأشرف ، وان لم يبلغ مبلغه من الغدر والكيد، والاساءة الى الأعراض . وذلك هو حكم الأسير الذي ينطق بعهد الشرف ألا يعود الى القتال ، فان القانون الدولي يوجب عليه أن يوفي بعهده ويوجب على حكومته ألا تند به إلى عمل ينقض ما عاهد الأعداء عليه ، ويقضي بحرمانه حق المعاملة كما يعامل اسرى الحرب اذا شهر السلاح على الذين أطلقوه ، أو على حلفائهم المحاربين في صفوفهم ، ويصبح اذن أن يحاكم كما يحاكم المذنبون ويقضي عليه بالموت فقوانين العصر الحديث اذن تعاقب بالموت جريمة أهون من جريمة كعب بن الأشرف بكثير ، لأنه تجاوز الغدر الى التأليب والائتمار وثلب (۲) الأعراض " وليس في توقيع هذه الأحكام قسوة ولا رحمة ، لأن المرجع فيها 1 الضرورة التي اوجبت القصاص وفرضته على الناس في أحوال السلم بين أبناء الأمة الواحدة ، فضلا عن أحوال القتال بين الأعداء أسرى غزوة بدر ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر ، وخروج النبي الى ساحة الحرب المعركة و غنائمها بعد انتهائها .. فهو أمر لا يصح الحكم فيه الا بالنظر الى موضعه وموقعه وأشخاصه ، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الاسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب وانما حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة . وليست كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم غير معروفين بماض ولا بحاضر سوی أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الاعداء • فقتل الأسرى بعد بدر ان هو الا قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب ، وقد الرؤية صرعی [55]وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين - جاز هذا في كل قانون ، وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء وفرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك و بينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح ، وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه و هو القتال الشريف . أما رؤية القتلى في ساحة العرب ، فقد نسي فيها أولئك الناقدون أن اغتباط (۱) المنتصر بفوزه طبيعة انسانية لا غضاضة (۲) فيها .. ما لم تجاوز حدها الى الفرح برؤية الدماء المحض الفرح برؤية الدماء - وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي عليه السلام ، ولا نم عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين 6 6 ده ونسي أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدنية العمرية ، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية وفي حياة البادية على الاجمال .. ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها اراقة الدم كل يوم ، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزى في كثير من الأيام فانك لا ترمي بالقسوة طبيبا قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات ان لم يألف الاطباء هذه المناظر و يملكوا چأشهم (۳) وهم يفتحون أعينهم عليها . ولكنك قد بالقسوة انسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يقال فيه أن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه ، أو بما يستلزم النظر اليه قسوة في الطباع واستراحة الى رؤية الدماء كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا ، لينظروا بعين النبي الى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الاسلام ترمي [56]$ كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي الى جيشين أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد ، والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا ، ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف ومن كل مطية غير الاقدام ۰۰ وكان عليهم أن يلمسوا اشفاق النبي من عاقبة هذه الوقعة ، ويستمعوا اليه و هو يناشد ربه : « اللهم هذه قريش قد أتت بخيلها وخيلائها (۱) تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني" - اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تلعبد و كان عليهم أن ينظروا اليه وقد مد يديه وشخص (۲) بیمره ، وجمع في صلاته حتى جعل رداؤه يسقط عن منكبيه (۳) وأبو بكر يرده ويناديه : « بعض مناشدتك ربك فان الله لك ما وعدك .. وهو لا يلتفت الى سقوط ردائه ولا الى مناداة صفيه ، لاستغراقه في الدعاء ۰•• وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا منهم يرجعون الى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناو أة (4) النبي ، واعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد ، وليس الصبر عليه بيسير نفسيه منجز 6
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه ، وانه شعور مطبوع في نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال ، فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر ، وتخرج من الضيق الى الفرج ، وتنظر في ساحة الحرب الى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها الى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الايذاء والمكيدة ، وأن ت کا ما هي تلك الأسلاب (4) والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين ، لأنها أول شيء شهدوه من نوعه ، ولا يتنزل حكم الدين في سلب أو غنيمة أن محمدا رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة ، وليس بناسك مهزول من نساء الصوامع الذين يكبون في جوانحهم (1) ا [57]6 6 كل دافعة و كل احساس .. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف ، وستلحق بها كل تلك العواقب ، أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه ، ولم تكن توجيه الفطرة الانسانية على المقاتل وهو في اللحظة الأولى بعد الظفر خلیق (۱) أن يعلم مدى انتصاره ، ومدى ما يتوقعه بعده ، و مدی ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة ، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات ، وهؤلاء مراسلو الصحف الحر بيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف ، يجدون من واجبهم الا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد انجلاء الفريقين اليشرحوا دروس النصر والهزيمة بينهما، ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب ، فانصراف محمد عن ساحة بدر على اثر النمر عمل غريبه يخل بمكانة القائد ، وبواجب التحقيق ، والاستفادة من كل ما يفيد بعد معركة الأحزاب : و نحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصي ما ذكره المؤرخون الأوربيون من مآخذ في هذا الباب وأهمه عدا ما قدمناه قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب فان أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا للعرف المتبع في الحروب ، و ينسون أمورا لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها و يستحضروها أتم استحضار ، و هي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات فلا يجدي معهم أخذ المواثيق (۲) من جديد ، وانهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه، وان سعد! انما دا نهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها الى الصلح ، فان أجابتك إلى الملح ، وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير و يستعمله لك ، وأن لم تسالم بل عملت معك حربا فحاصرها ، واذا دفعها الرب الهك الى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم و كل ما في المدينة كل غنيمة فتغنمها لنفسك وتأكل د E 6
ہ [58]$ غنيمة أعدائك التي اعطاك الرب الهك ۰۰» ( اصحاح ۱۰ الى ۱۰ تثنية ) وينبغي أن يسأل الناقدون أنفسهم بعد هذا : ماذا كان مصير المسلمين لو ظفرت بهم الأحزاب ؟ فالقضاء الذي قضاه النبي في بني قريظة عدل وحكمة وصواب وما من احد يقضي غير ذلك القضاء ، وهو مؤتمن على مصير أمة يرحمها من غدر أعدائها ، ومن لددهم (۱) في خصومتها ، ومن استباحتهم كل منكر في التربص والوثبة بعد الوثبة عليها وان حملة تأديبية واحدة من حملات العصور الحديثة يحملها قوم مسلحون على قوم عزل يذودون (۲) عن أوطانهم وحقوقهم، الفيها من البطش والتعذيب ما لم يحدث قط نظير له في عقاب بني قريظة ، ولا في جميع الحروب التي نشبت بين النبي عليه السلام و بين أعداء له ولدينه ، هم المتفوقون عليه في العدد والثروة والسلاح ان عبقرية محمد في قيادته لعبقرية ترضاها فنون الحرب وترضاها المروءة ، وترضاها شريعة الله والناس ، وترضاها الحضارة في أحدث عصورها ، ويرضاها المنصفون من الأصدقاء والأعداء . + .
۸ه
زادت
قالب:Default layout
تصنيف:
عبقرية محمد
=======
أي تكف
التيقن والتأكد
نقض
من حيث اتى
أي انتقل اليه وبلغه
الخلف
الآباء المتقدمين
پدافعون
ترفض
المعوقات
الاية 193 من سورة البقرة
تنهي
ترجع
الاية 9 من سورة الحجرات
المشق ، سرعة الطعن
السيف
قوة وقدرة
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/عبقرية محمد السياسية
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ عبقرية محمد العسكرية عبقرية محمد السياسية
المؤلف: عباس العقاد ← عبقرية محمد الإدارية
[59]
عبقرية محمد السياسية
<
*
6 سياسة الخصوم والأتباع السياسة على معان كثيرة في العرف الحديث فمنها ما يكون بين بعض الدول وبعض من المراسم والعلاقات ومنها ما يكون بين هذه الدول من معاهدات وخطط في أعمالها الخارجية ، ومنها ما يكون بين الراعي ورعيته ، أو بين الأحزاب والوزارات من برامج ودعوات ، ولكل معني من هذه المعاني اصطلاحه في العرف الحديث ، وأن جمعتها كلمة السياسة في اللغة العربية وقد تولى النبي عليه السلام أعمالا كثيرة مما يطلق عليه لفظ السياسية في عموم مدلوله ولكننا لا نعرف بينها عملا واحدا هو أدخل في أبواب السياسة ، وأجمع لفرو بها ، وأبعد عن المشاركة في صفة القيادة العسكرية أو صفة الوعظ العلني أو سائر الصفات التي اتصف بها عليه السلام من عهد الحديبية في مراحله جميعا ، منذ ابتدا بالدعوة إلى الحج الى أن انتهى بنقض الميثاق (۱) على أيدي قريش ففي عهد الحديبية تجلی (۲) تدبير محمد في سياسة خصومه وسياسة أتباعه ، وفي الاعتماد على السلم والعهد، حيث يحسنان ويصلحان ، والاعتماد على الحرب والقوة حيث لا تحسن المسالمة ولا تصلح العهود بدأ بالدعوة إلى الحج ، فلم يقصره في تلك السنة على المسلمين المصدقين لرسالته بل شمل به كل من أراد الحج من ابناء القبائل العربية التي تشارك المسلمين في تعظيم البيت والسعي اليه ، فجعل له وللعرب أجمعين قضية واحدة في وجه قريش ، ومصلحة واحدة في وجه مصلحتها ، وفصل بذلك بين 0 د و
اه [60]6 € < فها هو دعواها ودعوى القبائل الأخرى ، ثم أفسد على قريش ما تعمدوه من اثارة نخوة (1) العرب وتوجيهها إلى مناواة (۲) محمد والرسالة الإسلامية ، فليس محمد وأصحابه أناسا معزولين عن النخوة العربية يضعون من شأنها ويبطلون مفاخرها ، ولكنهم اذن عرب ينتصر بهم العرب ولا يذلون بانتصارهم ، أو يقطعون ما بينهم و بين آبائهم وأجدادهم ، فاذا خالفوا قريشا في شيء ، فذلك شأن قريش وحدهم ، أو شأن المنتفعين من قريش بالسيطرة على مكة ، وليس هو بشأن القبائل أجمعين ثم أفسد على قريش من جهة أخرى ما تعمدوه من اغضاب العرب على الاسلام ، بما ادعوا من قطعه للأرزاق ، وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها النادون (۳) الى مكة والرائحون (4) منها محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام ، فاذا حال بينهم حائل و بين ما يقصدون اليه ، فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه .. ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين وقد سمعنا كثيرا في العصور الحديثة عن المقاومة السلبية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير وجه الحق والحجة سمعنا بها في الحركة الهندية التي قام على راسها غاندي و تابعه فيها بعض مرید یه ، حتى كان لها من الأثر في ازعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية وقيل يومئذ ، ان غاندي قد تتلمذه في هذه الحركة على المصلح الروسي الكبير ليون تولستوي .. وقيل ، بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم ايذاء الحيوان فضلا عن الانسان ، قبل أن يشرع ليون تولستوي مذهبه الجديده والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيون على حركة غاندي و تبشيره بتلك المقاومة السلبية ، لاعتقادهم أن الاسلام قد شرع للقتال فلا يوائم (5) [61]المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين ، من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة . لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ، ويبين لهم أن الإسلام قد أخذه من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته واسبابه فلا هو پر کن الى السيف وحده ولا الى السلم وحده ، بل يضع كليهما حيث يوضع ، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع ، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار ، وليس الآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار . + + + و وقد خرج النبي الى مكة في رحلة الحديبية حاجا لا غازیا . يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله ، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح ، الا ما يؤذن به لغير المقاتلين فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب و قريش وحسب .. بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش ، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسالك في دفعه أو قبوله أو مهادنته (۱) ، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعا للاتفاق بين خصومه على قرار واحد ، وقل من أتباعه من أدرك قصیده و مرماه حتى الصفوة المختارين ولما اتفق الطرفان - المسلمون وقريش م على التعاهد والتهادن ، كانت سياسة النبي في قبول الشروط التي طلبتها قريش غاية في الحكمة والقدرة « الدبلوماسية ، كما تسمى في اصطلاح الساسة المحدثين دعا بعلي بن أبي طالب فقال له : « بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو مندوب قريش : « أمسك (۲) ! لا أعرف الرحمن الرحيم ، بل اكتب باسمك اللهم : فقال النبي : « أكتب باسمك اللهم ثم قال : « اكتب ( هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهیل ابن عمرو ) » & . . ا- مصالحته ام امسك عن الكلام : مسكت 11 [62]و فقال سهيل : « أمسك ! لو شهدت انك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن أكتب اسمك واسم أبيك » وروي أن عليا تردد فمسح النبي ما كتب بيده ، ، وأمره أن بكتب د محمد بن عبد الله في موضع محمد رسول الله » • ثم تعاهدوا على أن من أتی محمدا من قريش بغير اذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا من رجال محمد لم پر دوه عليه وأنه من أحب من العرب محالفة محمد فلا جناح (۱) علیه ومن أحب محالفة (۲) قريش فلا جناح عليه ، وان يرجع محمد واصحابه عن مكة عامهم هذا على ان يعودوا اليها في العام الذي يليه ، ويقيموا بها ثلاثة ايام ومعهم من السلاح السيوف في قربها ، ولا سلاح غيرها 6 « ولو كان عهد الحديبية هذا قد كتب بعد قتال انهزم فيه المشركون وانتصر فيه المسلمون ، لوجب أن يكتب على غير هذا الأسلوب فيعترف المشركون كرها أو طوعا بصفة النبوة ولا يردون أحدا من مواليهم أو قاصريهم يذهب الى النبي ويلحق بالمسلمين ولكنه عهد مهادنة أو عهد و ايقاف أعمال العداء الى حين » كما يسمونه في اصطلاح العصر الحاضر يعوزه (۳) شيء من الأصول المرعية في أمثال هذه العهود ، من اثبات صفة المندوبين التي لا ارغام فيها لأحد الطرفين ولا مخالفة الدعوى الفريقين ، ومن حفظ كل لحقه في تجديد دعواه واستئناف مسعاه . فلو أن النبي عليه السلام شرط على قريش أن ترد اليه من يقصدها من رجاله لنقض بذلك دعوى الهداية الاسلامية و نقض الوصف الذي يصف به المسلمين فان المسلم الذي يترك النبي باختياره ليلحق قر یشا ليس بمسلم ، ولكنه مشرك يشبه قريشا في دينها و هي أولى به من نبي الاسلام أما المسلم الذي يرد على المشركين مكرما فانما الصلة بينه و بين النبي الاسلام ، وهو شيء لا سلطان عليه للمشركين ولا تنقطع الصلة فيه بالبعد والقرب فان كان الرجل ضعيف 6 ا- جناح : اثم 2- الدخول في عهدهم ۳ - فلا يفتقر الى شيء [63]هي ها تا الدين ففتنوه عن دينه فلا خير فيه ، وان كان وثيق (۱) الدين فبقي على دينه فلا خسارة على المسلمين . وما انقضت فترة وجيزة حتى علمت قريش أنها الخاسرة بذلك الشرط الذي حسبته غنما (۲) لها وخذلا تا لمحمد صلوات الله عليه فان المسلمين الذين نفروا من قريش ولم يقبلهم محمد في حوزته رعاية لعهده ، قد خرجوا الى طريق القوافل يأخذونها على تجارة قريشو هي أمان في عهد الهدنة بين الطرفين فلا استطاع المشركون أن يشكوهم إلى النبي لأنهم خارجون من ولايته بحكم الهدنة ، ولا استطاعوا أن يحجزو هم في مكة كما أرادوا أملوا شروطهم في عهد الحديبية ، ولو قضي العهد بولاية النبي على من ينفر من مسلمي مكة لجاز للمشركين أن ينقضوه أو يطالبوا النبي بالمحافظة عليه
وتم العهد بعد قليل فعرف من لم يعرف ما أفاء (۳) على الاسلام فجهر بمحالفة النبي من لم يكن يجهر بولائه واستراح النبي من قريش ، ففرغ ليهود خيبر والمسالك الأجنبية پر سل الرسل الى عظمائها بالدعوة الى دينه ، وفتح الأبواب لمن يفدون اليه ممن أنكروا بغي قريش وأمنوا أن تكون نصرتهم للاسلام حربا يبتلون فيها بما لا يطيقون و بوم نزلت الآية الكريمة على أثر اتفاق الحديبية : « آنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر نعمته عليك و يهديك صراطا مستقيما» (4) لم يفقه الكثيرون معناها في حينها ، ولم يتبينوا موضع الفتح من ذلك الاتفاق الذي حسبيه محض (5) تسليم ولكنهم فهموا أي فتح هو بعده سنتين ، وعلموا أن من الفتوح ما يكون بغير السيف ، وما يشبه الهزيمة في ظاهره عند من يتعجلون، ولا يحسنون النظر الى بعید 4 و يتم الفتح المبين كان في تلك السنة فتح ، يراه الناظر بعين الغيب ، ولا يراه < ا- قوي - كسها ۶ های رجع وعاد 4 - الآية :2،۱ من سورة الفتح و - خالم \r [64]بغير العيون الناظر بعينه ولكنها سنة واحدة ثم رأي الفتح المبين من لا يرون راوه وامتلأت عيونهم بالنظر اليه ، فسر قوما وساء آخرين ففي السنة التالية نادي الرسول أصحابه أن يتجهزوا للحج ولا يتخلف أحد ممن شهده الحديبية ، فخرجوا في شرق المنطلق بعد منع ، والمنتظر بعد صبر ، الا من استشهد في خيبر وادر کته الوفاة خلال العام ، وخرج معهم جمع كبير ممن لم يشهدوا النساء والأطفال، وساقوا أمامهم ستين بدنة (۱) مقلدات (۲) للهدى ، وقد حملوا السلاح والدروع والرماح وعلى رأسهم مائة فارس يقودهم محمد بن سلمة الحديبية يتبعهم
* *
h فلما انتهى الرسول و صحبه الى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وعلمت قريش بالنبأ ، ففزعوا و بعثوا بمکرز بن حفص في نفر منهم ، فجاءوا يقولون : « والله يا محمد ما عرفت مغيرا ولا كبيرا بالغدر تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت عليهم الا تدخل الا بسلاح المسافر : السيوف في القرب ؟» فقال عليه السلام : « أني لا أدخل عليهم بسلاح ه قال مکرز :« هو الذي تعرف به : البر والوفاء » وانما حمل النبي السلاح للحيطة كما قال لصحبه : « آن ماجنا (۳) هائج من القوم كان السلاح قريبا منا» .. وتر که في الحراسة على مقربة من مكة حيث يوصل اليه عند الحاجة اليه ثم أقبل عليه السلام على ناقته القصواء وجموع المسلمين محدقون به متوشحون بالسيوف يلبون ويهللون ، وأخذ معبد ابن رواحة بزمام القصواء وهو ينشد : خلوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير في رسوله یا رب اني مؤمن بقيله اني رأيت الحق في قبوله وأوشك وقد هزته النخوة أن يصيح في قريش صيحة الحرب، فنهاه عمر رضي الله عنه وأمر النبي أن ينادي ولا يزيد : لا اله الا الله وحده ، نصر عبده ، وأعز جنده ، ،وخلال الأحزاب < ا- باقة او بقرة سمينة 2- تقليد البينة : ان يعلق في عنقها شيء لبعلم الها هدي ۳- المراد : افارقا . ۱( [65]وحله » ، فرفع ابن رواحة بها صوته الجهير ، وتلاه المسلمون يرددونها و تهتز بها جنبات الوادي القريب ، فيسمعها من فارقوا مكة لكيلا يسمعو ها ولا يروا ركب النبي يخطو في نواحيها
* *
6
6 وكان الفتح الذي بصر به عيانا من لم يره يوم الحديبية بنور البصيرة ، وأسلم من الضعفاء والأقوياء من كان عميا على الاسلام : فريق منهم بهر هم وفاء النبي بعهده مع استطاعة نقضه وفريق منهم راعهم سمت (۱) الدين ورحتم الاسلام فيما بين المسلمين ، وجمال ما بينهم وبين نبيهم من طاعة وتمكين ، وفريق منهم علموا أن العاقبة للاسلام فجنحوا (۲) الى طريق السلامة والسلام ، وحسبك (۳) أن عمرة القضاء هذه قد جمعت في آثارها من أسباب الاقناع بالدعوة المحمدية ما أقنع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص ، وهما في رجاحة الخلق والعقل مثلان متكافئان ، وان كانا لا يتشابهان وهكذا تجلت عبقرية محمد في سياسة الأمور ، كما تجلت في قيادة الجيوش ، فكان على أحسن نجاح في سياسته از نادی بعزيمة الحج وهو لم يفتح مكة بعدده وعدته ، واذ دعا المسلمين وغير المسلمين الى مصاحبته في رحلته ، واذ توخي (4) ما توخی من طريقة المسالمة واقامة الحجة في انفاذ عزيمته ، وان قبل العهد الذي كبر قبوله على أقرب المقربين من عترته (5) ، واذ نظر الى عقباه ، ووصل به الى القصد الذي توخاه ها ه أ- السمن : الطريق - مالوا ۳ - يكنيك 4- تحرى وقصد و عترة الرجل : السله ورهطه الاملون • ما
تصنيف:
عبقرية محمد
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/عبقرية محمد الإدارية
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→عبقرية محمد السياسية عبقرية محمد الإدارية
المؤلف: عباس العقاد ← البليغ
[66]
عبقرية محمد الادارية
ملكات شخصية
في الاسلام احكام كثيرة مما يدخل في تصرف رجال الادارة كما نسميهم اليوم .. وفيه وصايا كثيرة عن المعاملات ، کالمساناة (۱) والمبايعة والاستقراض والشفعة والتجارة وسائر شئون المعيشة الاجتماعية يقتدي بها المشترعون في جميع العصور ولكنا لا نريد بما نكتب عن النبي أن نسرد أحكام و نبسط وصايا الدين ، فهي مشروحة في مواطنها لمن شاء الرجوع اليها ، وانما نريد أن نعرض لأعماله ووصاياه من ملكات شخصية وسلائق (۲) نفسية ، تلازمه حيث كان مؤديا لرسالة الدين ، أو مؤديا لغير الرسالة من سائر أعمال الانسان كذلك لا يعنينا مثلا أن نتكلم عن « الادارة » كأنها نصوص المنشورات و « اللوائح » التي تدار بها الدواوين ، وتجري عليها تفصيلات الحركة في مكاتب الحكومة ، فان هذه وما اليها هي أعمال منفذين مأمورين و ليست أعمال مدير ين آمين ، وانما نعني الملكة الادارية من حيث أساس في التفكير : من اعتمد عليه استطاع أن يقيم بناء الادارة كلها على أسس قويمة ، ثم بدع لغيره تفصيلات الأضابير (۳) والأوراق • فليس في وسع رجل مطبوع على الفوضى مستخف بالتبعة (4) أن يؤسس ادارة نافعة ولو كان فيما عدا ذلك كبير العقل كبير الهمة . أما السليقة المطبوعة على انشاء الادارة النافعة فهي السليقة التي تعرف النظام، وتعرف التبعة ، وتعرف الاحتصاص بالعمل ، فلا تسنده إلى كثيرين متفرقين يتولاه كل منهم على هواه . وقد كانت هذه السليقة في محمد عليه السلام على أتم ما تكون : كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج الى تدبير " ومن حديثه المأثور : ماذ! خرج في سفر فليؤمروا (5) أحدهم » المأثورة : انه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة هي < 6 ثلاثة ومن أعماله [67]+
B ( قوما وهم < د للخليفة أذا أصيب من تقدمه بما يقعده عن القيادة ، وكان قوام الرئاسة والامامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة ، وهما الكفاءة والحب : « أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم : أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين » . ور أيما رجل أم له كارهون لم تجز (۱) صلاته أذنيه وكان إلى عنايته باسناد الأمر الى المدير القادر عليه ،حريصا على تقرير التبعات في الشئون ما كبر منها وما صغر ، على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال : « كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته : فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم والمرأة راعية على بيت بعلها (۲) وهي مسئولة عنه ، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته » وقد كانت أوامر الاسلام و نواهية معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصارا كانوا أو مهاجرين ، ولكنه عليه السلام لم يدعي النفسيه حقا في اقامة الحدود ، واكراه الناس على طاعة الأوامر ، و اجتناب التواهي غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلا من المشركين غضب عليه السلام ، وقال فيما قال من حديثه المبين : «۰۰ فمن قال لكم ان رسول الله قد قاتل فيها فقولوا : أن الله قد أحلها الرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة ولما أراد أن يصادر الخمر ، نهي في ذلك منهجا يقصد به الى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال : « أمرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن آتيه بمدية ، فأتيته بها ، فأرسل بها فأرهفت (۳) ثم أعطانيها فقال أغد علي بها . ففعلت ، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق (4) الخمر قد جلبت من الشام . فأخذ المدية (2) مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها ، وأمر الذين كانوا معه أن يترك أحدا 6 6 ا- تتخطى ؟ - زوجها ۳ - أي رقق معها - الرق العملاء • ۹۷ [68]9 6 يمضوا . و يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد معي فيها زق خمر الا شققته ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقا الا وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ، و يبين الحلال فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه المسلمين من منهم و من لم يتفقه في الدين ، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام ، وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل ، ولكنها مسألة أدارة وتنفيذ في مجتمع حافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء ، ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوی وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان ، فلم يكتف النبي عليه السلام بصريح التحن يسم في القرآن ، ولا أكتفي باسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام ، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلا بعينه وأناسا بأعينهم أن يمضوا في اتمام عمله ، ولم يجعل ذلك أذنا لمن شاء أن يفعل ما شاء وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الامن والنظام ، و توطيد (1) أركان الشريعة والقانون ، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاما هو أجمع لوجوده الصواب في هذه المسألة من قول النبي : « السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا ولا طاعة ». ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت : « ۰۰۰ الا تنازع الأمر أهله الا أن تروا كفرا بواحا (۲) عند كم من الله فيه برهان » ومن قوله : « الامام الجائر خير من الفتنة ، وكل لا خير فيه ، وفي بعض الشر خیار ، و من قوله : « أن الأمير اذا أبتغي الريبة (۳) في الناس أفسدهم » الى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الادارة الحكيمة ، والخملط السليمة المستقيمة ، بين أمر ومأمور نظام وفوق النظام سلطان ، وفوق السلطان پر هان من الشرع والعقل لا شك فيه ، وجميع أولئك على سماحة لا تتسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء 4 4 & ا- تثبيت 5- غير مفطور - التهمة والشك و ۹۸ [69]د هذا الالهام النافذه السديد في تدبير المصالح العامة ، وعلاج شئون الجماعات ، هو الذي أوحي إلى الرسول الأمي قبل کشف الجراثيم ، وقبل تأسيس الحجر الصحي بين الدول هو قبل العصر الحديث بعشرات القرون ، أن يقضي في مسائل الصحة واتقاء
نشر الأوبئة بفصل الخطاب الذي لم يأت العلم بعده بمزيد ، حيث قال : « اذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها ، واذا " وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فتلك وصية من ينظر في تدبيره الى العالم الانساني بأسره ، لا إلى سلامة مدينة واحدة أو سلامة فرد واحد ۰۰ اذ ليس أصون (۱) للعالم من حصر الوباء في مكانه ، وليس من حق مدينة أن تنشد السلامة لنفسها أو لأحد من سكانها بتعريض المدن كلها لعدواها تدبير الشئون العامة على أن الادارة العليا انما تتجلى في تدبير الشئون العامة حين تصطدم بالأهواء وتنذر بالفتنة والنزاع ، فليست الادارة كلها نصوصا وقواعد يجري الحاكم في تنفيذها مجرى الآلات والموازين التي تصرف الشئون على نسق (۲) واحد ، ولكنها في كثير من الأحيان علاج نفوس وقيادة أخطار لا أمان فيها من الانحراف القليل هنا أو الانحراف القليل هناك . وذلك هو المجال الذي تمت فيه عبقرية محمد في جلول التوفيق واتقاء الشرور أحسن تمام ، فما عرض له أم من معضلات الشقاق بعد الرسالة ولا قبلها الا أشار فيه بأعدل الآراء ، وأدناها الى السلم والارضاء - صنع ذلك القبائل على أيها يستأثر باقامة الحجر الأسود في مكانه شرف لا تنزل عنه قبيلة لقبيلة ، ولا تؤمن عقبی (۳) الفصل فيه بایثار احدى القبائل على غيرها ، ولو جاء الايثار من طريق المصادفة والاقتراع ، فأشار محمد بالرأي الذي لا رأي غيره الحاضر الوقت ولقيل النيب المجهول ، فجاء بالثوب ووضع الحجر الأسود عليه وأشرك كل زعيم في طرف من أطرافه ، وكان تدبي حين اختلفت ، و هو 6 3 ا- امغظ ۲- نظام وترتیب ۲ - أي عاقبة . 11 [70]من قسمته هو على غير خلاف بين الناس أن يقيمه بيده حيث كان ، وأن ينسلف الدعوة وهي مكنونة في طوايا الزمان ، ولو علموا بها يومئذ لما سلموا ولا سلم من عدوان وشنان (۱) - وصنع ذلك هاجر من مكة المدينة فاستقبلته الوفود تتنافس على ضيافته و نزوله ، وهو يشفق أن يقدح في نفوسها شرر الغيرة بتمييز أناس منهم على أناس أو اختيار محلة دون محلة فترك لناقته خطامها (۲) تسير ، ويفسح الناس لها طريقها حتی بر کت حيث طاب لها أن تبرك ، وفصلت فيما لو فصل فيه انسان كبير أو صغير لما مضى فصله بغير جريرة (۳) لا تؤمن عقباها بعد ساعتها ، ولو أمنت في تلك الساعة على دخل (4) وسوء طوية (2) وصنع ذلك فضل بالغنائم أناسا من أهل مكة الضعيف ایمانهم على الناس من الأنصار الذين صدقوا الاسلام وثبتوا على الجهاد ، فلما غضبه المفضولون لم يكن أسرع منه الى ارضائهم بالحجة التي لا تغلب من يدين بها ، بل تريه انه هو الغالب الكاسبه و انها تصيب منه المقنع والاقناع في وقت واحد : أوجدتم يا معشر الأنصار في لعاعة (1) من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا وو كلتكم إلى اسلامكم ؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار کلام مدير فيه الادارة والرياسة هبة من هبات الخلق والتكوين فهو مدير حين تكون الادارة تدبير أمور ، ومدير حين تكون الادارة تدبير شعور ، وهو كفيل ألا يلي مصلحة من المصالح تعتورها الفوضى ويتطرق اليها الاختلال ، لأنه يسوسها بالنظام و بالتبعة ، و بالاختصاص و بالسماحة ، وما من مجتمع يساس بهذه الخصال ويبقى فيه منفذ بعدها لاختلال او انحلال، أو لخطل (۷) في ادارة الأعمال D و ا- بغض ؟ - زمامها ۳- اي جريحة 4 - مكرود نية 1 - المراد ، متاع دنيوي زائل لام فساد Y.
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/البليغ
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ عبقرية محمد الإدارية البليغ
المؤلف: عباس العقاد ← محمد الصديق
[71]
البليغ
«اللهم هل بلغت» ! هنه اللازمة (۱) التي رددهسا النبي في الطول خطبه الأخيرة ، وهي خطبة الوداع - وهي لازمة عظيمة الدلالة في مقامها ، لأنها لخصت حياة كاملة في ألفاظ معدودات ، فما كانت حياة النبي كلها بعملها و قولها وحركتها وسكونها الا حياة تبليغ و بلاغ، وما كان لها من فاصلة خاتمة أبلغ من قوله عليه السلام وهو يجود بنفسه : و جلال . الرفيع فقد بلغت ! ، ۰ ولصدق هذه الدلالة ترى أن السمة (۲) الغالية على أسلوب النبي في كلامه المحفوظ بين أيدينا هي سمة الابلاغ قبل كل سمة أخرى بل هي السمة الجامعة التي لا سمة غيرها ، لأنها أصل شامل لما تفرق من سمات هي منها بمثابة الفروع • وكلام النبي المحفوظ. بين أيدينا : اما معاهدات ورسائل كتبت في حينها ، واما خطب و أدعية ووصايا وأجوبة عن أسئلة كتبت بعد حينها وروعيت الدقة في المضاهاة بين رواياتها جهد المستطاع والا بلاغ هو السمة المشتركة في أفانين (۳) هذا الكلام جميعا ، حتی ما جرى منه مجرى القصص ، أو مجرى الأوامر الى المرؤوسين ، أو مجرى الدعاء الذي يلقنه المسلم ليدعو الله انظر مثلا الى قصة أصحاب الغار الثلاثة وترسلهم
بصالح الأعمال وهي كما جاء في مختار مسلم : بينما ثلاثة نفر يتمشون اخذهم المطر فاووا الى غار في جبل ، فانحطت على فم غارهم صخرة من الدبل فانطبقت عليهم ، فقال بعضهم لبعض : انظروا أعمالا علتموها صالحة على مثاله ا [72]ذات وانه ای (۲) بي t 3 لله فادعوا الله تعالى بها ، لعل الله يفرجها عنكم ، فقال أحدهم: اللهم انه كان لي والدان شیخان كبيران ، وامراتي ، ولي صبية صغار أرعى عليهم . فاذا أرحت (۱) عليهم حلبت ، فبدأت بوالدي فسقيتهما قبل بني الشجر فلم آت حتى أمسيت ، فوجدتهما قد ثاما ، فحلبت كما كنت أحلب فجئت بالحلاب فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من تومهما ، وأكره أن أسقي المبية قبلهما والصبية يتضاغون (۳) عند قدمي ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم (4) حتى طلع البنجر فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة ترى منها السماء .. ففرج الله منها فرجة فرأوا منها السماء « وقال الآخر : اللهم انه كانت لي ابنة عم احببتها كأشد ما يحب الرجال النساء ، وطلبت اليها نفسها فأبت حتى آتيها بمائة دينار . فتعته حتى جمعت مائة دينار ، فجئتها بها د فلما وقعت بين رجليها قالت : يا عبد الله ! اتق الله ولا تفتح الخاتم (5) الا بحقه ، فقمت عنها ، فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة . ففرج لهم « وقال الآخر : اللهم اني كنت استأجرت أجيرا بفرق (1) ارز ، فلما قضى عمله قال : أعطني حقي ، فعرضت عليه فرقة فرغب عنه قلم ازل ازرعه حتى جمعت مثه بقرا ور عامها فقال : اتق الله ولا تظلمني حقي ! قلت : اذهب إلى تلك البقر ورعائها فخذها فقال : اتق الله ولا تستهزيء بي لا استهزيء بك . خذ ذلك البقر ورعاءها ! فأخذه وذهب به و فان كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ، فافرج النا ما بقي « ففرج الله ما بقي توجيه الأمراء والولاة هذا أسلوبه عليه السلام في التعليم بالقصص فانظر إلى أسلوبه في توجيه الأمراء والولاة كما جاء في مختار مسلم حيث قال : « كان رسول الله أذا أمر أميرا على جيش او ! ! فقلت : اني ا- المراد ، عدت من عملي ليلا ؟ - بعد ۳ - يخرجون من الجوع 4 - حالي ومالهم و كناية عن فض البكارة - اناء يسع ثلاثة اصع ، ۷۲ [73]& t 1 ، فان هم سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال : اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا (۱) ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا واذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين ، و أخبرهم أنهم ان فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين فان أبوا (۲) أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء (۳) شيء ، الا ان يجاهدوا المسلمين أبوا فسلهم الجزية ، فان هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فان هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم . « واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة (4) وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فانكم ان تخفروا (5) ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله « واذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ، فأنت لا أتصيب حكم الله فيهم أم لا ، ۰ وهذا أسلوبه عليه السلام في تعليم الولاة بالأوامر والوصايا • فانظر الى أسلوبه في الرسائل من رسالته إلى النجاشي حيث قال : سلم انت ، فاني أحمد اليك الله الذي لا اله الا هو القدوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن ابن مریم روح الله وكلمته ألقاها الى مريم البتول (1) الطيبة الحصينة (۷) فحملت فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بیده و نفخه و واني أدعوك الى الله وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فاني رسول الله « وقد بثت اليك ابن عمي تدري 3 ، الملك عیسی بعیدی جعفرا و نفرا معه من المسلمين ا- تخونوا ۲- رفضوا ۲ - الخسراج والغنيمة - عهد و تلقفوا العهد - المنراء او المنقطعة الى الله عن الدنيا ۷ - العنيفة ، ۷۳ [74]فاذا جاءك فأقرهم ودع (۱) التجبر ۰۰ فاني أدعوك وجنودك إلى الله فقد بلغت و نصیحت فاقبلوا نصحي « والسلام علی من اتبع الهدی ، • المعاهدات والمواثيق أما أسلوبه في المعاهدات والمواثيق : فهذا طرف (۲) مما جاء في كتابه عليه السلام بين المهاجرين والأنصار واليهود • المهاجرون من قريش على ربعتهم (۳) يتعاقلون بينهم وهم
يفدون عانيتهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين دو بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم (4) الأول ، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط (2) بين المؤمنين د وينو چشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين وهكذا الى آخر الكتاب تلك نماذج من كلام النبي في أربع أبواب مختلفات ، تتفرق موضوعاتها كما تتفرق القصص والأوامر والرسائل والمواثيق ولكنها كلها موسومة بسمة واحدة لا اختلاف فيها ، وهي الابلاغ أو البلاغ المبين ، وأصدق ما يقال في تعريفها ما قيل في تعريف الخط المستقيم عند أهل الهندسة : أقرب موصل بين نقطتين . فليس أقرب من هذا الأسلوب في ابلاغ الغرض منه • لا كلفة ولا غموض ولا اغراب ، وقلة الغريب - بل ندرته - في كلام النبي أجدر (1) الأمور بالملاحظة في اقامة المثل والنماذج الأساليب البلاغة العربية فمحمد العربي القرشي الناشيء في بني العالم بلهجات < i اس ترك 3- جالب او جزء ۳- ربعتهم : امرهم الذي كانوا عليه 4 - المعاقل : الديات و المحل ۹ - أحق واولى . Y4 [75]مراجعة وم 4 القبائل حتى ما تفوته لهجة قبيلة نائية (۱) في أطراف الجزيرة لم يكن في كلامه كله غريب يجهله السامع او يحتاج تبيانه إلى ذلك انه يريد أن يبلغ أو يريد أن يصل الى سامعه ، ولا يريد أن يقيم بينه و بين السامع حاجزا من اللفظ الغريب أو المعنى الغريب ، ومن ذلك ما روي عنه عليه السلام : انه كان يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه ، وأنه كان يبغض التكلف والاغترار بالبلاغة كما قال : « أن الله تعالى يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل (۲) بلسانه تخلل الباقرة (۳) بلسانها ، . وقد عرف عن النبي عليه السلام في حياته الخاصة والعامة أنه كان قليل الكلام ، معرضا عن اللغو ، لا يقول الا الحق وان قاله في مزاح . فمن ثم لا عجب أن يخلو كلامه من الحشو والتكرار والزيادة ، فاذا كرر اللفظ بعينه كما جاء في بعض المعاهدات فذلك أسلوب المعاهدات الذي لا محيص عنه ، لأن تكرار النم يمنع التأويل عند اختلافه ، فهو أيضا سمة من سمات الابلاغ على سبيل التوكيد والتحقيق ، أو على سبيل الإعادة التي روي أنه كان يتوخاها عليه السلام أحيانا ليعقل عنه كلامه وفي كتابه الى النجاشي زیادة من أسماء الله الحسنى ومن الاشارة الى المسيح وأمه لم تؤثر في الكتب الأخرى ، ولكنها ألزم ما يلزم في خطاب ملك مسيحي يراد منه أن يفهم كيف تتفق صفات الله والمسيح في دينه وفي دين المسلمين الذي يدعى اليه ، وكيف يبتني طريق المقابلة بين العقيدتين اذا شاء ما على الرسول الا البلاغ وهذا البلاغ في التعبير : كل كلمة تصل إلى سامعها ، وكل كلمة مقصودة بمقدار ولا زخرف ولا حيلة ولا مشقة متعمل (4) في ابتغاء التأثير ، الا الابلاغ الذي يليق بالرجولة والكرامة ، و على المعرض بعد ذلك وزر الأعراض سجع كحلية الذهب وكان عليه السلام يكره « سجع الكهان » الذي يخدعون به 6 5 - هو اس بعيدة ؟ - فله شق الساله ۳ - الباقر : المسنجر في العلم و المراد ، متكلفه Yo [76]6 6 السامع ليوهموه أنه يستمع إلى طلاسم السحرة والشياطين ولكنه لم يكن يأبی (۱) السجع بتة ولا يخلو كلامه من سجع يأتي على السجية (۲) ، ويغلب أن يكون ذلك فيما يرتل (۳) علانية کالأذان وما هو في حكمه ، أو فيما يحفظ من الوصايا الجامعة كقوله : « ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرطه ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط قضاء الله حق ، وشرط. الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق » أو قوله : « ان الله حرم علیکم عقوق الأمهات ووأد البنات ، ومنعا
وهات ، وكره لكم قیل و قال ، وكثرة السؤال ، واضاعة المال » • ومذهبه في هذه الحلية اللطيفة مذهبه في كل حلية تليق بالرجل : فحولة (2) في القول وفحولة في الزينة ، فسجيه عليه السلام كحلية الذهب التي يليق بالرجل أن يتحلى بها ، ولا مزيد كتب اليه أبو سفيان كتابا يقول في آخره: «۰۰۰ نريد منك نصف نخل المدينة ، فان أجبتنا الى ذلك والا أبشر بخراب الديار وقلع الآثار : تجاوبت القبائل من نزار النصر اللات في البيت الحرام وأقبلت الضراغم (2) من قريش على خیل ممسومة (6) ضرام (۷) فأجابه بكتاب جاء فيه : « وصل كتاب أهل الشرك والنفاق ، والكفر والشقاق ، وفهمت مقالتكم ، فوالله ما لكم عندي جواب الا أطراف الرماح وأشفار الصفاح (۸) ، فارجعوا ويلكم عن عبادة الأصنام، وأبشروا بضرب الحسام (۹)، و بفلق الهام (۱۰) وخراب الديار ، وقلع الآثار فهذا السجع في هذا المقام أصلح لخطاب الجاهليين ، لأنهم يعرفون منه معنی التوثيق والتمكين ، كما يعرفون منه معنی المناجزة والتخويف . ومن هنا أقر النبي نص الحلف الذي كان بين جده وخزاعة على ما كان به من سجع وتفخيم يجعلونهما موثقا تعقد به المواثيق وتؤکد به الحرمات 6 6 وهذا نصه : ا- يرفض ۴- اي دون تكلف ۲ - الترتيل ، الترسل والتبيين - المراد ، رجولة و الاسود ۲- معلمة - اي تشعل نار الحرب ۸ - المقصود ، حدود السيوف ۹. السيف ولا - الرؤوس " V ۷ [77]4 94 و باسمك اللهم ، هذا حلف عبد المطلب بن هاشم لخزاعة حلفا جامعا غير مفرق : الأشياخ على الأشياخ ، والأصاغر علی الاصاغر ، والشاهد على الغائب : قد تعاهدوا وتعاقدوا أو کد عهد ، وأوثق عقد ، لا ينقضن ولا ينكث ما أشرقت شمس على شبیر (۱) ، وحن بفلاة بعير ، وما أقام الأخشبان (۲) واعتمر بمكة انسان : حلف أبد لطول أمد ، يؤيده طلوع الشمس شدا ، وظلام الليل مدا ، وأن عبد المطلب وولده ومن معهم ورجال خزاعة متكافئون متضافرون متعاونون على عبد المطلب النصرة لهم بمن تابعه على طالب ، وعلى خزاعة سرة لعبد المطلب وولده ومن معه على جميع العرب في شرق أو غرب، أو حزن أو سهل ، و جعلوا الله على ذلك كفيلا، و کفی به حميلا هذه أمثلة السبع الذي فاه (۳) به الرسول أو أقره من كلام غيره، وما أه من تجميل الكلام فهو تجميل الابلاغ الذي لا كلفة فيه وقد أعانه عليه السلام على أسلوب الابلاغ أن الذين كانوا يستمعون اليه انما كانوا يستمعون الى كلام نبي محبوب مطاع، فهو نافذ في نفوسهم بغير حيلة، مستجمع لأسماعهم بنير تشویق ، قائم بالكفاية الوسطى التي لا حاجة بها الى افراط ولا خوف عليها من تفريط أما رسائله الى الملوك والأمراء - ممن لم يسلم ولم يهتد - فانما كانت للابلاغ أول الأمر ، ثم يأتي بعدها التفسير والتفصيل على السنة المرشدين والموكا بالاجابة يسألونه عنه ، كذلك قائمة على كفاية الا بلاغ، تلك الكفاية الوسطى التي لا افراط فيها ولا تفريط ونقول أن الأمرين أعانا النبي على أسلوبه المبلغ البليغ، ولا نقول انهما أنشأه و اوحياه فان الحوار القليل الذي حفظه لنا من أيام الدعوة الأولى قبل استفاضة (4) الدين واقبال الأتباع و قد كانت له صبغة هذا الأسلوب بعينه غير ظاهر فيها أثر من الكلفة والاصطناع.. لأن مصدر الفحولة في الابلاغ ثقته ، فهي المؤمنين ا- جبل بمكة - جبلا مكة ۳ - تكلم به شيوعد وانتشاره ۷ [78]< بقوله لا ثقة المستمعين اليه ، فكلامه كله نسق (۱) واحد في هذه الخصلة ، وخطابه كله خطاب سهولة وكرامة ، وسياقه كله مطواع لا أحتيال فيه، ووصاته لمن يقتدي به : أن يقصر الخطبة، ويقل الكلام كما كان يقول لمن يبعث بهم من الولاة ولا يفهمن من هذا أن مقتضيات الكلام لم يكن لها أثر في اختلاف الوضع أو اختلاف الموقف وهو يخاطب الناس ، فقد كان عليه السلام يلاحظ هذا الاختلاف ، و يعطيه حقه ، كما كان يفعل حين يتكيء على قوس وهو يخطب في الحرب، أو يتكيء على عصا وهو يخطب في العظات . و كان يبدو على وجهه ما يختلج بصدره اذا غضب أو أنذر « فكان اذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جیش : صبحكم مساكم R - أسلوب عصري ولمن شاء أن يحسب أسلوب النبي - كتابا وخطابا - أسلوبا عصريا يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان .. لأن الأسلوب الذي يخرج من الفطرة المستقيمة هو أسلوب عصري في جميع العصور ، و يخطيء من يحسب الوصل بين الجمل شرطا للكلام العربي القديم والفصل بينها علامة من علامات الأساليب المبتدعة (۲) في الزمن الأخير " و يخطيء كذلك من يحسب قبول الاشارات الترقيم (۳) علامة أخرى من علامات هذه الأساليب فاليك الحديث الذي نقلناه آنفا و مو مثل من أمثلة كثار ، حيث يقول عليه السلام : « ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ ما كان من شرط. ليس في كتاب الله فهو باطل ، وان كان مائة شرط : قضاء الله حق ، وشرط الله أوثق ، وانما الولاء لمن أعتق هذا الحديث رضي البلاغة العربية في وصله وفصله ، ورضی الأسلوب المصري في اشارات ترقيمه ، و آية على خطأ الذين يفر قون بين شروط البلاغة العربية ذلك النحو من التفريق الكلام « < ا- ترتيب ونظام ؟- المستحدثة ۳ - العلامات التي توضع بين الجمل او في نهايتها الفاصلة ، وعلامة الاستفهام والتعجب ۲۰۰ الخ . ۷۸ [79]6 رأي النبي في الشعر وقد نقلت الينا تعقيبات معدودة عن رأي النبي في الشعر والشعراء لا تدخل في النقد الفني ، وتدخل في كلام الأنبياء الذين يقيسون الكلام بقياس الخير والصلاح و المطابقة الشعائر الدین و سنن الصدق والفضيلة . و منها قوله : « اصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد : « ألا كل شيء ما خلا الله باطل »، ، وقوله عن امریء القيس ، أنه صاحب لواء الشعراء الى النار ، وأنه كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله مع بقاء المعنى المقصود ، فكان يقول مثلا : « ويأتيك بالأخبار من لم تزود » لأنها لا تقبل التبديل مع بقاء المعنى ، ولكنه اذا نطق بقول سحيم عبد بني الحسحاس : «كفى الشيب والاسلام للمرء ناهيا ، قدم كلمة الاسلام فقال : « كفي الاسلام والشيب للمرء ناهيا » لينفي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد ، و أن سور القرآن قصائد مرتلات كما المشركون » • وقد استحسن ما قيل من الشعر في النصح (۱) عن الاسلام والذود (۲) عنه وعن آله ، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحملون من كلام ، لأنهم قد بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح ، ولم يبعثوا ليلقنوهم دروسهم في قواعد النقد والانشاء $ زعم .
المعاني جوامع الكلم الا ان الابلاغ أقوى الا بلاغ في كلام النبي هو : اجتماع الكبار في الكلمات القصار ، بل اجتماع العلوم الوافية في بضع كلمات ، وقد يبسطها الشارحون في مجلدات ومن أمثلة ذلك : علم السلوك في الدنيا والدين وقد جمعه كله في أقل من سطرين قصيرين من قوله : « احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا » • ومن أمثلته : علم السيامية الذي اجتمع كله في قوله : « كما تكونوا يول عليكم
< ا- نفح البيت ، رشه بالماء 2 - الدفاع و ۷۹ [80]t فأي قاعدة من القواعد الاصيلة في سياسة الأمم لا تنطوي بين هذه الكلمات ؟ ينطوي فيها : أن الأمم مسئولة عن حكوماتها ، لا يعفيها من تبعة (۱) ما تصنع تلك الحكومات عذر بالجهل او عذر بالاكراه ، لأن الجهل جهلها الذي تعاقب عليه ، والاكراه ضعفها الذي تلقی جزاءه . وينطوي فيها أن العبرة بأخلاق الأمة ، لا بالتظ والاشكال التي تعلنها الحكومة ، فلا سبيل إلى الاستبداد بأمة تعاف (۲) الاستبداد ولو لم يتقيد، فيها الحاكم بقيود القوانين ولا سبيل إلى حرية أمة تجهل الحرية ولو تقيد فيها الحاكم بألف قيد من النظم والاشكال وينطوي فيها : أن الولاية تبع تابع وليست بأصل اصیل ، فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، و أحرى ألا يغير الوالي قوما حتى يتغيروا هم قبل ذلك و ينطوي فيها : « أن الأمة مصدر السلطات » على حد تعبير الحديث ، وينطوي فيها : أن الأمة تستحق الحكم الذي تصبر عليه ولو لم يكن حكم صلاح واستقلال وذلك هو الابلاغ الذي ينفذ في وجهاته كل نفاذ ويلحق بهذا في العلم بالتبعات قوله عليه السلام الناس بلاء الانبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل » فالمزايا الانسانية واجبات وأعباء ، وليست بالمتع والأزيام ، وعلم الانسان بالخير والشر يفرض عليه الفرائض التي يبتلي بها ، ولا يهنئه بالراحة التي يصبو اليها ، وهو محسوب عليه وكذلك ذكاؤه محسوب عليه . وأمثال هذه الأحاديث في أصول السياسة والاخلاق والاجتماع ما لا يتناوله الاحصاء في هذا . كان محمد فصيح اللغة فصيح اللسان فصيح الأداء وكان بليغا مبلغا على اساس (۳) ما تكون بلاغة الكرامة والكفاية ، وكان بلسانه وفؤاده من المرسلين ، بل قدوة المرسلين - و أشد 6 المقام ا- مسئولية 2- تكره ۳ - السلس ، السهل و ۸۰
========
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/محمد الصديق
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ البليغ محمد الصديق
المؤلف: عباس العقاد ← محمد الرئيس
[81]
محمد الصديق
عطوف ودود
اذا كان الرجل محبا للناس ، أهلا لحبهم اياه ، فقد تمت له أداة الصداقة من طرفيها . وانما تتم له أداة الصداقة بمقدار ما رزق من سعة العاطفة الانسانية و من سلامة الذوق ، ومتانة الخلق ، وطبيعة الوفاء يحب الناس ليحبوه ، لأنه قد يحبهم وفي ذوقه نقص ينفر هم منه ويزهدهم في حبه ولا يكفي أن يكون محبا سليم الذوق ليبلغ من الصداقة مبلغها فقد يكون محیا محبوبا حسن الذوق ثم يكون نصيبه من الخلق المتين والطبع الوفي نزرا (۱) ضعيفا لا تدوم علیه صداقة ، ولا تستقر عليه علاقة : انما تتم أداة الصداقة بالعاطفة الحية والذوق السليم ، والخلق المتين ، وقد كان محمد في هذه الخصال جميعا مثلا عاليا بين صفوة خلق الله . كان عطوفا ير أم (۲) من حوله و يودهم ويدوم لهم على المودة طول حياته ، وان تفاوت ما بينه و بينهم من سن وعرق (۳) ومقام :۰۰ .. كان صبا في الثانية عشرة سافر عمه ، فتعلق به حتى أشفق العم أن يتر که وحده فاصطحبه في سفره وكان شيخا قارب الستين يوم بكي على قبر أمه بكاء لا ينسی وليس في سجل المودة الانسانية أجمل ولا أكره من حنانه على مرضعته حليمة ومن حفاوته بها وقد جاوز الأربعين ، فيلقاها هاتفا بها : أمي ! أمي ! ويفرش لها رداءه ويمسر ثديها بيده ۰۰ ا- قليلا ۲- أي يرحم ۳ - أمل • 41 [82]عم كانه يذكر ما لذلك الثدي عليه من جميل ، ويعطيها من الايل والشاء ما يغنيها في السنة الجد باء (۱) • ولقد وفدت عليه هوازن و هي مهزومة في وقعة حنين و فيها له من الرضاعة لاجل هذا العم من الرضاعة تشفع النبي الى المسلمين أن يردوا السبي من نساء وأبناء ، واشتري السبي ممن أبوا رده الا بمال وحضنته في طفولته جارية عجماء فلم ينس لها مودتها بقية حياته ، وشغله أن تنعم بالحياة الزوجية ما يشغل الأب من أمر بتاته ورحمه ، فقال لأصحابه : « من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن وما زال يناديها يا أمة كلما . رآها وتحدث اليها ، وربما رآها في وقعة قتال تدعو الله وهي لا تدري كيف تدعو بلكنتها (۲) الأعجمية ، فلا تنسيه الوقعة الجاز بة (۳) أن يصغي اليها و يعطف عليها 6
ورحم وكان هذا عطفه على كل ضعيف، ولو لم يذكره بحنان الطفولة الرضاع ، فما نهر خادما ولا ضرب احدا ، وقال انس : د خدمته النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فيما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تر تزكته ؟ • وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسا ، صافي القلب اذا كره شيئا رؤي ذلك في وجهه ، واذا رضي عرف من حوله رضاه وقد اتسع عطفه حتی بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ، ولا على الناس من غير ذوي الرحم ، فكان يصفي (4) الاناء للهرة لتشرب ، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه ، واوصى المسلمين : « أذا ركبتم هذه الدواب فاعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شيالين» وكرر الوصاية بها أن « اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة و كلوها مصالحة وقال : « ان الله غفر لامرأة مومسة (5) مرت بكلب على راس رکی (6) يلهث قد كاد يقتله العطش ، فنزعت خقها فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » .اي قليلة الخيرات - الكية ، عجمة في اللسان وعي ۳- اي العامية الشديدة 4- بميل ق - فاجرة 1- بكر .
& AY [83]هي وقال في هذا المعنى : « دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش (۱) الأرض » • لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء ، فكانت له قصعة يقال لها الغراء ، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمي ذات الفضول ، وكان له ... شعرج يسمى الداج ، و بساط الكز ، وركوة تسمی الصادر ومرآة تسمى المدلة ، ومقراض يسمى الجامع ، وقضيب يسمى الممشوق وفي تسمية تلك الأشياء بالاسماء معنی تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين ، كأن لها « شخصية » مقربة تميزها بين مثيلاتها ، كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح و بالکنی (۲) والألقاب پشمی الألفة التي هي هذه العاطفة الانسانية التي رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها ، لم تكن . أداة الصداقة في تلك النفس العلوية بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلا ، ويتمثل - فيما يرجع الى علاقات النبي بالناس - في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود • و كان اذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه ، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه ، واذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله اياها ، فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي يتزع يده منه « و كان اذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده « و كان أرحم الناس بالصبيان والعيال « واذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته » « و كان أشد حياء من العذراء في خدرها . واصبر الناس على أقدار الناس . يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضر هم و يقول لمحبه : « من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في التار r C ا- حشرات ۲ و جمع كنية ، ۸۲ [84]العاطفة الانسانية والذوق السليم والأدب الكريم : سمت(۱) جميل ، و نظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس في أجمل مرآه ، ومع هذا كله ، أمانة يثق بها العدو فما بسال الصديق ؟ وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات و هم يناصبونه العداء ، فلم يخرج للهجرة وهو مهدد في سربه (۲) حتی رد الأمانات إلى أصحابها، وقد يكون في ردها ما ينبههم الى خروجه ويأخذ عليه سبيل النجاة ، وهذا الي اشتهاره بالأمانة في صباه حتى سمي بالأمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها : مثال هذه الصفات + + + . الكبير 6 كل هذه المزايا النفسية - بل بعض هذه المزايا النفسية - خليق أن يتم لصاحبه أداة الصداقة أو في تمام ، وأن يجعله محبا لمن حوله جديرا منهم بأحسن حبه وولاء. فلم يعرف في تاريخ العظمة - لا بين الأنبياء ولا غير الأنبياء - انسان ظفر بنخبة (۳) من الصداقات على اختلاف الاقدار والبيئات والأمزجة والاجناس كالتي ظفر بها محمد ، ولم يعرف عن انسان أنه أحيط من قلوب الضعفاء والأقوياء بما يشبه الحب الذي أحيط به هذا القلب تقدم في بعض فصول هذا الكتاب حدیث زید بن حارثة الذي خان من أهله و هو صغير ، ثم اهتدى أليه أبوه ، واهتدي هو الي أبيه على لهفة الشوق بعد اس طویل ، فلما وجب أن يختار بين الرجعة إلى آله و بين البقاء مع سيده « محمد » اختار البقاء السيد على الرجعة مع الوالد ، وشق عليه أن يحتجب عن ذلك القلب الذي غمره بحبه ومواساته ، وهو ضعيف شريد لا يرى ذويه (4) ولا يدري من هم ذووه وكان لا يغني من لازموه أن يلزموه في الحياة حتى يثقوا من ملازمتهم اياه بعد الممات ، فضعف مولاه ثوبان و نحل جسمه وألح عليه الحزن في ليله ونهاره ، فلما سأله السيدة العطوف يستفسره علة حزنه ونحوله قال في طهارة الأبرار : « اني اذا لم ارك اشتقتك واستوحشت وحشة عظيمة ، فذكرت الآخرة حيث 4 4 ا- ميلة - نفسا ۳ - خيار الأصحاب - اعله ، AC [85]6 لا أراك هناك ، لأني أن دخلت الجنة فأنت تكون في درجات النبيين فلا أراك » ورويت هذه القصة في أسباب نزول الآية الكريمة : ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (۱) وأدرك الموت بلالا فأحاط به أهله يصيحون واكر باه وهو يجيبهم : « واطرباه غدا ألقى الأحبة : محمدا وصحبه ۰۰! » • وقد عنينا مما تقدم بحب الصداقة بين الانسان والانسان لأننا لم نقصد حب المؤمن لنبيه في هذا الباب . فقد بلغ من امتلاء قلوب المسلمين والمسلمات بهذا الحب أن المرأة كانت تسمع أنباء المعركة ، فينعي (۲) اليها خاصة أهلها وهي تسترجع (۳) وتعرض عن هذا لتسأل عن النبي ، و تهتم بسلامته قبل اهتمامها بسلامة الأخوة و بني الأعمام، الا أننا عنينا (4) محبة الصداقة في هذا الباب لأنها هي المحبة التي جعلت كثيرا من الناس يؤمنون بمحمد لمحبتهم اياه واطمئنانهم اليه ، فكانت سابقة في قلوبهم وأرواحهم لحب العقيدة والايمان 4 عظمة العظمات ان عطف العظيم على الصغير حتى يستحق منه هذا الحب لفضيلة يشرف بها مقام العظيم في نظر بني الانسان ولكن قد يقال : أن استحقاق العظيم أن يحية العظماء لأشرف من ذلك رتبة و أدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان صحیح وهنا أيضا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار ، تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة و عظمة الرأي وعظمة الهمة ، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة و تنهض به أمة ، كما أثبت التاريخ و هذا ديب فيه & 4 ا- الاية 19 من سورة النساء و النمي ، غير الموت ۳ - اي تقول ، انا لله وانا اليه راجعون - قمنا . ۸۰ [86]6 6 والزبير من سير ابي بكر ، وعمر ، وخالد ، و أسامة ، وابن العاص ، وطلحة ، وسائر الصحابة الأولين • وربما عظم الرجل في مزية من المزايا ، فأحاط به الاصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية ، كما أحاط الحكماء بسقراط والقادة بنابليون بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواریون بالمسيح عليه السلام و كلهم من معدن واحد، و بيئة متقاربة .
* *
4 كلهم تلاع بلا ريب أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجذب (1) اليها الأصحاب النابغين من كل معدن و کل طراز (۲) ، وهي التي يتقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي ، و بين عمر وعثمان ، و بين خالد و محاف ، وبين أسامة وابن العاص : عظیم، و كلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه المنظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها ، حتی أصبحت فيها ناحية مقابلة لكل خلق ، و أصبح فيها قطب (۳) جاذب لكل معدن ، وأصبحت تجمع اليها البأس (4) و الحلم ، والحيلة والصراحة، والألمعية (5) و الاجتهاد وحنكة (6) السن وحمية الشباب تلك عظمة المنظمات ، ومعجزة الاعجاز في باب الصداقات . وما استحقها محمد الا بنفس غنيت بالحبه ، وخلصت وحتی أعطت كل محب لها كفاء ما يعطيها : مودة بمودة وصفاء بصفاء ، و عليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا بما هداهم اليا من نور العقل ونور البصيرة ، وهما أشرف من نور البصر لأنه نعمة يشترك فيها الانسان والعجماوات ، و نور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الانسان، و مع هذا كان ينكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر « ما أحده أعظم عندي يدا۔۔ من أبي بكر : واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته ، و كما قال عن أبي بكر وعمر : «ابو بکر و عمر مني بمنزلة السمع والبصره وكما قال عن علي : «علي أخي في الدنيا والآخرة، و كما قال عن 6 9
أ- تشد ؟ - هيئة وشكل ۲ - قطب الرمی : مديدة في الطبق الأسفل من الرحيين يدور عليها الطبق الأعلى 4 - الشدة ه- الالمعي : الذكي المتوقد ۶ - حنكة السن : الرجل اهكمته التجارب و ۸۹ [87]
1 بعض أصحابه : أن الله تعالى أمرني بحب أربعة، و أخبرني أنه يحبهم : على منهم ، وابو ذر ، والمقداد ، وسلمان » وكما قال عن الأنصار جميعا وهو في مرض الموت : راستوصوا بالأنصار خيرا انهم عيبتي (1) التي أويت اليهم ، فأحسنوا إلى محسنهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم » ۰۰۰ وغير ذلك كثير من الصحابة كافة وعن بعضهم مذكورين بأسمائهم
6 الانساني 9 على أننا نلمس دلائل هذا الفؤاد الرحب ، وهذا العطف الشامل في معاملته لأعدائه وشانئیه (۲) فضلا عن معاملته للأصفياء ، ومن ليس بينهم وبينه عداء ولا صفاء • فما ثأر من أحد أساء إليه في شخصه ، وقد عفا عن رجل هم بقتله وهو نائم ، ورفع السيف ليهوي به ، فسقط من يده على كره منه، وما حارب قط أحدا كان في وسعه أن يسالمه و يحاسنه ويتقي شره . ومعاملته لعبد الله بن أبي الذي كان المسلمون يسمونه رأس النفاق مثل من أمثلة الإغضاء (۳) والصفح الجميل : فقد عاهد و غدر ، ثم عاهد وغدر و عاش ما عاش يكيد للنبي في سره و يماليء (4) عليه أعداءه، وشاع أن النبي عليه السلام قضى بقتله فتقدم ابنه وقال له: «یا رسول الله، أنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه ، فان كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني ، واني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني (2) نفسي أنظر إلى قاتل ابي يمشي في الناس ، فاقتله ، فأقتل رجلا مؤمنا بكافر فأدخل النار » • فأبى النبي أن يقتله وآثر الرفق به ، وزاد في افضاله واجماله فكافأ الولد خير مكافأة على خلوص نيته وايثاره البر بدينه على البر بأبيه ، فأعطاه قميصه الطاهر يكفن به أباه ، وصلى عليه میتا ووقف على قبره حتى فرغ من دفنه ، وقد حاول عمر أن يثنيه عن الصلاة على ذلك العدو الذي آذاه جهد (1) الايذاء فذكر ، الآية : م أستغفر لهم أو لا تستغفر لهم ان تستغفر أ. عيبة الرجل ، موضع مره 2- كارهية والحاقدين عليه ۳ - غض الطرف : خفضه ، او احتمل المكروه من با بالكناية - يساعد ه- تتركلي - جد في الايذاء وبالغ 4 6 AY [88]لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (۱)۰۰ ، فقال : « لو أعلم اني ان زدت على السبعين غفر له زدت »
* *
هذه النفس المطبوعة على الصداقة والرحمة والسماحة ما أعجب اتهامها بالقسوة على ألسنة بعض المؤرخين الأوربيين ! ما أعجب اتهامها بالقسوة لأنها دانت أناسا بالموت كما يدين القاضي مجرما بذنبه وهو من أرحم الرحماء !.. ما أعجبهم اذ يذكرون العقوبة و ينسون الذنب الذي استوجب العقوبة كما يستوجب السبب النتيجة وأي ذنب ؟ ذنب لو قوبل به غير محمد لأراق فيها أنهارا من الدماء وله حجة من سلطان الدنيا والآخرة . فلا نذکر استهزاء المشركين به واعناتهم (۲) اياه والقاء هم عليه القذر والحجارة وائتمارهم بحياته وحياة أصحابه ، و اخراجهم المسلمين من ديارهم إلى أقصى الديار ، ولا نذكر العناد والاغاظة والاستثارة لغير جريرة (۳) الا انهم دعوا إلى عبادة الله، والتحلي بمكارم الأخلاق ، و ترك عبادة الأصنام ، وترك الرذيلة 4 6 لا نذكر شيئا من هذا فهو أطول من أن يحصيه هذا الكتاب ولكننا نذكر حادثا واحدا تجمع فيه من اللؤم ما تفرق في كثير غيره ، وذلك حادث الرسل الاربعين - وقيل : السبعين - الذين قتلوا في بئر معونة ولا ذنب لهم الا أنهم ذهبوا تلبية لدعوة الداعين ليعلموا من ينشد علم القرآن والذين ، غير منصوب (4) عليه . فماذا كانت دول الحضارة صانعة بالقاتلين الغادرين لو كان هؤلاء الاربعون أو السبعون مبشرين بالدين المسيحي، قتلوا في قبيلة من الهمج الذين يأكلون الآدميين ومن حقهم أن يعذروا كما تعذر الوحوش ۰ ۰ ان بقي من أبناء القبيلة من يروي أنباء المقبلة ، فقد يقال ان القوم لرحماء في العقاب ؟ ا- الآية { من سورة التوبة 1. العنت : الوقوع في امر شاق ۳ - ذئب - مكره M [89]$ ولم يكن حادث بئر معونة بالحادث الوحيد من حوادث الغدر بالرسل الأبرياء ، فلعلنا نختم هذا الفصل عن الصداقة ، بخير ما يختم به، حين نشير الى غدر قبيلة هذيل بالرسل الستة الذين ذهبوا اليهم ليعلموا من شاء أن يتعلم أحكام الدين وهو آمن في داره ، لا اکراه له ولا بغي(۱) عليه ، فقتلوا جميعا ، وجيء بأحدهم زید بن الدثنة أسيرا ليباع۰۰ فاشتراه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه ، و نصب للقتل ، فسأله أبو سفيان مستهزئا : « أنشدك الله يا زيد - أتحب أن محمدا الآن عندنا في مكانك تضرب عنقه وأنت في أهلك ؟ فأجابه زيد : « والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وانا جالس في أهلي » فصاح ابو سفیان دهشا : «ما رأيت من الناس أحدا يحبه أصحابه ما يحب أصحاب محمد محمدی ۰۰۰ من فعلة كهذه تعلم مدى ما استحقه محمد من حب الأصدقاء ومدى ما أستحقه أعداؤه من جزاء ، فقد أحب أصدقاءه وأحبوه، لأنه طبع على الصداقة ، أما أعداؤه فقد لقوا جزاءهم ، لأنهم هم طبعوا على العداء والاعتداء . . ا- عدوان ۸۹
===========
عبقرية محمد (1941)/محمد الرئيس
[90]
محمد الرئيس
الرئيس الصديق
من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس ، بعد كتابتنا عن محمد الصديق ، لأنه هو قد جعل للرئاسة معنی الصداقة المختارة فمحمد الرئيس هو الصديق الأكبر لمرؤوسيه ، استطاعته أن يعتز بكل ذريعة (۱) من ذرائع السلطان فهناك الحكم بسلطان الدنيا • وهناك الحكم بسلطان الآخرة • وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة وكل أولئك كان لمحمد الحق الأول فيه : كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه ، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه اكفا كفؤ وأوقر مهیب ولكنه لم يشأ الا أن يكون الرئيس الأكبر ، پسلطان الصديق الأكبر سلطان الحب والرضا والاختيار فكان أكثر رجل مشاورة للرجال ، و كان حب التابعين شرطا عنده من شروط الامامة في الحكم بل في العبادة ، فالامام المكروه له مدة وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه • فروي أنه كان في سفر ، وأمر أصحابه باصلاح شاة ، فقال رجل : يا رسول الله ! علي ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي طبخها فقال عليه السلام : وعلي جمع الحطب ، فقالوا : يا رسول الله تكفيك العمل ، قال : علمت أنكم تكفونني ، ولكن أكره أن . لا ترضي
< ا- وسيلة 1 1. [91]و "
فأحسب أتميز عليكم ، أن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه . وایی ، و المسلمون يعملون في حفر الخندق حول المدينة ، الا أن يعمل معهم بيديه ، ولولا أنها سنة حميدة يستنها للرؤساء في حمل التكاليف الأعفی نفسه من ذلك العمل و أعفاه المسلمون منه شاکرین - وجعل قضاء حوائج الناس أمانا من عذاب الله أو كما قال : « أن الله تعالی عبادا اختصهم بحوائج الناس ، يفزع اليهم الناس في حوائجهم . أولئك الآمنون من عذاب الله » وقد كان أعلم الناس أن الأعمال بالنيات ، ولكنه علم كذلك و ان الأمير أذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم » فوكل الضمائر الى اصحابها والى الله ، وحاسب الناس بما يجدي فيه الحساب سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج اليهم قائلا : إنما أنا بشر وانه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض أنه صدق ، فأقضي له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم فانما قطعة من النار فليأخذها أو فليتر کھا : واليوم يكثر اللاغطون (۱) بحرية الفكر ، و يحسبونها کشفا من كشوف الثورة الفرنسية وما بعدها ، ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا به ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كلامهم وعملهم ما يخالف الشريعة - فهذا الذي يحسبونه کشفا من كشوف العصر الأخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنا ، وشرعه لأمته في أحاديثه حيث قال عليه السلام : « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به » وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المسلحين المحدثين لم يسبقوا اليها وهي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط الى غيرها فقال : و أن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه ، أن رحمتي تغلب غضبي ، وقال : « أن الله تعالی رفیق ، يحب الرفق 8 هي
f هي و + اللقط : الصوت والجلبة ۹۱ [92] وروی
ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف و وقال : « أن الله تعالى لم يبعثني معنا ولا متعنتا ، ولكن بعثني معلما میسرا » عنه صاحبه من أصحابه انه ما خير بين حكمين الا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه خرق (۱) للدين وكان دومي بالضعفاء و يقول لصحبه : « أبغوني الضعفاء فانما ترزقون وتنصرون بضعفائكم ويتم الترفع (۲) على الخدم والفقراء « فما استكبر من أكل مع . خادمه ، وركب الحمار بالأسواق واعتقل (۳) الشاة فحلبها » . لكنه مع الرحمة بالصغير لا ينسى حق الكبير : « من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا .. . اذ ليس الانصاف حراما على الكبراء ، حلالا لمن صفر دون من كبر ، فلكل حق ولكل انصاف ، وانزال الناس منازلهم كما أمر قومه ، وهو خير شعار تستقيم عليه الحكومة وتنعكس أمور الأمم بانعكاسه
|
+ € و كان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرءو سین وليست للموافقين منهم دون المخالفين ، فيأمر قومه أن : « اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافرا فانها ليس دونها حجاب » واذا قال هذا رئیس و نبي ، فانها الأولى السنن أن يتبعها الرؤساء كافة ، لأنهم لم يبعثوا لنشر الدين ومحفو الكفر كما بعث الأنبياء لقد كانت سنة الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة ۰۰ فلو استغني حكم عن الشريعة ، لاستغني عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعية ا- أي مخالفة ؟ - التهالي ۳- اي فيدها حتي جلبها +
=====
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/الزوج
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ محمد الرئيس الزوج
المؤلف: عباس العقاد ← الأب
[93]
الزوج
حق المرأة الكلام عن زوج يستدعي الكلام عن مكانة امرأة عند رجل وعن مكانة النساء عامة عند الرجال عامة وانما تعرف مكانة المرأة التي وصلت اليها بفضل محمد ودينه ، متى عرفت مكانة المرأة التي استقرت عليها في الجاهلية ومكانة المرأة التي استقرت عليها في عصره وبين أمم أخرى غير الأمة العربية وقياسان اثنان كافيان لبيان الفارق البعيد بين ما كانت عليه المرأة في الجاهلية ، وما صارت اليه بعد رسالة محمد : كانت متاعا يورث ، ويقسم تقسيم السوائم (۱) بين الوارثين فأصبحت بفضل الاسلام ونبيه صاحبة حق مشروع ، ترث وتورث ولا يمنعها الزواج أن تتصرف بمالها و هي في عصمته كما تشاء - وكانت وصمة (۲) تدفن في مهدها فرارا من عار وجودها أو عبئا تدفن في مهدها فرارا من نفقة طعامها ، فأصبحت انسانا مرعي (۳) الحياة ، ينال العقاب من ينالها بمكروه . ولم تكن في البلاد الأخرى بأسعد حظا منها في البلاد العربية • فلا نذر کر شرائع الرومان واستعبادها النساء ، ولا نذكر المتنطسين (ع) في صدر المسيحية وتسجيلهم عليها النجاسة وتجريدهم اياها من الروح وكفي أن نذكر عمر الفروسية الذي قيل فيه انه عمر المرأة الذهبي بين الأمم الأوربية ، وان الفرسان كانوا يفدون النساء بالدم والمال فهذا العصر كان كما قال الدارسون الحصان قبل أن يكون عمر المرأة أو عمر « السيدة المفداة t c . عمر ا- المواشي ؟ - أي عار ۲- يلقي الزعاية 4 - البالغين + ۱۳ [94]وقد اجمله جون لانجدون دانيز صاحب « التاريخ الموجز للنساء ، فقال : « آن عصر الفروسية كان معروفا بما لحظ فيه من فقدان الشبان على الجملة الاهتمام بالجنس الآخر ، ولعلنا نقل من الدهشة لذلك لو أننا وعينا كلمة الفروسية وذكرنا أنها لم تكن ذات شأن بالسيدات كما كانت ذات شأن بالخيل على خلاف پروق الكثيرين أن يذكروه ، فقلما بلغ الاهتمام بالمرأة مبلغ الاهتمام بالحصان في عصر الفروسية الا على اعتبار أنها عنوان ضيعة » Auseis .. الى القارىء محادثة من كتاب أغاني الآداب والتحيات chanson de deste يروي فيها : أن ابنة أوسيس جلست في نافذتها ذات يوم فعبر بها فتيان - هما جاران وجر برت - وقال أحدهما : « انظر . انظر با جر بيرت : وحق العذراء ما أجملها من فتاة ! دون أن يلتفت بوجهه وعاد صاحبه يقول مرة أخرى : « ما أحسبني رأيت قط فتاة بهذه الملاحة ، ما أجمل هاتين العينين السوداوين !» وانطلقا وجر برت يقول: «ما أحسب أن جوادا قط يماثل هذا الجواد » وهي حادثة صغيرة ولكنها واضحة الدلالة ، إذ قلة الاهتمام تورث الازدراء (۱) والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الازدراء : واليك مثلا حادثة في الكتاب المتقدم يروي فيها : ان الملكة بلا نشفلور ذهبت الى قرينها الملك بيبن Pepin تسأله معونة أهل اللورين ، فأصغي اليها الملك ثم استشاط (۲) غضبا، ولطمها على أنفها بجمع يده فسقطت منه أربع قطرات من الدم، وصاحت تقول : « شكرا لك . أن أرضاك هذا فاعطني من يدك لطية أخرى حين تشاء ، . ولم تكن هذه حادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيرا ما تتكرر كأنها صيغة محفوظة وكأنما كانت اللطمة بقبضة
*
ام الاحتقار - اي احترق [95]اليد جزاء كل امرأة جسرت (۱) في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة ومتی كانت المرأة تزف الى زوجها عند الساعة وكثيرا با تزف إلى رجل لم تره قبل ذاك ، اما لتسهيل المحالفات الحربية والمدد العسكري ، أو لتسهيل صفقة من صفقات الضياع •ومتی كانت بعد زفافها الى فارس مجنون بالحرب معطل الذكاء قد يكون في معظم الأحوال من الأميين - عرضة للضرب كلما واجهته بمخالفة - أترى سيدة القصر أذن واجدة لها رحمة أو ملاذا من حياة الشقاء ، أو من صحبة قرين ليس لها بأهل ؟، ۰ $
$ 6 a ولقد تقدم الزمن في الغرب من المصور المظلمة الي عصور الفروسية إلى ما بعدها من طلائع العصر الحديث ولا تبرح المرأة في منزلة مسفة (۲) لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية .. ففي سنة ۱۷۹۰، بیعت امرأة في اسواق انجلترا بشلنين ، لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها • و بقيت المرأة إلى سنة ۱۸۸۲ ، محرومة حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة وكان تعلم المرأة سية (۳) تشمئز منها النساء قبل الرجال ، فلما كانت اليصابات بلاكويل تتعلم في جامعة جنيف سنة ۱۸۶۹ - وهي أول طبيبة في العالم - كان النسوة المقيمات معها يقاطعنها ويا بين أن يكلمنها ، ويزوین (۶) ذيولهن من طريقها احتقارا لها ، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها ولما اجتهد بعضهم في اقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة فلادلفيا الامريكية ، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة انها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء وهكذا تقدم الغرب الى أوائل عصرنا الحديث ، ولم تتقدم المرأة فيه تقدما يرفعها من مراغة (5) الاستعباد التي استقرت فيها من قبل الجاهلية العربية اي تجرات ۳- اي وضيعة محقرة ۳ - عار 4 - يجمعن ويقبض ه- مراغة الابل : المكان الذي تتمرغ فيه 6 د & و t = ه 10 [96]
€ فماذا محمد ؟ وماذا منعت رسالة محمد ؟ حكم واحد من أحكام القرآن الكريم أعطى المرأة من الحقوق كفاء(۱) ما فرض عليها : «ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف (۲)» وحكم آخر من أحكامه العالية أمر المسلم باحسان معاشرتها ولو مكروهة غير ذات حظوة (۳) عند زوجها : « وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا (4) ». وأباح لها الدين في الجهاد أن تكسب كما يكسب الرجال : « للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (5) ولم يفضل الرجل عليها الا بما كلفه من واجب كفالتها واقامة اودها والسهر عليها . أما محمد فقد جعل خيار المسلمين خيارهم لنسائهم . أكمل المؤمنين ايمانا أحسنهم خلقاء وخياركم خياركم لنسائهم وأمر بمداراة ضعفها و نقصها لأن « المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة ، فان استمتعت بها استمتعت بها و بها عوج ، وان ذهبت تقيمها كسرتها ، وكسرها طلاقها ، وأوجب على الرجل أن يتجمل لامرأته ، ويبدو لها في المنظر الذي يروقها (1) ، فقال عليه السلام مما قال في هذا المعنى وهو كثير : « اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم واستاكوا وتزينوا وتنظفوا ، فان بني اسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤه وأوجب على الرجل اذا خطب امراة أن يظهرها على عيبه ان كان به عيب مستور : « اذا خطب أحدكم المرأة و هو يخضب (۷) بالسواد فليعلمها انه يخضب » وبلغ من رعاية شعورها ومداراة خجلها الذي فطرت عليه أنه أوجب الرجل أن يمتعها كما تمتعه، لأنها لا تطلب لنفسها ما يطلبه الرجل منها: «فاذا جامع أعد كم أهله فليصدقها، ثم إذا قضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا يعجلها (۸) حتى تقضي حاجتهاء 6 9 6 .هم ! ا- اي جراء ؟- منزلة - الآية : ۲۲۸ من سورة البقرة - الآية 19 من سورة النساء و الاية 31 من سورة النساء - يعميها ويسرها ۷ - اختضب بالحناه ولعوه كالصيغة 4 - معالجة 11 [97]. وكان تأديبه المسلمين في هذه الصلة غاية في الكياسة والترفق، فقال مما قال في هذا المعنى : «اذا دخلت ليلا فلا تدخل على أهلك حتى تستحد المغيبة، وتمشط الشعثة (۱) •• الكيس، الكيس (۲)!» معاملته لزوجاته وانما نلخص ما أوجبه النبي على المسلمين عامة في معاملاتهم الزوجاتهم ، وهو دون ما أوجبه على نفسه في معاملة زوجاته بكثير فكان يشفق أن بينه غير باسم في وجوههن ، ويزورهن جميعا في الصباح والمساء ، واذا خلا بهن « كان ألين الناس ضحاکا بساما» كما قالت عائشة رضي الله عنها - ولم يجعل من هيبة النبوة سدا رادعا بينه و بين نسائه ، بل انساهن برفقه وايناسه (۳) أنهن يخاطبن رسول الله في بعض الأحايين • فكانت منهن من تقول له أمام أبيها : « تكلم ولا تقل الا حقا ۰۰۰» و من تراجعه أو تغاضبه سحابة نهارها ، و من تبلغ في الاجتراء (4) عليه ما يسمع به رجل كعمر بن الخطاب في شدته فيعجب لهم ، و يهم بأن يبطش بابنته حفصية لأنها تجتري كما يجترياء الزوجات الأخريات ، وإذا رأى النبي غضبا كهذا من جرأة كتلف كف من غضب الأب وقال له : ما لهذا دعون ناك ! وقد كان يتولى خدمة البيت معهن ، أو كما قال : « خدمتك زوجتك صدقة » و كان يستغفر الله فيما لا يملك من التسمية بين احداهن وسائرهن و هو میل قلبه : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك » ولما أقعده مرض الوفاة أن يزورهن كل يوم عودهن بعث اليهن فتلطف في سؤالهن : « أين أنا غدا ؟ أين أنا غدا ؟ » ۰۰۰. ليقلن عند عائشة و يأذن له في الاقامة ببيتها ، ولو انه أحل لنشه أن يقيم حيث أقام وهو مريض لما كان في ذلك من حرج والمعاملة الطيبة في الزمن الطويل خلق نادر بين الناس ، و لكنه في حالة الرضي خلق لا يشق فهمه على كثيرين ته كما >> 9 ا- الاثمعته ; المغير الراس او الجليد الشعر - حيت على الجماع ، اوم عله حال الحيض ۲- مؤامسة - التجرؤ ۹۷ [98]الا أن الخلق الذي يشق فهمه على الأكثرين هو طيب المعاملة عندما تتعرض الحياة الزوجية لأخطر ما يمسها من خطر وهو المساس بالوفاء ، في هذه الخصلة تتسامى الحضارة الحديثة ما تتسامی فلا نخالها تحلم بمعاملة أطيب ولا أكرم من المعاملة التي أثرت عن النبي في قصة عائشة بنت الصديق وهي أحظى (۱) نسائه لديه، و نلخصها مما روته بلسانها اذ تقول رضي الله عنها: كان رسول الله اذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه ، فأيها خرج سهمها خرج بها رسول الله معه ، وأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، ثم قفلنا(۲) من الغزوة الى أن دنونا من المدينة، فقمت حين آذنوا بالرحيل فتمشيت حتى جاوزت الجيش وقفيت من شاني، و أقبلت الى الرحل فلمست صدري فاذا عقدي قد انقطع، فرجعت ألتمسه (۳) نجسني ابتغاؤه ، وأقبل الي الرهط الذين كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي وهم يحسبون اني فيه، وكانت النساء اذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم، انما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه اذ كنت ذالك جارية حديثة السن « ووجدت عقدي فجئت منازل الجيش وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت (4) منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون الي « فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، و كان صفوان ابن المعطل السلمي قد عرس (5) من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد انسان نائم، فعرفني حين رآني واسترجع، فاستيقظت وخصرت (1) وجهي بجلبابي ، ووالله ما يكلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه (۷) حتى أناخ راحلته وركبتها وانطلق يقودها حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا في نحر الظهيرة • « فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبيه عبد الله ابن ابي بن سلول . . ما و امه اعظمهن مكانة 2. اي رجعنا - اطلبه وابحث عنه - قصيدت و - غزل في اخر الليل الاستراحة 4 - غطيت ۲. قوله : أنا لله وانا راجعون WA [99]واشتكيت حين قدمنا المدينة شهرا والناس يفيضون في قول أهل الإفك (۱) ولا أشعر بشيء من ذلك و پر يبني(۲) في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي انما يدخل رسول الله فيسلم ثم يقول : كيف تيكم (۳) فذالك ير يبني ، و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نتهت (4) و خرجت معي أم مسطع قبل المناصع ثم عدنا فعثرت أم مسطح في مرطها (5) ، فقالت : تعس مسطح ! » قلت : بئس ما قلت ! أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ , قالت : أي هنتاه ! أو لم تسمعي ما قال ؟ و قلت : وماذا قال ؟ و فأخبرتني بقول أهل الاقك ، فازددت مرضا الى مرضي ، فلما رجعت الى بيتي ، فدخل علي رسول الله ، فسلم ثم قال : كيف تیکم ؟ استأذنت أن آتي أبوي : أريد أن أتيتن الخبر من قبلهما، . 4
قه فأذن لي و و قالت أمي : يا بنية هوني عليك ، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة (6) عند رجل يحبها ولها ضمانر الا كثرن عليها . و قلت : سبحان الله ! و قد تحدث الناس بهذا ؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ (۷) لي دمع ، ولا اكتحل بنوم .و دعا رسول الله علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد يستشيرهما في فراق أمله ، فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله بالذي يعلم من براءة أهله ، و بالذي يحلم في نفسه لهم من الود . و قال لرسول الله أهلك ولا نعلم الا خيرا « و أما علي بن أبي طالب فقال: لم يضيق الله عليك ، و النساء سواها كثير ، وأن تسأل الجارية تصدقك « فدعا رسول الله بريرة يسألها : هل رايت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ان رأيت عليها أمرا قد .
هم go - الكدب - يشككني ۳- اي كبشه احوالكم 4 - مححت م مرمي :- کساء مر صوت او حزر يؤترر به ۹ حسية جميلة و يسكن • ۱۹ [100]a و بكيت يومي
و تو بي
أغممه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها ، فتاتي الداجن فتأكله ذلك لا قالي دمع ولا اكتحل بنوم ثم بكيت ليلتي المقبلة لا يرقأ لي دمع ولا اكتحل بنوم ، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله فسلم ثم جلس و تشهد
ثم قال : أما بعد ، يا عائشة ، فاني قد بلغني عنك كذا وكذا فأن كنت بريئة فسيبر ئك الله ، وان كنت ألمت (۱) بذنب فاستغفري الله اليه فان العبد اذا اعترف بذنب ثم تاب ، تاب الله عليه « فلما قضى رسول الله مقالته قلم (۲) دمعي حتى ما أحس منه قطرة . فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ! فقال : والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله « فقلت لأمي : أجيبي عني . فقالت كذلك . والله ما أدري ماذا أقول لرسول الله « قلت - وانا جارية حديثة السن لا أقرا كثيرا من القرآن - اني والله لقد عرفت انكم سمعتم بهذا ، حتى استقر في نفوسكم وصدقتم به : فان قلت لكم : اني بريئة ، والله يعلم اني بريئة ، لا تصدقوني ، ولئن اعترفت لكم بأمر ، والله يعلم اني بريئة التصدقونني ، واني والله ما أجد لي ولكم مثلا الا كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون « ثم تحولت فاضطجعت على فراشي فوالله ما رام (۳) رسول الله مجلسه ولا خرج من أمل البيت أحد و حتی أنزل الله عز وجل على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (4) الوحي ، حتى أنه ليتحدر (۰) منه مثل الجمان في اليوم الشاتي فلما سرى عن رسول الله وهو يضحك كان أول كلمة تكلم بها أن قال :« أبشري يا عائشة !.. اما الله نقد بر أك « قالت لي أمي : قومي اليه 4
. ق 4 عنتر >> . - الموت - ارتفع والزوی ۳. ما برح . الجهد و بتنزل عرفه ۰ [101](9 >> تلك هي t 4 « قلت : والله لا أقوم اليه ، ولا احمد الا الله ، هو الذي أنزل براءتي .. و كان أبو بكر ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره ، فأقسم لا ينفق عليه شيئا أبدا ، فأنزل الله عز وجل : « ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربی إلى قوله : ألا تحبون أن يغفر الله لكم (۱) ؟ » « فقال أبو بكر : والله إني لأحب أن يغفر الله لي ، ورجع الي مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه » • القصة التي عرفت بقصة الإفك كما روتها لنا السيدة عائشة رضي الله عنها ، وهي مسبار (۲) صادق يسبر لنا أغوار المروءة والرفق في معاملة النبي لزو چاته حيث لا رفق ولا مروءة عند الأكثر ین ، فليس النبي هنا في حالة من حالات الرضى التي تسلس (۳) الطباع ولا تستغرب معها المودة وطول الأناة (4) ، ولكنه في حالة من تلك الحالات التي تثير الحمية وتثير الحب ، وتثير النقمة ، وتثير في النفس البشرية كل ساكنة تدعو إلى طبيب المعاملة ، فلم يكن في هذه الحالة الا كرما خالصا بما سلك في أمر نفسه وفي أمر أهله وفي أمر دينه ، ولم يدع لحالم من حالمي الحضارة الحديثة مرتقي يتطلع اليه في جميع هذه الغابات - سمع النبي حديثا يلاك بين المنافقين و يسري الى المسلمين بل الى خاصة ذويه الأقربين : حديثا يسمعه رجل كعلي بن ابي طالب في پره و کرم ندیز ته (2) فلا يري بعده حرجا من الطلاق والنساء كتيرات سمع النبي ذلك الحديث المريب فلم يقبله بغير بينة ولم پر فضه بغير بينة ، و كان عليه أن يعود زوجه المريضة أو يجفوها فعادها و به من الرفق والانصاف ما یابی عليه أن بفاتحها في مرضها بما يخامر (6) نفسه الكريمة ، و به من الموجدة (۷) والترقب ما أبي عليه أن يقابلها بما كان يقابلها به و النشس صافية كل الصفاء ، وظل يسأل عنها سؤال متعتب ينتظر أن تشفي و أن تأتيه البينة فيشتد كل الشدة أو يرحم كل الرحمة ، ولا يعجله لفطر الناس أن يأخذ في هذا الموقف الأليم بما تو جبه الحمية وما توجبه المروءة في آن ا- الآية 52 من سورة النور 2- السبر : امتحان غور الجرح وعيره ۳۔ تلسین 4 - الحلم و طبیعه 1- يخالط ۷ - الحزن د 4 الى حين 4 ا.ا [102]4 أحمي سمعي 9 . < + و سأل من ينبغي أن يسأل : عليا واسامة وهما بمقام ولديه و بربرة الجارية التي تعرف عائشة و تخلص لسيدها كما تخلص السيد تها ، وضرة لعائشة تنافسها و تكاد أن تضارعها (۱) في حظوتها لديه : زینب بنت جحش التي كانت اسرع من يقول لو علمت شيئا يقال ، فاستعاذت بالله وقالت :« و بصري ، و الله ما علمت الا خيرا » واتصل الحديث بعائشة فاستأذنته في زيارة أهلها ، وأن له أن يفاتحها وقد وصل النبأ الى سمعها ، ولم يئن له قبل ذلك و هو کاظم ما في فؤاده قادر على كتمانه مخافة أن يؤذيها بغير حق و هي تشكو سقامها . فاتحها لتبريء نفسها أو تستغفر الله و غضبت غضب البريء المشكوك فيه ، وانها لبريئة في نظر كل منصف يفهم أن امرأة كعائشة لا تعرض نفسها لهذه الريبة أمام جيش ، و في وضح النهار ، ولغير ضرورة ، ومع رجل من المسلمين يتقي ما يتقيه المسلم في هذا المقام من غضب النبي و غضب المسلمين و غضب الله ، فتلك خلة تترفع عنها من هي أقل من عائشة منبتا ومنزلة وخلقا وأنفة ، فكيف بها في مكانها المعلوم • الا أن النبي أراد لها البراءة أمام الخلق عامة ، و أمام نفسه المحبة ، حذرا أن تكون تبرئته اياها عن محبة وضعف لا عن تبين واستيثاق (۲) ، فلما قضى كل حق وانتهى به الاستيثاق إلى الثقة ، كان قد وفي الكرم والحمية والانصاف والرحمة أجمعين نعم وفي الرحمة حتى باللاغطين المتعجلين الذين أبدأوا وأعادوا في ذلك الحديث المريب ، وما أحد أرحم ممن يرحم المفترون على سمعة أهله وهناءة بيته وامان سر به ، ولا يعذر الناس أحدا كما يعذرون نبيا مطاعا ينال في عرضه فینال بالعقاب العدل من استحقوه • . سماحة الكريم ولقد علمنا من رواية السيدة عائشة كما علمنا من روايات شتى أن عبد بن أبي سلول كان أكبر اللاغملين بحديث الافك ا- اي تصاويها 1- توثق [103]& . عبد عن سوء نية و كيد مبيت للنبي ودينه ، و كان هذا الرجل كما تقدم في بعض فصول هذا الكتاب بغيضا الى المسلمين ، متهما عندهم ، يتوجسون (۱) منه و يسمونه راس المنافقين ولا يكفون عن طلب دمه واستئذان النبي في قتله ، فما ضر النبي لو خلی بين المسلمين وبينه يحاسبونه على فريته (۲) ويحاسبونه على کیده ، وينقمون لعرض النبي منه ليأمنوا شره ، ويجملوه عبرة الغيره ؟ واذا قيل : أن عبد الله بن أبي كان من أصحاب العصبية التي يحسب حسابها وتتقي بوادرها (۳) ، فلماذا يقال في مسطح وهو مكفول أبي بكر وصنيعته الذي يأكل من ماله ؟ ما الذي أنجاه من السخط والعقاب وكفل له دوام البر والمعونة لولا سماحة النبي وسماحة أبي بكر وسماحة القرآن على أن العصبية التي كان . بن أبي يلوة (4) بها لم تكن لتحميه عقاب النبي لو اراده بعقاب ولو كان أصرم (2) عقاب .. فما من عصبية هي الرجل و أولى بالذود عنه من ولده المشهور ببره وقد اسلفنا ان ولد عبد الله قد تطوع لقتله قيل له أن النبي يهدر (1) دمه ويقضي بموته • أنما انما السماحة التي شملت مسطحا كما شملت كبير المنافقين ، وخرجت من حديث الافك كله بالعفو عن جميع المسيئين ، مخلصين في الرأي و غير مخلصين ، وهي التي سبرت غورا في قصة هذا الحديث فتكشفت عن أطيب معاملة للزوجات في أحرج الحالات، وتلك المعاملة الطيبة في مثلها الأعلى ، معاملة لا تتبدل بعد أيام وشهور ، بل تطول مدى السنين ، و تطول مدى السنين مع نساء مختلفات لا مع امرأة واحدة ، وتطول في الحالات ومنها حالة الألم البالغ ولا تنحصر في حالة الرضی والطمأنينة ، وأقل من ذلك أمنية يتمناها الحالمون بالوئام بين الأزواج في العصر الذي وصفوه بعصر المرأة ، لفرط ما أطلب (۷) فيه المطنبون من اكبار شأنها والدعوة الى انصافها . أقرب الى رحم سماحة الكريم هي هي هي ا- يضمرون الخوف ؟ - التراثه وكتبه ۳ - خطاها وسقطاتها علنها تحتد 4 - ای يحتمي و- اي أشد - يييع ۷ - المثب الرجل : أتى بالبلاغة في الوصف من مسة كان أو ذميا . [104]هنا يعرض النا الغضبا، 4 6 5 تعدد الزوجات الكلام عن تعدد زوجات النبي وهو الهدف الثاني الذي يرميه المشهرون بالاسلام فيكثرون من رميه كلما تكلموا عن أخلاق محمد عليه السلام وذكروا منها ما يزعمونه منافيا الشمائل النبوة ، مخالفا لما ينبغي أن يتصف به هدأة الأرواح السيف والمرأة ! كأنهم يريدون أن يجمعوا على النبي بين الاستسلام والاستسلام للهوى ، و كلاهما بعيد من صفات الأنبياء . أما السيف فقد أسلفنا الكلام فيه أما المرأة فالظنة (۱) فيها أضعف من الظنة في السيف على ما تراه ، لأن الاستسلام للشهوة آخر شيء يخطر على بال الرجل المحقق د مسلما كان أو غير مسلم - حين يبحث في تعدد زوجات النبي ، و فيما يدل عليه ذلك التعدد ، وفيما اقتضاه قال لنا بعض المستشرقين : أن تسع زوجات لدليل على فرمل الميول الجنسية قلنا : انك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر الجنسية قط، فلا ينبغي أن تصف محمدا بأنه مفرط الجنسية Oersexed لأنه جمع بين تسع نساء و نحن قبل كل شيء لا نرى ضيرا (۲) على الرجل العظيم أن يحب المرأة ويشعر بمتعتها ، هذا سواء الفطرة (۳) لا عيب فيه، وما من فطرة أعمق في طبائع الأحياء عامة من فطرة الجنسين والتقاء الذكر والأنثى ، فهي الغريزة التي تلهم الحي في كل طبقة من طبقات الحياة ما لا تلهمه غريزة أخرى : أرأيت الى السمك وهو يعبر الماء الملح في موسمه المعلوم فيطوي الوفا من الفرا سخ ليصل الى فرجة نهر عذب يجدد فيها نسله ثم يعود أدراجه (4) ؟ أرأيت إلى العصفور وهو يبني عشه و يعود من هجرته إلى وطنه ؟ ار ایت الى الزهر وهو يتفتح ليغري الطير و النحل بنقل لقاحه ؟ Undersexed لأنه لم يتزوج ، 8 هي ا- التهمة - اي فررا ۲ - الحلقة 4 - من حيت اني • [105]6 4 أرأيت الى سنة الحياة في كل طبقة من طبقات الأحياء ؟ ما سنتها ان لم تكن هي سنة الألفة بين الجنسين ؟ و این یکون سواء الفطرة إن لم يكن على هذا السواء ؟ فحب المرأة لا معاية فيه ۰۰ هذا هو سواء الفطرة لا مرام • وانما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن سوانه (۱) وحتى يشغل المرء عن غرضه ، وحتي يكلفه شططا (۲) في طلابه، فهو عند ذلك مسخ للفطرة المستقيمة ، يعاب كما يعاب الجور في الطباع. فمن الذي يعلم ما صنع النبي في حياته ، ثم يقع في روعة (۳) أن المرأة شفتله عن عمل كبير أو عن عمل صغير ؟ من من بناة التاريخ قد بني في حياته وبعد مماته تاريخا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية والدول الاسلامية ؟ ومن ذا الذي يقول ان هذا عمل رجل مشغول ؟ شغلته المرأة ؟ ومن ذا تفرغ لعظيم من المسعى فبلغ فيه شاو (۶) محمد في مسعاه ؟ فان كانت عظمة الرجل قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقهاء ويعطي المرأة حقها ، فالعظمة رجحان وليست بنقص ، وهذا الاستيفاء السليم كمال وليس بعيب ، ورسالة محمد اذن هي الرسالة التي يتلقاها أناس خلقوا للحياة ولم يخلقوا ناپذین (2) لها ولا منبوذين منها ، فليست شريهة هؤلاء بالشريعة المطلوبة فيما يخاطب به عامة الناس في عامة العصور واعجب شيء أن يقال عن النبي أنه استسلم للذات الحس وقد أوشك أن يطلق نساءه ، أو يخيرهن في الطلاق لأنهن طلبن اليه المزيد من النفقة وهو لا يستطيعها - فقد شكون على فخر هن بالانتماء اليه س. انهن لا يجدن نصيبهن من النفقة والزينة ، واجتمعت كلمتهن على الشكوى واشتددن فيها حتى وجم (6) النبي و هم بتسريحن (۷) ، أو تخييرهن بين الصبر على معيشتهن والتسريح . 4 ا- اي حد العمل والاعتدال - اي بعدا ۲. قلبه وعقله 4 - غاية 5- النبذ : طرح الشيء 6 - الواجم : الذي اشتد حزنه حتى امسك عن الكلام ۷ - بتطليقهن . [106]6 < > وذهب اليه ابو بکر پوما « يستأذن عليه فوجد الناس جلوسا لا يؤذن لأحد منهم . ثم دخل أبو بكر وعمر من بعده فوجدا النبي جالسا وحوله نساؤه واجما ساکتا ، فأراد أبو بكر أن يقول شيئا يسري عنه ، فقال : يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة ! سألتني النفقة فقمت اليها فوجأت (۱) عنقها » فضحك رسول الله وقال : من حولي كما ترى يسألنني النفقة !.. فقام أبو بكر الى عائشة يجأ عنقها ، وقام عمر إلى حفصة يجأ عنقها ويقولان : تسألن رسول الله ما ليس عنده » • فقلن : لا والله لا نسأل رسول الله شيئا أبدا ليس عنده » . ثم اعتزلهن الرسول شهرا أو تسعة و عشرين يوما ، فنزلت بعدها الآية التي فيها التخيير وهي يا أيها النبي قل لأزواجك أن کنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسردکن سراحا جميلا ، وان كنتن تر دن الله ورسوله والدار الآخرة فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما (۲) فبدا الرسول بعائشة فقال لها : « یا عائشة ! اني أريد أن اعرض عليك أمرا أحب ألا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك » قالت : « وما هو يا رسول الله ؟ » فت عليها الآية قالت : « أفيك يا رسول الله أستشير أبوي ؟.. بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة » ثم خير نساءه كلهن فأجبن كما أجابت عائشة ، وتنعن بما هن فيه من معيشة كان كثير من زوجات المسلمين يظفرن بما هو أنعم منها علام يدل هذا ؟ نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة ، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه ؟ اما كان يسيرا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال (۳) والغنائم ما يرضيهن ولا يغضب المسلمين ، وهم موقنون أن ارادة الرسول من ارادة الله ۰۰۹ أ. اي ضربت ۲ - الآيتان ۲۸، 8 من سورة الأحزاب ام العالم ، [107]6 وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء حتى يقال أنه كان يفر له في میله الى النساء ؟ هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سنته، أو يخالف ما يحمد من سيرته ، او يترخص فيما يرضاه أتباعه ولا ينكرونه عليه ؟ لم يكلفه شيئا من ذلك ، ولم يشغله عن جليل أعماله وصغيرها ولم نر هنا رجلا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون ، بل راینا رجلا يغلب تلك الملذات في طعامه ومعيشته وفي ميله إلى نسائه .. فيحفظها بما يملك منها ولا يأذن لها أن تسومه (۱) ضريبة مفروضة عليه ، ولو كانت هذه الضريبة بسطة (۲) في العيش قد ينالها اصغر المسلمين ، ولا شك في قدرة النبي عليها لو اراد رجل الجد والرصانة وهكذا نبحث عن الرجل الذي توهمه المشهرون من مؤرحي أوربا فلا نرى الا صورة من أعجب الصور التي تقع في وهم واهم نرى رجلا كان يستطيع أن يعيش كما يعيش الملوك ، ويقنع مع هذا بمعيشة الفقراء ، ثم يقال انه رجل غلبته لذات جسه ! ونرى رجلا تألیت (۳) عليه نساؤه، لأنه لا يعطيهن الزينة التي يتحلين بها لعينيه ثم يقال أنه رجل غلبته لذات حسه ! • ونرى رجلا اثر معيشة الكفاف (4 ) و القناعة على ارضاء نسائه بالتوسعة التي كانت في وسعه، ثم يقال انه رجل غلبته لذات حسه ؟ ذلك كلام لو شاء المشرون أن يرسلوه كلاما مضحكا مستغربا الأفلحوا فيما قالوه أحسن فلاح ، أو لعله أقبح فلاح ! ويزيد في غرابته أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه ولا بعد زواجه فتخبط (2) فيه الظنون ذلك الخبط الذريع (1) - محمد كان معروف الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية ، كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة كان معروفا من مياه الي كهولته ، فلم يعرف عنه أنه استسلم 6 ! ا- حل ؟ - اي سعة ۳ - ای تجمع عليه - القوت الضروري - اي تضرب - العریع و ۱۰۷ [108]9 من اللذات الحس في ريعان صباه ، ولم يسمع عنه انه لها كما يلهو الفتيان حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح .. بل عرف بالطهر والأمانة واشتهر بالجد والرصانة (۱) • وقام بالدعوة بعدها فلم يقل أحد من شانئيه ، والناعين عليه ، والمنقبين وراءه عن أهون الهنات (۲): تعالوا یا قوم قانظروا هذا الفتى الذي كان من شأنه النساء كيت وكيت يدعوكم اليوم الى الطهارة والعفة ونبذ الشهوات .. كلا.. لم يقل أحد هذا فقط شانتيه وهم عديد لا يخفي ، ، ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان الف قائل ولما بنى بأولى زوجاته - خديجة - لم تكن لذات الحس في التي سيطرت على هذا الزواج، لأنه بنى بها وهي في نحو الأربعين وهو في نحو الخامسة والعشرين، و نيف (۳) على الخمسين ، و أوتي الفتح المبين ، وليس له من زوجة غيرها ولا من رغبة في الزواج بأخرى ، ولم يكن وفاؤه لها بقية حياته وفاء المرء للذات حس ، او ذکری متاع جمیل ، لأنه فضلها على عائشة في صباها وهي احب نسائه اليه ، و كانت عائشة تغار منها في قبرها ، فلم يكتمها قط أنه يفضلها عليها قالت له مرة : هل كانت الا عجوزا بدلك الله خيرا منها ، فقال لها منضبا : « لا والله ما ابدلني الله خيرا منها - آمنت اذ كفر الناس ، وصدقتني اذ كذبني الناس ، وواستني بمالها آذ حرمني الناس ، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء . فلهذا أحب خديجة، ووفي لها، وفضلها ولم يمح ذكراها من نفسه قط من أعقبتها من الزوجات الفتيات : وفاء قلب، وليست الذات حس ، ولا ذكری متاع جميل 4 أسباب تعدد زوجاته ولو كانت لذات الحس هي التي سيطرت على زواج النبي بعد وفاة خديجة، لكان الأحجی (4) بارضاء هذه الملذات أن يجمع النبي اليه تسعا من الفتيات الأبكار اللائي اشتهرن بفتنة الجمال في مكة والمدينة والجزيرة العربية ، فيسرعن اليه راضيات ا- الرصين : الممكم القابت ۲ - اي الرست ۲ - زاد - الامر ۱۰۸ [109]& فخررات ، وأولياء أمورهن أرضي منهن وأفخر بهذه المصاهرة التي لا تعلوها مصاهرة ، لكنه لم يتزوج بكرا قط غير عائشة رضي الله عنها، ولم يكن زواجه بها مقصودا في بداية الأمر حتى رغبته فيه خولة بنت حکیم التي عرضت عليه الزواج بعد وفاة خديجة : قالت عائشة رضي الله عنها : «لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حکیم امرأة عثمان بن مظعون للنبي : « أي رسول الله !.. ألا تتزوج ؟ » قال : و من ؟ » قالت : « أن شئت بكرا وان شئت ثيبا ؟» قال : « فمن البكر ؟ » • قالت : « بنت أحب الناس اليك عائشة بنت أبي بكر قال : « فمن الثيب ؟ » قالت : « سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك » ثم كانت أولى النساء اللاتي بني بهن بعد وفاة خديجة ، و كان زوجها الأول - ابن عمها - قد توفي بعد رجوعه من الهجرة الى الحبشة ، وكانت هي من أسبق النساء الى الاسلام فأمنته و هجرت أهلها ونجا بها زوجها الى الحبشة فرارا من اعنات (۱) المشركين له ولها ، فلما مات لم يبق لها الا أن تعود الى أهلها فتصبا (۲) وتؤذي، أو تتزوج بغير كفؤ ، أو بكفؤ لا يريدها فضمها النبي اليه حماية لها ، وتأليفا لأعدائه من آلها . و كان غير هذا الزواج أولى به لو نظر الى الذات حس ، ومال الى متاع و كانت للنبي زوجة أخرى و سمت بالوضاءة (۳) والفتاء (4) وهبي زينب بنت جحش ابنة عمته عليه السلام، التي زوجها زيدا ابن حارثة بأمره و على غير رضي منها ، لأنها أنفت س وهي في الحسب والقرابة من رسول الله - أن يتزوجها غلام عتيق هذه أيضا لم يكن «للذات الحس» المزعومة سلطان في بناء النبي بها بعد تطل ق زيد اياها ، وتعذر التوفيق بينهما ، ولو كان ودة هي ما ا- أي اضطهاد وظلم ۴- ترجع عن الإسلام إلى عبادة الأصنام ۳- الحسن واجمال - الشباب [110]
للذات الحس سلطان في هذا الزواج لكان أيسر شيء على النبي أن يتزوجها ابتداء، ولا يروضها(۱) على قبول زيد، وهي تأباه (۲) فقد كانت ابنة عمته يراها من طفولتها ، ولا يفاجئه من حسنها شيء كان يجهله عرض عليها زيدا وشدد عليها في قبوله فلما تجافی (۳) الزوجان ، و تكررت شكوى زيد من اعراضها عنه وترفعها عليه، واغلاظها القول له كان زواج النبي بها . حلا المشكلة ، پيتية بين ربيب في منزلة الابن ، وابنة عمة أطاعته في زواج لم يقرن بالتوفيق أما سائر زوجاته عليه السلام، فما من واحدة منهن - رضي عنهن - الا كان لزواجه بها سبب من المصلحة العامة أو من المروءة والنخوة دون ما يهذر (4) به المرجفون من لذات الحس المزعومة . فأم سلمة : كانت كهلة مسنة خطبها ، كما قالت له معتذرة اليه ، لاعفائه من تکليف نفسه أن يتزوجها ، جبرا الخاطرها بعد موت زوجها عبد الله المخزومي من جرح أصابه في غزوة أحد " ولما برح بها الحزن لوفاته واساما رسول الله قائلا : سلي الله أن يؤجرك في مصيبتك ، وأن يخلفك خيرا » فقالت : « ومن يكون خيرا من أبي سلمة ؟» فأوجب على نفسه خطبتها لأنها تعلم أنه خير من أبي سلمة ، ولأنه يعلم أن أبا بکر و عمر خطباها فترفقت في الاعتذار ، وهما أعظم المسلمين قدرا بعد النبي عليه السلام وجويرية بنت الحارث سيد قومه . كانت احدى السبايا في غزوة بني المصطلق، فتزوجها النبي ليعتقها، و يحض المسلمين على عتق أسراهم وسباياهم تفريجا عنهم و تألفا لقلوبهم ، فأسلموا جميعا وحسن اسلامهم ، وخيرها أبوها بين العودة اليه والبقاء في حرم رسول الله فاختارت البقاء في حرم رسول الله وحفصة بنت عمر بن الخطاب: مات زوجها فعرضها ابوهاعلى ابي بكر فسكت ، و على عثمان فسكت وبث (۵) عمر أسفه للنبي فلم يكن للنبي عليه السلام أن يضن على وليه وصديقه 6 و د ا- أي يذللها - ترففیه ۳ - سب بينهما التجاني والكراهية - الهذر : الخيان واهذر في كلامه : اكثر و. ابنه سمره : اظهره له 1- الاسف : أشد الحزن ، وأسف عليه: غضب . [111]6 حفصية ه 6 بالمصاهرة التي شرف بها أبا بكر من قبله ، وقال : يتزوج من هو خير من أبي بكر وعثمان ورملة بنت أبي سفيان : تركت اباها لتسلم ، وتركت وطنها التهاجر مع زوجها الى الحبشة ، ثم تنصر زوجها وفارقها وهي غريبة هناك بغير عائل(۱)، فأرسل النبي إلى النجاشي في طلبها لينقذها من ضياع الغربة، وضياع الأهل، وضياع القرين، فكانت النجدة الانسانية باعث هذا الزواج ولم يكن له باعث من المتعة والاستزادة من النساء ، وكان للنبي مقصد جلیل من وراء هذا الزواج الذي لم يفكر فيه حتى ألجأته النجدة الى التفكير فيه وهو أن يصل بينه وبين أبي سفيان بأصرة (۲) النسب ، عسی أن يهديه ذلك الى الدين ، بما يعطف من قلبه ، و يرضي من كبريائه • وكان اعزاز من ذلوا بعد عزة : سنة النبي عليه السلام في معاملة جميع الناس ولا سيما النساء اللاتي تنكسر قلوبهن في الذل بعد فقد الحماة والاقرباء ، ولهذا خير صفية الاسرائيلية سيدة بني قريظة بين أن يلحقها بأهلها وأن يعتقها ويتزوج بها، فاختارت الزواج منه عليه السلام هو آية الآيات في رعاية الشعور الانساني انه عليه السلام انبه (۳) صفيه (4) بلالا ، لأنه مر بها و بابنة عمها على قتلى اليهود . فقال له مغضبا : « أنزعت الرحمة من قلبك حين تمر بالمرأتين على قتلاهما ؟، واحتقرتها زينب فلقبتها يوما باليهودية، فهجرها شهرا لا يكلمها، ليأخذ بناصر هذه الغريبة ، ويدفع عنها الضيم (2) 6
تتكشف لنا مراجعة الحياة الزوجية لمحمد عليه السلام عن هذه الأسباب وشبيهاتها من دواعي اختياره لنسائه واستجماعه لهذا العدد من الزوجات في حين واحد ولا حرج - كما أسلفنا على رجل قويم الفطرة أن يلتمس المتعة في زواجه ، ولكن الذي حدث فعلا أن المتعة لم تكن قط مقدمة في الاعتبار عند نظر النبي في اختيار واحدة من زوجاته قبل الدعوة أو بعدها، وفي ابان (1) الشباب أو بعد تجاوز الكهولة . عاله : كفاه معاشه 2- رابطة - لام - مصطفاه - الذل - أي قت وحين • [112]بعد پرچوه حلب من أصدقائه وأعدائه وأخر صورة يتصورها المنصف هنا : هي صورة رجل فرغ اللذاته، وجلس ينتقي واحدة واحدة من الحسان علی. عندها من متاع ، فانما كان الاختيار كله على حسب حاجتهن الى الايواء الشريف أو على . المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه و بين سادات العرب و اساسلين الجزيرة ، ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة بين جميع زوجاته ، حتي التي بني بها فتاة بكرا موسومة (۱) بالجمال وهي السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه الا أن المشهرين المتقولين نسوا كل حقيقة من حقائق هذه الحياة الزوجية التي سجلت لنا بأدق تفصیلاتها ، ولم يذكروا الا شيئا واحدا حرفوه عن معناه ودلالته، ليفتروا على النبي ما طاب لهم أن يفتروه ، وذاك انه جمع في وقت واحد بين تسع زوجات • نسوا أنه اتسم (۲) بالطهر والعفة في شبابه، فلم يستبع قط لنفسه ما كان شباب الجاهلية يستبيحونه لأنفسهم من اللهو المطروق لكل طارق ، في غير مشقة عندهم ولا معابة ونسوا أنه بقي إلى نحو الخامسة والعشرين لم يتعسف في مطلب الزواج الحلال وهو ميسر له تیسره لكل فتی وسیم حسيب منظور اليه بين الأسر و بين الفتيات ونسوا أنه لما تزوج في تلك السن كان زواجه بسيدة في الأربعين اكتفى بها الى أن توقيت و هو يجاوز الخمسين ونسوا أنه اختار احسا با في حاجة إلى التالف أو الرعاية ، ولم يختر جمالا مطلوبا للمتاع ونسوا أن الرجل الذي وصفوه بما وصفوا من تغليب لذات الحسد لم يكن يشبع في بعض أيامه من خبز الشعير ، ولم يجاوز حياة القناعة قط لارضاء نسائه وارضاء نفسه ، ولو شام لما كلفه ارضاء نفسه وارضاؤهن غير القليل بالقياس الى ما في يديه نسوا كل هذا وهو ثابت في التاريخ ثبوت عدد النساء اللاتي جمع بينهن عليه السلام . فلماذا نستوه ؟ . . . ا- المراد : متصفة ۲- اتسم بكذا : عرفه به + [113]& 6 نسوه لأنهم أرادوا أن يعيبوا، و أن يتقولوا، وأن ينحرفوا عن الحقيقة، وقد كانت رؤية الحقيقة أيسر لهم من الأعضاء عنها لو أنهم أرادوها ، وتعمدوا ذكرها، ولم يتعمدوا نسيانها • الوجهة الخلقية و نستطرد الي تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية، فلا نطيل فيه ، لأننا نقصر هذا الكتاب على عبقرية محمد ، وما له اتصال بجوانب هذه العبقرية في تعدد مناحيها ، ولم نرد به أن نتناول حكمة الشريعة الاسلامية في تفصيلها ولا مسوغات (۱) الأصول الدينية على اختلافها فأوجز ما نقوله في تعدد الزوجات من الوجهة الخلقية أو الأدبية : أن النبي عليه السلام لم يجعله حسنة مطلوبة لذاتها أو مباحا يختاره من يختاره وله مندوحة (۲) عنه .. وانما جعله ضرورة يعترف بها الرجل ، وتعترف بها الأمة في بعض الأحوال لأنها خير من ضرورات ، ولن ينكر هذا الا متعنت يمدم (۳) الحقائق و يتجاهل المحسوس الماثل (4) للعيان ففي حياة محمد الخاصة لا ينكر أحد أن بناءه بنسائه قد كان خيرا من الاخلاء بينهن وبين التأيم (5) و المذلة والرجعة إلى الكفر والضلالة ، وكان خيرا من قطع تلك الآصرة (۹) التي وصلت بينه و بين البيوت والعشائر فكان لها ما كان من فضل في نفع الدين والمتدينين به ، وهي ضرورة يلجأ إلى الاعتراف بها كل مسئول عن شئون أمة ، بل أمم تمارس الحياة الدنيا ، و كل امام عليم بطبائع الناس أما الضرورة الاجتماعية العامة فقد اعترفت بها الشرائع المدنية الحديثة جميعا، ثم تحللت منها باباحة الزنى ، وعلاج مشكلة الزواج بحل خارج عن نطاق الزواج ، أو خارج عن نطاق البيت والأسرة، ولو اهتدت هذه الشرائع المدنية الى حل خير من هذا الجاز لها أن تنكر تعدد الزوجات ، وتنكر أنه ضرورة أكرم من ضرورات 6 6 ا- أي مجوزات - سعة ۳ - المراد : يردها ويصدها 4 - المراد : الظاهر المرئي - العيش بدون زوج 1 - الرابطة ، [114]بذرية صالحة هي 9 فلا شك أن الجمع بين المرأة العقيم (1) او المرأة المريضة و بين غيرها أكرم لها وللمجتمع من نبذها في معترك هذه الدنيا الضروس (۲) بغير ولد و بغير زوج و بغير عاصم ، ثم هو أكرم للزوج نفسه وهو كائن حي يريد أن يصل ما بينه و بين الحياة الغرض الأكبر من كل زواج ، ولولاها لانتقف في المجتمع الانساني أساس كل زواج ولا شك أن الجمع بين المرأة المزهود فيها و بين زوجة أخرى اكرم لها وأصلح من الجمع بينها وبين خليلة أو عدة خليلات ولا شك أن تسهيل الزواج وبخاصة في أوقات الحروب التي ينقص فيها الرجال أكرم للمجتمع الانساني واصلح من تسهيل العلاقات الأخرى التي لا تنفع النوع ولا تنفع الأخلاق ، ولا ترفع مكانة المرأة في عصمة رجل أو في متناول كثير من الرجال هذا شيء جائز بل هذا شيء أكثر من جائز ، لأنه واقع لا محيد (۳) عنه ولا حيلة فيه ، و غير ملوم من يواجهه بحل أكرم من حلول شتی بل اللوم عليه أن ينظر في شئون العالم ثم يغمض عينيه عن حقائقه التي تقدم كل عين + + + ومن السهل - على من أراد أن يسوس العالم في خياله بالفضائل التي تروقه (۶) وترضيه ! وليس من السهل عليه أن يخلق العالم الذي يسام له و يرضى بما ارتضاه ، وقد علم هذا كل رجل واجهته مشكلة واحدة من المشكلات التي واجهت محمد باديء الرأي على غير مثال سابق يحتذيه ، الا ما ألهمه الله ماذا صنع نابليون في عصرنا الحديث ؟ وانما نضرب المثل بنابليون لأنه حضر انقلابا في الأطوار والعادات يد 4 نشأة الدين في أيام الدعوة المحمدية، ونعني به الثورة الفرنسية، وحضر انحدارا (ه) في الأخلاق والآداب يشبه
ا- التي لا تلد ۴- المرسل : اشتداد الزمان ۲- اي و عدول عنه - اي تعجبه و- مجسسوطا و [115]الانحدار الذي أصيب به العرب في أواخر عهد الجاهلية، واسس دولة، و نظر في سن قانون، وحاول ضروبا من الإصلاح • نابليون قد طلق امرأته، و أكره أحبار (۱) المسيحية على قبول هذا الطلاق، وقد اشتهرت له علاقات بخليلات (۲) متعددات، غير الخليلات المجهولات • ونابليون يقول عن المرأة : « لقد صنعت كل ما و سعني أن أصنع لتحسين حال أولئك المساكين الأبرياء ابناء الزني : الا أنك لا تستطيع أن تصنع لهم الشيء الكثير دون مساس بقواعد الزواج ، والا أحجم (۳) الناس عن الزواج الا القليل » • « ولقد كان للرجل في العهد القديم سريات (4) الى جانب الزوجات ، ولم يكن أبناء الزنی محتقرين بين الناس احتقارهم اليوم ۰۰إنه لمن المضحك أن يحظر على الرجل الزواج بأكثر من واحدة . فتحمل هذه الزوجة الواحدة ، و كان الرجل في أثناء حملها أعزب أو عقيم 4 4 .
* *
4 - واليوم لا سريات للرجال ، ولكنهم يعاشرون الخليلات وهن أقدر على التبديد والافساد و انهم في فرنسا يخولون (2) النساء فوق حقهن من التعظيم ، وانما الواجب الا ينظر اليهن كأنهن مساويات للرجال ، فما هن في الحقيقة الا آلات لاخراج الأطفال « و قد تمردن في ابان الثورة ، و عقدن الجماعات لأنفسهن ، و بدا لهن أن يؤلفن فرقا منهن في الجيش در و كان لا بد من صدهن ، لأن المجتمع ضة للخلل والفوضى إذا ترك النساء حالة الاعتماد على الرجال و هي الحق في الحياة . نعم أن المجتمع لوشيك اذن أن يتمزق بددا (1) بغير انتهاء « و علی جنس من الجنسين أن يخضع للأخر لا محالة .. فاذا نشبت (۷) الحرب بينهما ، فلن تكون كحرب الأغنياء والفقراء البيض والسود ! الانساني عرض مكانهن . او حرب أ- أي علماء 5- عشيقات ۳ - اعرض 4 - بتري بهن ويتمتع و- أي يعطون 6 - بحده : فرقه ۲- علقت 1 و۱۱ [116]حالة الرضی ا و الا و ان الطلاق لأضر بالمرأة دون مراء(۱) ، فالرجل الذي يجمع بين زوجات لا يبدو عليه من ذلك أثر كالأثر الذي يبدو على المرأة بعد التزوج بعدة رجال - انها تضمحل (۲) اذن كل الاضمحلال » كذلك اعترف نابليون بالضرورات الزوجية في العصر الحديث ، فكيف اعترف بها «لنين» في الثورة الكبرى بعد الثورة الفرنسية ؟ حل مشكلة الزواج بحل رابطة الزواج فلا رابطة بين الزوجين أو ثق (۳) من رابطة الرفيقين في الفندق أو الطريق ، وليس أعجب ممن جعل الزواج شريعة ملائكة الا الذي جعله على هذا النحو شريعة عجماوات عقوبة الزوجات ولا نختم هذا الفصل عن النبي في حياته الزوجية قبل أن نعرض لعقوبة الزوجات في الاسلام، وللعقوبة التي اختارها عليه السلام • لأن عقوبة الرجل لامرأته في حالة الغضب كمحاسنته لها في كلاهما میزان صادق لمكانتها عنده ، ومكانة المرأة عامة في تقديره والقرآن ينص على العقوبات السائغة (4) في حالة النشوز (5) وهي العظة والهجر في المضاجع، و الضرب، والتسریح باحسان : واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن : فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا(6) » : «و اذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهسن بمعروف ، ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه (۷) والنبي عليه السلام لم يطلق زوجة من زوجاته دخل بها و عاشرها -ولم يضرب قط واحدة منهن ، ولم يرو عنه قط أنه ضرب أو نهر خادما فضلا عن زوجة ، بل روي عنه ما ينفي ذلك مما عاشروه ولاز موه . بل كان عليه السلام يكره ضرب النساء و يعيبه كما قال : يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد ؟ يضر بها أول النهار ثم يجامعها آخره !»• ا- ريب او شك ؟ - اضمحل الشيء : لهب ۲- اقوى واكد 4 - المقبولة والجائزة و بشزت المراة : استعصت على زوجها وابغضته ا - الآية : ۳۶ من سورة النساء - الاية : 23 من سورة البقرة >> « أيا o . ۱۱۹ [117]4 6 فما نص القرآن عليه من عقوبة الضرب فانما نص عليه لعلاج النشوز الذي لا يستقيم بغيره ، وقيده المفسرون بشروط تمنع الايذاء وتحصره في القدر الذي يستقيم عليه الجزاء فغاية ما يفهم من ذكر الضربا بين العقوبات أن بعض النساء يتأدين به ولا يتأد بن بغيره ، وقد يعلم الكثيرون أن هؤلاء النساء لا يكرهنه ولا يسترذلنه (۱) ، وليس من الضروري أن يكن من أولئك العصبيات المريضات اللائي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب انما العقوبة التي أثرها النبي عليه السلام هي الهجر الطويل أو القصير ، بعد العظة والعتاب الجميل - والهجر - ولا سيما الهجر في المضاجع - عقوبة نفسية بالغة، يسبق الى بعضهم عقوبة حسية ، تؤلم المرأة لما يفوتها من سرور و متعة فان فوات السرور والمتعة أياما لا يؤلم المرأة هذا الايلام الذي يجعل الهجر في المضاجع من أصعب العقوبات 6 وليست كما دون الطلاق = لا يتحقق قال الأستاذ رشيد رضا رحمه الله في كتابه نداء للجنس اللطيف : « أما الهجر فهو ضرب من ضروب التأديب لمن تحب زوجها و يشق عليها هجره اياها ، ولا يتحقق هذا بهجر المضجع نفسه وهو الفراش ، ولا بهجر الحجرة التي يكون فيها الاضطجاع وانما يتحقق بهجر الفراش (۲) نفسه ، وتعمد هجر الفراش (۳) أو الحجة زيادة في العقوبة لم يأذن بها الله تعالى ، وربما يكون سببا لزيادة الجفوة ، وفي الهجر في المضجع نفسه معنی بهجر المضجع أو البيت الذي هو فيه ، لان الاجتماع في المضجع هو الذي يهيج شعور الزوجية ، فتسكن نفس كل من الزوجين الى الآخر ويزول اضطرابها الذي أثارته الحوادث قبل ذلك ، فاذا هجر الرجل المرأة وأعرض عنها في هذه الحالة رجی أن يدعو ها ذلك الشعور والسكون النفسي الى سؤاله عن السبب و بهبط بها من نشر المخالفة الى صف الموافقة ، و كأني بالقاریم وقد جزم بأن هذا هو المراد ، وان كان مثلي لم يره لأحد من الأموات ولا الاحياء » او استرذله : ضد استجاده 2 و المقصود بالفراش هنا : الوطء 3 - المقصود بالفرات هنا : السرير ونحوه * 4 ۱۱۷ [118]. والذي نراه أن الأستاذ رحمه الله قد أخطأه المراد الدقيق من هذه العقوبة النفسية ، وأن الحكمة في ايثارها أعمق جدا من ظاهر الأمر كما رآه الأستاذ فأبلغ العقوبات ولا ريب : هي العقوبة التي تمس الانسان في غروره و تشككه في صميم كيانه : في المزية التي يعتز بها ويحسبها مناط (۱) وجوده وتكوينه
* *
د CC والمرأة تعلم أنها ضعيفة إلى جانب الرجل ، ولكنها لا تأسی (۲) لذلك ما علمت أنها فاتنة له ، وأنها غالبته بفتنتها ، وقادرة على تعويض ضعفها بما تبعثه فيه من شوق اليها ورغبة فيها فليكن له ما شاء من قوة ، فلها ما تشاء من سحر وفتنة وعزاؤها الأكبر عن ضعفها أن فتنتها لا تقاوم ، وحسبها أنها لا « تقاوم » بديلا من القوة و الضلاعة (۳) في الأجساد والعقول: فاذ! قاربت الرجل مضاجعة له ، وهي في أشد حالاتها اغراء بالفتنة ، ثم لم يبالها ، ولم يؤخذ بسحرها ، فما الذي يقع في وقرها وهي تهجس (4) بما تهجس به في صدرها ؟ أفوات سرور ؟ أحنين الى السؤال والمعاتبة ؟ كلا ، بل يقع في وقرها أن تشك في صميم أنوثتها ، وأن ترى الرجل في أقدر حالاته جديرا بهيبتها واذعانها (5) ، و أن تشعر بالضعف ثم لا تتعزى (۹) بالفتنة ولا بغلبة الرغبة ، فهو مالك أمره الى جانبها وهي الي جانبه لا تملك شيئا الا أن تثوب (۷) إلى التسليم ، و تفر من هوان سحرها في نظرها قبل فرارها من هوان سحرها في نظر مضاجعها ، فهذا تأديب نفس وليس بتأديب جسد ، الصراع الذي تتجرد فيه الأنثى من كل سلاح ، لأنها جربت أمضى سلاح في يديها فارتدت بعده إلى الهزيمة التي لا تكابر نفسها فيها د بل هذا هو 1 - متعلق 2- تحزن ۳ - المراد : القوة - الهاجس : الخاطر - اخضاعها . أي تتصبر ۷- ترجع ۱۱۸ [119]فانما تکا بر ضعفها حين تلوذ بفتنتها فلن يبقى لها ما تلوذ به بعد ذالك فاذا لاذت بها فخذلتها
.
. وهنا حكمة العقوبة البالغة التي لا تقاس بقوات متعة ، ولا باغتنام فرصة للحديث والمعاتبة انما العقوبة ، ابطال العصيان ، ولن يبطل العصيان بشيء كما يبطل باحساس العاصي غاية ضعفه وغاية قوة من يعصيه ، والهجر في المضاجع هو مثابة (۱) الرجوع الى هذا الإحساس 9
< على أن عقاب النبي لزوجاته كان من الندرة بحيث لا يذكر ، لولا ما تعود المسلمون من ذكر كل كبيرة وصغيرة في حياته الخاصة والعامة على السواء ، وهذا مع طول العشرة وتعدد الزوجات وكثرة الحوادث الجسام وقلة النسل الذي يصل المقطوع ويرأب (۲) المصدوع (۳) و كان معظم عقابه أشبه بعقاب نبي لمسلمات منه بعقاب زوج الزوجات ، وهو في حالتي عقابه و احسانه انسان على أكمل ما يكون الانسان من رحمة و كيس (4) وانصاف واذا حارت الأدلة في قوام تلك الحياة الزوجية ، فالدليل الذي لا يحار : أن ينقضي نحو أربعين سنة عليها وهي على ذلك الصفاء والولاء الذي لم يعرفی مثله في علاقات الرجال والنساء: هذه حياة زوجية لا تقوم على الحس والمتعة ، ولن تدوم ذلك الدوام لو كان لها قوام غير مودة القلوب ، وراحة النفوس وحب الخير ، ومبادلة العطف والتعظيم . f 4 مرجع - يصلح ۴ - الشفوق 4 الكيس : فمد الحمق
۱۱۹
======
عبقرية محمد (1941)/الأب
[120]
الأب
الأبوة الروحية والأبوة النوعية
حفظ النوع سر من أسرار الحياة الكبرى التي دقت عن الفهم ، وحارت في تعليلها عقول الأساطين من أهل العلم والحكمة وهو ولا ريب يجري على قانون مطرد في جميع طبقات الأحياء ، وان كنا نحن لا نعلم كنهه (۱) ولا نسير عمقه ، ولا تزيد عن استقصاء بعض الملاحظات التي تقارب الحقيقة ، أو أقرب ما نستطيع الوصول اليه وأهم هذه الملاحظات التقريبية أنه يجري على سنة المكافاة والتعويض في معظم حالاته ، فيقابل النقص في جانب بالزيادة في جانب آخر ، ويقابل القصور في مزية من المزايا بالاتقان في مزية اخرى . فالأحياء السفلى عرضة للعطب (۲) الكثير في طور الولادة و الحضانة ، فيقابل هذا أن الأحياء السفلي ترسل ذرياتها بالألوف وألوف الالوف ، فيبقى منها القليل الكافي لدوام النوع بعد فناء الكثير والأحياء العليا يقل عدد المولود منها في البطن الواحد ، فيقابل هذا أن تطول حضانتها والعناية بها ، وتجد من وسائل الصيانة ما يعوض الكثرة في الأحياء السفلي ويغلب أن يزيد النسل حين تكون زيادة النسل هي الوسيلة الوحيدة التي يستطيعها الفرد لخدمة نوعه وضمان دوامه، فاذا تيسرت للفرد وسائل مختلفة لخدمة نوعه فقد يجوز ذلك على نسله وينتقص من قسمته في أبنائه ، كأنما خدمة النوع ضريبة مفروضة على كل فرد في صورة من الصور ، فاذا أداها في صورة أعفي منها في الصور الأخرى ، أو كأنما هي مواهب و ارزاق لا پستوليها الفرد الواحد الا بثمن غال يحسب عليه ، ويؤدي $ ا. كله الشيء : نهایتا ۴ - التلف [121]حسابه للنوع على نحو من الانحاء والانسان هو أقدر المخلوقات الحية على خدمة نوعه بوسائل كثيرة لا تنحصر في تحديد النسل وزيادة عدده فهل يجوز لنا أن نقول : ان العظماء الذين حرموا النسل قد أدوا ضريبتهم باصلاح شئون الناس ، فلم يبق من اللازم المفروض عليهم أن يؤدوا هذه الضريبية من طريق الذرية ؟ ان قلنا ذلك فانما نقوله على سبيل الملاحظة التقريبية التي أشرنا اليها ، ولا نبلغ بتلك الملاحظة فوق مبلغها من اليقين الذي تستحقه، فغاية مبلغها عندنا أنها تستوقف النظر للتأمل والمراجعة ولا تفضي بنا الى الجزم أو الى التغليب فبعض العظماء من أكبر خدام النوع لم يتزوجوا ، وفيهم أنبياء معظمون لا شك في سيرتهم من هذه الناحية كعيسی عليه السلام . و بعض العظماء الذين تزوجوا لم يرزقوا الذرية ، أو رزقوا ذرية كلها اناث ، أو رزقوا ذرية من الاناث والذكور ولم يعيشوا ، أو عاشوا ولم يعمروا ولا كانوا على حالة مستحبة من الصحة والنجابة وتواريخ العظماء في جميع نواحي وفي جميع العصور ، حافلة بالشواهد التي تعزز تلك الملاحظة وتجعلها خليقة (۱) بالتأمل و المراجعة : يدخل فيهم القديسون كما يدخل فيهم الحكماء ، و يدخل فيهم العلماء كما يدخل فيهم رجال الفنون والمخترعون ، و يدخل فيهم القادة العسكريون والسياسيون ولا يصعب على أحد أن يدير بصره الى فترة من الزمن في بلده قريب يعرفه حق المعرفة ليشاهد مصداق ذلك في نفر من عظمائه و مشهور به ، وحسبنا في مصر أسماء جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده ، وسعد زغلول ، وعبد الله قد يسم ، ومصطفى كامل ومصطفى فهمي ، و محمود سامي البارودي ، وحافظ ابراهیم • فاذا جاز لنا أن تقف عند تلك الملاحظة وأن نتأمل مغزاها وجاز لنا أن نفهم أن اصلاح شئون النوع الانساني ضريبة تغني
6 العظمة ، وفي جميع الأمم، $ < 4
او جديرة [122]6 عن ضريبة الذرية في بعض الأحوال . فأين ترانا نجد تلك الضريبة في أرفع حالة وأغلى قيمة ان لم نجدها في رسالة نبوية، تتناول الأجيال بعد الاجيال ، وتتناول الملايين في كل جيل ؟ .. وأي أبوة انسانية تغني عن أبوة اللحم والدم كما تغني أبوة النبي الذي يتكفل بتربية الأرواح في أمته ، وفي أمم لا يلقاها في زمانه ، و أمم لا تزال تستجد بعد زمانه إلى أقصى الزمان ؟ نذكر هذا حين نذكر حظ (۱) محمد من الأبوة الروحية و من الأبوة النوعية ، و ثرى تكافؤا في الجانبين جديرا بالملاحظة والاعتبار الا ما أثقل ثمن الاصلاح ! الا ما أحق المصلحين بالتمجيد وحسن الجزاء • فمحمد الأب كان أصلح الآباء ، ثم فجع في بنية فجيعة (۲) لا يداري فيها ألم الانسان الا صبر الأنبياء ومن الناس من لا يكون صديقا صالحا ، ولا سيدا صالحا ولا زوجا صالحا ، ولكنه أب صالح بره ببنيه لأن الرحم بين الآباء والأبناء أدنى الأرحام الى المودة وأحراها بتحريك الشفقة فيمن لا يشفق على أحد فكيف تكون الأبوة في نفس صلحت للصداقة ، وصلحت للسيادة ، وصلحت للزوجية، لأنها تصلح للعطف الذي يعم القريب والغريب ، ويشمل القوي والضعيف ؟ ذلك أب تعلم كيف يفرح بابنائه 4 6 6
4 ونعلم كيف يحزن حين يفجع في أولئك الأبناء و من الراجح أن الملف الأبوي لم يتمثل قط في مولد أحده من أبناء محمد عليه السلام كما . تمثل في مولد ابنه الذي سماه باسم جده الأكبر أملا في أن يصبح بعده خليفته الأكبر " ولعل العطف الأبوي قد تمثل في تشييع هذا الطفل الصغير ، أشد من تمثله في استقباله ميلاده كانت أسباب كبيرة توحي إلى قلب محمد العظيم شوقه الطويل الى استقبال ذلك الوليد : ا- نصيب ۴- الفجيعة : المصيبة [123]كان منها أن محمدا عر بي يحرص على العقب(۱) من بعده كحرص كل رجل من أبناء القبائل وأصحاب العصبية : فخورون بالنسب ، فخورون بالعقب، يحفظون سيرة السلنا ويتوقون (۲) الى استبقاء الخلف على نحو لا يعهده الحضريون (۳) وان كان حب النارية فطرة مركبة في جميع الطباع . و محمد كان يحب التكاثر (4) لنفسه ، ويحبه لأمته ويوصي المسلمين أن يستكثروا من النسل ما استطاعوا ، ليفاخر بهم الأمم وفرة وعزة ، فاشتياقه الى العقبة من الذكور خليقة عربية تقترن بالخليقة (5) الانسانية والخليقة النبوية ، فتزداد قوة على قوتها التي ركبت في جميع الطباع و كان من أسباب هذا الشوق القوي : طول العهد بالأبناء بعد من ولدتهم له السيدة خديجة رضي الله عنها ، وشماتة أناس من شانئيه سماه بعضهم بالأبتر (6) لانقطاع معظم نسله : وفي ذلك نزول الآية الكريمة : «ان شانئك هو الأبتر (۷) فقد مضي نيف وعشرون سنة لم تلد له في خلالها زوجة من زوجاته ، ومات في هذه الفترة كل أولاده ما عدا فاطمة رضي الله عنها التي ماتت بعده بقليل : مات القاسم ، والطاهر ، طفلين وماتت زينب ، ورقية ، و أم كلثوم ، بعد أن تزوجن ، ولم يتعوض من فقدهن ما يعزیه بعض العزاء فجيعة تضاعف الشوق الى الوليد المأمول و طول انتظار يضاعف الحب له ، كما يضاعف الشوق اليه : ولسنا ندري لم طالت الفترة التي مضت على أزواج النبي جميعا بغير عقب ؟ ولكنا لا نستبعد تحليلها باجتماع المصادفات التي لا يندر أن تجتمع في أمثال هذه الأحوال : فعائشة البكر التي لم يتزوج النبي بكرا غيرها قد مات عنها عليه السلام وهي دون العشرين ، و هي سن قد تبلغها المرأة ولا تلد ، وان كانت ولودا فيما بعدها . أما أزواجه الأخريات اللاتي تزوجن قبله فلا نعلم من أخبارهن أنهن أعقبن لأزواجهن الاولين خلفا غير رملة أم 4 H ا. أي الولد والذرية 2- يشتاقون ۲- اي اهل المدي - كثرة 0- الطبيعة 6 - الإبئر : من 4 عقي له ۷ - الآية : من سورة الكوثر . ۱۲۳ [124]حبيبة ، و هند بنت أمية المخزومية ، وهذه كانت مسنة اليوم بشی بها النبي عليه السلام ، و في عمر لا يستغرب فيه امتناع الولادة • فكلهن ما عدا هاتين لم يلدن للنبي ولا لزوج قبله ، و اجتماع هذه المصادفة ليس بالعجيبة المعضلة التي يصعب تعليلها ، اذا تذكرنا أن النبي قد توخی(۱) في اختيارهن تلك الأغراض العامة التي أجملناها في الفصل السابق ولم يتحر منها النسل خاصة : و هي : الايواء الشريف والمصاهرة . و بعضهن - بل معظمهن - قد لقين من الشدائد والمخاوف وعناء (۲) الهجرة البعيدة، ما يعقم الولود . فاذا أضفنا الى ذلك معيشة الكفاف ، وضريبة العظمة النبوية التي أشرنا إليها على سبيل الاحتمال ، واشتغال النبي فيما بين الخمسين و الستين بتعزيز الدين و قمع (۳) الفتن ودرء (4) الاخطار - لم يكن فهم تلك الظاهرة الحيوية بالأمر العصي على التعليل
حزن الأبوة طال اشتياق النبي إلى الوليد المأمول ، وتجدد اشتياقه في أثر كل زواج ، حتى جاءته مارية القبطية من قطر بعيد ، ومن معدن غير المعدن الذي يختار ، لايواء المحزونات وتقريب الأسر والعصبيات ، فبشرت النبي بعقب لعله غلام ، واجتمع في هذه البشارة اشتياق نيف وعشرين سنة ، ورجاء لا ينتهي بانتهاء الزمان ۰۰"وولد ابراهيم ! ۰۰ ولد الطفل الذي نظر ابوه اليه يوم موا مولده فامتد به الأمل مئات السنين بل ألوف السنين ، و تخير له الاسم الذي وراءه أعقاب كأعقاب جده الأعلى ، ليكون أبا و یکون له أحفاد ، و يكون أحقاد ثم مات ذلك الطفل الصغير ومات ذلك الأمل الكبير مات كلاهما والأب في الستين .. أي صدمة في ختام العمر ؟ ۵ الأحفاده من بعدهم ا - تجري وقمد ۲- مشقة ۲- ضربه - دفع • ۱۲ [125]- 4 . أي أمل في الحياة ؟.. الدين قد تم ، وهذه الآصرة (۱) قد انقطعت فليس في الحياة ما يستقبل وينتظر : كل ما فيها للاشاحة والادبار مات الطفل ولما يدرك السنتين مصاب صغير ان كانت المصائب تقاس بسنوات المفقودين ولكن المصائب في الأعزاء انما تقاس بمبلغ عطفنا عليهم والصغير أحوج الى العطف من الكبير المستقل بشأنه وانما تقاس بمبلغ تعويلهم علينا ، وتحويل الصغير على وليه أكبر من تعويل الكبير وانما تقاس بمبلغ الأمل فيهم ، والأمل يطول في بداءة الطريق وقد يقصر في منتصف الطريق انما تقاس الام المفقودين بأعمار الفاقدين ، وأي مصاب أفدح (۲) من مصاب الستين وما بعدها في الأمل الوحيد الواصل بينها و بين الزمان ماضيه و آتیه ؟ ما تخيلت محمدا في موقف أدنى الى القلوب الانسانية من قفه على قبر الوليد الصغير ذارف العينين مكظوم الوجد (۳) ضارعا الى الله نفس قد نفشت (4) الرجاء في نفوس الألوف بعد الألوف ، وهي في ذلك الموقف قد انقطع لها رجاء عزیز : رجاء وا أسفاه لا يحييه كل ما ينفثه المصلح في الدنيا من رجاء • وكأني محمد كان يومئذ أقرب إلى قلوب الخالفين من بعده مما كان الجالسين حوله أقرب الناس اليه كان أقرب الناس اليه زوجاته أمهات المسلمين ، و كن يحببنه النساء الأزواج ، ولكن حبهن اياه لم يكن في هذا الموقف من المقربات العاطفات ، لأنه حيا أثار غيرتهن من أم الوليد المأمول، فاحتجب من عطفهن بمقدار تلك الغيرة و بمقدار ذلك الحب ، ولا لوم عليهن فيما طبع عليه الانسان ، وفيما لا يقصيه ولا يقدرن عليه و كان أقرب الناس اليه أصحابه الخاشعون بين يديه ، و ، وكان مو ، ومع $ غاية ما حسا 6
1 ا- الرابطة 1- اثقل واشد 3- يكتم حزنه 4 - النفث ، اللفخ ۱۲۵ [126]ملايعرف 9 اكبارهم السيد الأنبياء ينسيهم أنه أب من الآباء ، بل أنه أب أرحم من سائر الآباء - ظنوا أن النبي لا يحزن ، كما ظن قوم أن الشجاع لا يخاف ، ولا يحب الحياة ، وأن الكريم قمة المال . لكن القلب الذي لا يعرف قيمة المال لا فضل له في الكرم ، و القلب الذي لا يخاف لا فضل له في الشجاعة ، والقلب الذي لا يحزن لا فضل له في الصبر ، انما الفضل في الحزن و الغلبة عليه ، وفي الخوف و السمو عليه ، و في معرفة المال و الايثار عليه . وفضل النبي في نبوته وفي أبوته أنه حزن و بکی ، وتلك هي الصلة بينه و بين قلب الإنسان ، و بينه و بين الناس ، و أي نبي تنقطع بينه و بين القلب الانساني صلة كهذه الصلة التي تجمع أشتات القلوب ؟ روی أسامة بن زيد أن زينب بنت النبي أرسلت اليه : « ان ابنتي قد حضرت فاشهدناه فأرسل اليها عليه السلام يقول : « أن الله ما أخذه وما أعطى ، وكل شيء عنده مسمی ولتصبر فأرسلت تقسم عليه ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا ، فرفع الصبي في حجر النبي ونفسه تقعقع (۱) ، ففاضت عينا النبي صلى الله عليه و سلم - فقال له سعد : « ما هذا يا رسول الله ؟ » ۰ قال : « هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده ، ولا يرحم الله من عباده الا الى حمام » ما هذا يا رسول الله ؟! هذا رسول الله في أصدق ما تكون عليه رسالة الرسل : في الرحمة ، وفي الآصرة الانسانية ، و غير هذا لن يكون ومحمد قد اتقى رؤية طفل يموت لابنته وهو كهل غير يائس من العقب، فكيف يكون حزنه على فلذة كبده ابراهيم ومو بعده ذاهب الرجاء في الأبناء ؟! .. لقد كان حزنه لموته بمقدار فرحه بمولده ، و كان فرحه بمولده بمقدار أمله فيه ، واشتياقه اليه فلتحتسب 9 و پیمر . تضطرب . ۱۲۹ [127]هو التوسع وان العطف الانساني كله ليتجه إلى تلك النفس الزكية وهي تتوسع فرحا بالوليد المأمول حلق الأب المتهلل شعر وليده وتصدق بزنته فضة على المساكين ، وذلك الذي وسعه رجل كان أقدر الرجال على وجه البسيطة غير مستثني فيها رؤساء ولا ملوك • جاء بأقصى ما عنده من الفرح واقصى ما عنده من التوسعة ، ولو شاء لقد كان وزن الوليد کله درا وجوهرا بعض ما يستطيع في ذلك اليوم الأغر الميمون و بمقدار هذا الفرع الطهر يوم الاستقبال كان الحزن الوجيع يوم الوداع : خرج الرجل الذي اضطلع بأعباء الدنيا ومن فيها وهو لا يضطلع بحمل قدميه : خرج يتوكأ على صديق عطوف إلى حيث يحمل الوليد آخر مرة في حجره الأبوي قبل أن يودعه حجر التراب ، و كان يستقبل الجبل بوجهه فقال : يا جبل ! لو كان بك مثل ما الهدف ، ولكن انا لله وانا اليه راجعون أي والله ! انها لاحدى الفواقر(۱) التي يحملها اللحم والدم ولا تحملها صخور الجبال
6 وصرخ أسامة حين بكی رسول الله ، فنهاه رسول الله و قال : البكاء من الرحمة والصراخ من الشيطان حزن كما ينبغي له أن يحزن أما الحزن الذي لا ينبغي له فهو الصراع الذي نهى عنه ، وهو أن تنکسف الشمس يوم موت ابراهيم فيحسب المسلمون أنها انكسفت لموته ، ويقول الأب الذي انكسفت الشمس حقا في عينيه :« کلا ان الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته ! » - 1 أو تخسفان ولكن في أكباد المحزونين ، وليس في كبد السماء • ا- الفواقر : الدواهي . [128]9 ما أكرم الآباء أو كان من الحتم أن يكون محمد مثال الآباء كما كان مثال الأنبياء ؟.. كذلك شاء القدر القادر ، وكذلك رأينا محمدا مثال الأب يوم ولد له ابراهيم، ومثال الأب ذهب عنه ابراهيم يتمنى طفل سلو جاز أن يتمنى الاطفال - أبوة أرحم ولا از کی من هذه الأبوة في الحالتين بل كان محمد مثال الأب حيثما كان له نسل قريب أو بعيد ، وذكر أو أنثى ، وصغير أو كبير أرأيت الى الحسن بن فاطمة وقد دخل عليه فركب ظهره وهو ساجد في صلاته ؟ أن النبي في صلاته لهو النبي في مقامه الأسنی (۱) وان النبي في مقامه الأسني ليشفق أن يشغل الصبي عن لعبه فيطيل السجدة حتى ينزل الصبي عن ظهره غير معجل، ويسأله بعض أصحابه : لقد أطلت دك ؟ فيقول ان ابني ارتحلتي (۲) فكرهت أن أعجله ! أرأيت الى فاطمة تدخل البيت أشبه الناس مشية بمشية محمد ؟.. أرأيت الي حنان يفيض على القلب كحنانه حين يرى فتاة تشبه أباها في مشيته وسمته ! تلك فاطمة بقية الباقيات من الأبناء والبنات ، يختصها النبي بمناجاته في غشية وفاته : اني مفارق الدنيا فتبكي انك بي فتضحك .. في هذا الضحك وفي ذلك البكاء على برزخ (۳) الفراق بين الدنيا والآخرة أخلص الود والحنان بين الآباء والأبناء سرها بنبوته ، وسرها بأبوته ، فضحكت ساعة الفراق لأنها ساعة الوعد باللقاء وكذلك فارق الدنيا أكرم الأنبياء ، وأكرم الآباء سکو
ا- الرفيع ۴- اي جعلن رالحة له ۳- البرزخ : العاجل واللحاصل بين الشيئين . ۱۲۸
===========
عبقرية محمد (1941)/السيد
[129]
السيد
الخير المطبوع
قدمنا الكلام في فصول هذا الكتاب عن محمد رئيسا ، و محمد صديقا ، و محمد زوجا ، ومحمد أبا ، بعد الكلام على عبقريته في الدعوة ، وعبقريته في قيادة الجيوش ، وعبقريته في السياسة والادارة والبلاغة وبقي جانب لا تتم بغيره الاحاطة بجوانب النفس الإنسانية في العلاقات بينها و بين سائر النفوس ، و هو جانب المعاملة التي تكون بين الرجل و من هم دونه ممن يملك أمرهم ، ويقبض على زمامهم ، ولا يعتصمون منه بعاصم غير عواصم (۱) طبعه وخلقه و نريده بهم الخدم والعبيد الأرقاء ، وهي معاملة لها من الدلالة على الأخلاق . ما يندر أن تدل عليه معاملة أخرى ، لأنها تأتي من طبائع النفس و عقائدها ، ولا تأتي بأمر قمر ، أو بدعوة داع فالصداقة لها الحقوق المتكافئة بین الصديقين ، لا يستطيع أحدهما أن ينساها زمنا طويلا إلا ذكره بها مذكر من صديقه الحافظ الحقوقه ، القادر على مقابلة الجفاء بمثله ، ولو في طرية نفسه • والرئاسة قد تخول (۲) الرئيس حق السيطرة، وتفرض على المرؤوسين واجب الطاعة ، غير أنها قل أن تنطلق بغير وازع من خشية النضب ، أو خشية الانتفاض ، يحسب ،له الرئيس كل الحساب أو بعض الحساب . والأب يحلف على بنية فلا يعجب الناس لعطفه عليهم ، لما ركب في طباع جميع الأحياء من حب الأب لولده ، وان اختلف الآباء في صفات العطف ، و في استحقاقهم لبر الأبناء و كذلك الزوج: يرفق بزوجته ، وليس له كل الاختيار في رفقه لما يكون بين الزوجين من دالة يعتز بها الضعيف ، و يستغني بها أحيانا عن القوة والرئاسة . د. موانع وحوافظ 2- تعطيه ۱۲۹ [130]، وهي و أما العبد المملوك، فلا عاصم له غير ما في نفس سيده من رحمة وخير ، وانه لمن الرحمة والغير أن يتبع السيد أمر الدين مع عبيده وخدمة الذين لا ينصرهم عليه ناصر في هذه الدنيا، بل انها لرحمة تؤثر ولو وقفت عند حدود الأوامر الالهية ، فاذا تجاوزتها الى طواعية في الخير لم يفرضها الدين و لم يفرضها العرف، ولم يطلبها العبد نفسه، فتلك هي الرحمة في أصدق معانيها أدل الدلالات على الباب (۱) الأخلاق ولقد علم القاريء من فصولنا السابقة أننا لم نكتب هذا الكتاب لشرح الأصول الاسلامية ، و تفصيل محاسن الدعوة المحمدية فذلك غرض لا تتسع له هذه الفصول ، وليس لنا أن نتصدى له بعد من فصلوه وكرروا الكتابة فيه وانما نقصد بهذه الفصول الى غرض قدمناه على كل غرض في موضوعه، و هو بيان البواعث النفسية التي توحي إلى النبي أعماله و معاملاته، ولا شك في مطابقة هذه البواعث لكل أمر من أوامر الدين و كل نهي من نواهيه، الا أن الخير المطبوع شيء والخير المأمور شيء آخر، والخير المطبوع هو الذي قصدنا الى بيانه بكل ما بيناه ، ففي كتابتنا عن معاملة محمد العبيد والخدم : لا ننوي أن نفصل أحكام الاسلام ، و أوامر القرآن في هذه المعاملة ، أن نبين مزية محمد على جميع السادة في هذا الباب، و هي مزية لا تتوافر لمن يقنعون بالتزام الأوامر والحدود ، ولا للذين يرتفعون الی أرفع مرتبة تفرضها هذه الأوامر والحدود . الاسلام والرق على أن هذا لا يمنعنا أن نوجز الاشارة بداءة الى مزية الاسلام بين الأديان الأخرى في مسألة الرق ، والاستعباد، لأن أناسا يخلطون بين اعتراف الاسلام بنوع من الرق ، و بين اعتباره مسئولا عن وجوده في الزمن القديم ، و يردون شيئا من ذلك اني عمل التبي عليه السلام ، فمن الواجب أن نذكر أولا، أن دينا من الأديان الأخرى لم يأمر بالغاء الرق في شكل من أشكاله ، سواء رق الحروب . وانما تنوي و - اللباب ، الفالهن [131]+ . كثيرة أو رق النخاسة (1) والبيع والشراء، وان أناسا من أقطاب المسيحية كالقديس أغسطين سوغوه (۲) واعتبروه جزاء عادلا للخطايا التي يقترفها (۳) المسترقون، وجاء بعض أحبار (4) الكنيسة فحرموا على الأرقاء شرف الخدمة فيها بالوعظ والهداية ، انفة لها أن بدنسها (2) لؤم العنصر الذي وسموا به الرقيق . ويجب أن نذكر بعد هذا أن النظام الاقتصادي القديم في أساسه كان مرتبطا بالاسترقاق أشد الارتباط ، فكان الغاؤه طفرة (1) واحدة أقرب شيء إلى المستحيلات ، ولم يكن أنفع في علاجه من التدرج خطوة خطوة والابتداء بتصعيبه وتر غيب الناس عنه و هو ما شرعه الاسلام - فالاسلام قد بدأ بتحريم كل رق نمير رق الأسرى في الحروب، ثم حسن اطلاقهم و سماه منا (۷) و عفوا يشكر فاعله عليه: « فأما منا بعد و اما فداء (۸) ثم أجاز للأسير أن يشتري نفسه ، و أوجب حريته في حالات معظمها الى ارادته هو ، اذا استطاع والحق الذي لا مراء فيه أن صنيع الاسلام هذا كان اجمل صنيع لتيه الأرقاء من دين أو شريعة . وانه اذا كان هناك تمهيد لالغاء الرقي بتة (۹)، فذلك هو تمهيد الاسلام دون غيره أقصى ما كان مستطاعا في نظام العالم القديم : نظام كان عدد الأرقاء فيه يقارب عدد الأحرار ، كما جاء في بعض الاحصاءات المروية عن الحضارتين الرومانية و اليونانية و قد نتلر في مسألة الرق عقل من أكبر العقول التي نبغت في أمة اليونان بل في الأمم كافة - ونعني به أرسطو - فأقره و أوجبه لأنه جعله سنة من سنن الفطرة ، و قیدا لا فكاك منه لطائفة من الناس ، خلقت عاجزة عن ولاية أمرها ، فلا غنى لها عن سيد ولا موئل( ۱۰) لها من وال معاملة محمد العبيده ولو وقف النبي عند هذا الحد في معاملة الأرقاء لأحسن و اجمل و امتاز بأمر دينه على كل محسن الى الارقاء في زمانه ، و دو + ا- النحاس . بائع الدواب والرقيق - أجازوه ۳ - يرتكبها 4. علماء - يوسخها - الطفرة الوثبة 7 - من عليه ، أنعم - الآية 4 من سورة محمد و قطعا ۱۰- ملجأء [132]6 اليها وترجع الا أننا نقير الواقع ولا نتعداه قید (۱) شعرة حين نقول : ان كثيرا من الأبناء لا يتمنون عند آباثهم خيرا من المعاملة التي ظفر بها خدم محمد و عبيده ، و من من الآباء يحسن الى أبنائه خيرا من احسان محمد الزيد بن حارثة ولا بنه أسامة ؟ فقد أعتق زیدا ورآه أهلا للزواج بعقيلة (۲) من أقرب قريباته اليه ، و أولاهن بحد به (۳) و توقيره : و هي التي آها بعد ذلك أهلا الزواجه بها ، و حظوتها (4) لديه . فلم يعطه الحرية و كشي ، ولم يعطه المساواة في العيش و کفی ، بل رفعه الى المنزلة الاجتماعية التي يرتفع اليها السادة ، ولا يثبتها شيء كما يثبتهاشرف المصاهرة ثم حفظ هذا البر الأبوي لابنه أسامة ، فولاه جيش الشام وهو دون العشرين، و في الجيش طائفة من أكابر الصحابة . فلو كان للنبي ولدفي سنه لما تكفل به أحسن من هذه الكفالة ، ولا ميزه أشرف من هذا التمييز نعم لم تعد (5) الواقع، ولا تجوزنا في الوصف، حين قلنا : ان الابن لا يتمني خيرا من معاملة محمد العبده، فقد عرف زيد فعلا أن محمدا خير من أب ، و خير من أسرة كاملة يرجع اليه ، فبقي معه ولم يذهب مع أبيه ، ولم يبق معه ایثارا لبركة النبوة، فان محمدا لم يكن قد أرسل بالدعوة اختاره زيد ، وانما بقي معه لأنه الانسان الذي يعرف حتى العبد الرقيق أن أصرة الإنسانية عنده أوثق مسن آصرة الأبوة عند آخرين آن الوالد لوليده وراثة ألوف الالوف من الأجيال ، بل وراثة الحياة في جميع الأحياء ، فاذا بلغ البر بالضعفاء مبلغ الحب الأبوي من القوة ، فقد بلغ الذروة (1) العليا التي لا متسنم (۷) فوقها الراق لقد خيرت شريعة الاسلام المحسنين بين المن واعتاق الأسرى، و بين الفداء بالمال أو المبادلة ، فأيهما اختار المالك فهو احسان . أما محمد فقد اختار المن وزاد عليه . فأعتق كل أسير صار الى حوزته (۸) ، وزاد على العتق تلك الرحمة الأبوية التي شملت كل منتم اليه ، ولم يستبح في غضبه ما يستبيحه المعلم والوالي من ام أي قدر ۴- العقيلة ، تحريمة الحي ۳- بعطفه 4- علو نزلتها و- اي ام فتجاوزه ۲ - ذروة الشيء ، قمعه واعلاه ۲ - تسنم الشيء : علاه 4- كل من فسم شيكا الى نفسه فقد جازه ، وأثره على جميع . حب ها ۱۳۲ [133]ضرب وتعزير ، وربما كانت كلماته للخادم المخالف أقرب الى الملاطفة منها الى العقاب ، ومن ذلك : قصة الوصيفة التي أرسلها فأبطأت في الطريق ، فما زاد على أن قال لها حين عادت « لولا
خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك ! • ضرب سواك لابن عزيز ليس بالشيء الكثير . ولكن محمدا يخشى القصاص اذا استباحه في معاملة وصيفة تهمل أمره ، وهو الذي لا يهمل له أمر عند سادة الشرفاء . وروى أنس أن النبي أرسله في حاجة ، فانحرف(۱) الى صبيان يلعبون في السوق، «واذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض ثيابي من وراثي ، فنظرت اليه صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فقال : يا أنيس ! اذهب حيث أم تك ! » - كلمة أمر لا يقولها لخادمه الا وقد ناداه مدللا ،وقا بله ضاحكا كأنه يعتب على قرین (۲)، وقد يلام القرين بأشد من هذا الملام وكانت رحمته بعبيد غيره كرحمته بعبيده ، فكان يجاملهم و يجبر كسرهم و يقبل منهم الهدية و يكافىء عليها، ويلبي دعوتهم اذا دعوه الى طعام ، و يوصي بهم قائلا: « هم اخوانكم وخولكم (۳) جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمة مما يأكل ، و يلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فان كلفتموهم فأعينو هم (۶)» و «اتقوا الله في الضعيفين : النساء والرقیق» البر بالخدمة وربما كان البر بالخدمة في هذا المقام أكرم وأنفي للهوان من البر بالخدم ۰۰ فالبر بالخادم عطف عليه ، أما البر بالخدمة فارتفاع بالخادم الى مقام السادة ، حيث لا يأنف (5) السادة من خدمة أنفسهم بأيديهم ، و ذلك هو البر بالخدمة كما عنيناه ، وذلك هو دأب (1) النبي الذي جرى عليه في بيته و بین أهله فقد كان يحلب شاته ، و يخصفه (۷) نعله و يخدم نفسه، ويعلف ناضجه - أي البعير الذي يستقي عليه الماء - فاذا رأى الخدم لهم عملا في البيت يماثل عمل سيدهم ومالك أمرهم ، فتلك هي 9 . وخدمة - ا- انحرف عنه : مال وعدل ؟ - صاحب او صديق - الفول : اسم يقع علی العبد والامة كم ساعدوهم - اي لا يستنكف - الداب: المادة والشان ۷- اي يصلحه . [134]4 المساواة التي تمسح ضير(۱) الخدمة وتجبر كسرها ، ولا تقتصر على العطف و الرحمة ولم يقبل عليه السلام خدمة من خادم يأنف الأحرار أن يقضوها له شاكر ين . فما كان في رجالات المسلمين كابر ابن كابر الا كان يتمنى أن يؤدي لنبيه تلك الخدمة التي تطوعت بها نفوس مواليه و أتباعه ، و هذا ضرب آخر من ضروب البر بالخدمة والتسوية فيها بين مقام الخادم و مقام المريد، فكان عمل الخادم عنده عمل التلميذ الذي يجلس إلى قدمي أستاذه، حبا لا خنوعا (۲) و تو قبرا (۳) لا مذلة ، و أدبا يفرضه على نفسه وليس بضريبة مكتوبة يفرضها عليه العرف والتأديب و على هذا كان النبي عليه السلام يكره أن تقبل يداه مخافة أن تجري العادة بهذا بين الناس ، فتحمل بينهم على محمل الذلة و الخضوع. قال أبو هريرة رضي الله عنه : « دخلت السوق مع النبي صلى الله عليه و سلم فاشتری سراويل ، وقال للوزان : زن و أرجح ، فوثب الوزان إلى يد رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبلها، فجذب يده وقال: هذا تفعله الأعاجم بملوكها ، ولست بملك ، انما أنا رجل منكم ، ثم أخذ السراويل فذهبت لأحمله فقال : صاحب الشيء أحق بشيئه أن يحمله يمدح أن يقال أن حصة النبي من خدمة نفسه كانت أعظم من حصة خامه ، وأن تعويلهم عليه كان أكبر من تعويله عليهم ، وانه جعل الخدمة على سنته ضربا من توزيع الأعمال ، أو ضربا من تعاون أبناء البيت الواحد فيما يستطيعه كل منهم من تدبيره وقضاء شئو ته : « انما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد » هذه كلمة السيد بامامته ، السيد بنسبه ، السيد بسلطانه السيد بالتفاف القلوب حوله ، السيد بسيادته على سره وعلانيته ورأيه وهواه . ولو عمت هذه السيادة لبطل الاستعباد ، واصبح تفاوت الدرجات متفاوت الأعمار شيئا لا غضاضة (4) فيه على صغير ولا خنزوانة (5) فيه الكبير - انما هو تقسيم أعمال ، وتعاون بين اخوان ، وان لم يكن تعاو نا بين أمثال ولقد E < ط ا. فمررها 1- اي مهالة وذلا وخضوعا ۲- احتراما - كلة ومنقصة و - تكبره ۱۴
=====
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/العابد
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ السيد العابد
المؤلف: عباس العقاد ← الرجل
[135]
العابد
الطبائع الأربع
طبيعة العبادة ، وطبيعة التفكير ، وطبيعة التعبير الجميل ، وطبيعة العمل والحركة هذه طبائع أربع تتفرق في الناس ، وقلما تجتمع في انسان واحد على قوة واحدة ، فاذا اجتمعت معا فواحدة منهن تغلبه سائر هن لا محالة ، وتلحق الأخريات بها في القوة والدرجة على 9 شيء من التفاوت تدعو 9
طبيعة العبادة : تدعونا إلى الاتصال بأسرار الكون للمعاطفة والتألف بيننا وبينها : تدعونا إلى الحلول من الكون في أسرة كبيرة وطبيعة التفكير : تثير في نفوسنا ملكات الكشف والاستقصاء: نا الى الحلول من الكون في معمل كبير وطبيعة التعبير الجميل : تشب النار المقدسة في سرائرنا ، فتصهر معادن الجمال من هذه الدنيا وتفرغها في قوالب حسناء من صنع قرائحنا (۱) و ألسنتنا ، أو صنع قرائحنا وأيدينا ، أو صنع قرائحنا و أوصالنا (۲) ، تدعونا إلى الحلول من الكون في متحف كبير - و طبيعة العمل و الحركة : تعلمنا كيف تتأثر بدوافع الكون ، و كيف نؤثر فيها، وتجذ بنا اليها فتستمد منها القدرة التي تجد بها الينا : تدعونا إلى الحلول من الكون في ميدان مصراع ، ومضمار (۳) سباق و قلما تشعر بالكون بيتا لأسرة ، ومعملا لباحث ، ومتحف فن ، ومضمار سباق في وقت واحد . انما حالة من هذه الحالات تجب (4) سائر الحالات ، وقد تلحقها بها الحاق التابع بالمتبوع، والمساعد بالعامل الأصيل • ا- القريحة : اول كل شيء، وملك ، طبعك - مفاصلان - غاية ا الفرس في السباق 4 - الجب : القطع . . ۱۳۵ [136]6 محمد بن عبد الله كانت فيه هذه الطبائع جميعا على نحو ظاهر في كل طبيعة : كان عابدا ، ومفكرا، وقائلا بليغا ، و عاملا يغير الدنيا بعمله ، ولكنه عليه السلام كان عابدا قبل كل شيء، ومن أجل العبادة قبل كل شيء كان تفكيره وقوله وعمله ، وكل سجية (۱) فيه . تهيأ للعبادة بميراثه و نشأته وتكوينه . فولد في بيت السدانة (۲) والتقوى ، وتقدمه آباء يؤمنون و یوفون بايمانهم ، و يعتقدون ويخلصون فيما اعتقدوه ونشأ يتيما من طفولته ، فانطوى على نفسه، وتعود التأمل والجد والعزوف عن عبث الصغار ، والنظر إلى ما حوله بمين الناقد المترفع عن الدنايا، الجانح (۳) الى الطهر واستقامة الضمير و تكون في بنيته عابدا من صباه قيل : انه في الثانية أو الثالثة من عمره قد أدركته حالة يختلف شراح التاريخ في تفسيرها ، و پر و بها من سمعوا بها على روایات مختلفات لا ندري ما هو الواقع الصحيح منها ، ويتعجل بعض المؤرخين الأوربيين فيحسبها ضربا من الصرع على غير سند علمي أو تاريخي محقق يستند اليه كل ما يمكن أن نجزم به من هذه الحالة أو من غيرها أن محمدا قد تكون ليلتقي الوحي الإلهي ، وان لهذا التكوين استعدادا لا بد أن يلحظ من أوائل صباه ، لأن البنية الحية لن تتهيأ له في أيام ولا في شهر ولا في سنوات ، ولن تستطيعه الا إذا تمت أهبتها له والمولود في صلب أبيه ، ولا تقول في المهد او في الرضاع ، فمن الأقوال المتواترة : أنه كان عليه السلام اذا نزل عليه الوحي نكس رأسه ، و كرب لذلك و تر بد (4) وجهه ، و أخذته البرحاء (2) حتى انه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشاتي ، و سميع عند وجهه كدوي النحل ، وقد يصدع (۹) فيغلف رأسه بالحناء وقد شاب فقال : «شيبتني هود وأخواتهاه وعدد حين سئل عن أخواتها سورا أخرى من القرآن الكريم < ا- طبيعة - خدمة الكعبة ۳ - اي المائل - اغبر و - برج به الأمر تجريها : اي جهده 1 - يصيبه الصداع • [137]6 وليس هذا من خليقة كل بنية انسانية ، انما هو خليقة البنية التي تتلقى وحيا ، وتستوعب سرا، وتهتز لنبا عظيم • صفة العابد وكانت أوصافه في غير حالة الوحي توافق الاستعداد الذي يرشحه لتلقي الوحي والنبوة، فكان حسا كله، وحياة كله - پیراه من ينظر اليه فيرى فؤادا يقظا يتنبه لكل خالجة نفسية ، وكل نبأة خفية - يسرع في مشيته و يلتفت فیلتفت بكل جسمه ، ويشير فيشير بكل كفه ، و يفكر فلا يزال يطرق الى الارض، أو يرفع بصره الى السماء، ويدعو فيرفع يديه حتى يرى بياض ابطيه ، ويغضب فتحمر عيناه ووجنتاه (۱)، و يمتليء عرق جبينه و ينام وقلبه يقظ لا ينام : حس مرهف يدني اليه ما وراء الحجاب، و يوقظ سريرته الأخفى البواطن ، و يجعله أبدا في حالة قريبة من حالة الوحي حیشما هبط الوحي عليه هذه صفة عابد يفكر ويعبر ويعمل، وليست بصفة عابد ينقطع للعبادة أو ينقطع للتفكير ، أو يعمل كما يعمل بعض النساء (۲) الذين هزلت بنيتهم الجسدية فلم يبق لهم الا عکسوف (۳) الصومعة (4) ، أو رحلة الزهادة كانت عبادة محمد خلوا بالنفس إلى حين ، أو عجبا من بدائع الكون التي ألفها الناس، لأنهم لم يوهب لهم في أبصارهم و بصائرهم تلك النظرة الجديدة التي ترى كل شيء كأنه في خلق جدید ما أعظم دهشة الناظر أن يرى الشمس قد خلقت اليوم أمام عينيه دهشة لا تعدلها دهشة و هي هي دهشة العين التي أبت أن تكل (5) من الالفة ، لأنها أبدا في نظر جديد ، أو في نظر الى كل منظور كأنه مخلوق جديد - و هكذا كانت عبادة محمد عليه السلام: عجب من بدائع الكون في كل نظرة كأنه يراها لأول مرة، وتفكير في الخلق ينتهي الى الايمان لأنه يبدأ بالعجب ، ولا يزال أبدا بين العجب والايمان . - ما ارتفع من فديه - العباد ۲- عكف : عبد يع - بيت عبادة للنصاری ه - كله : أعياه ۱۳۷ [138]- وأن محمدا باعث الايمان إلى القلوب. لقد كان يجدد ایمانه كما يجدد عجبه كل يوم و كان يدعو الله فيقول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» ۰ ۰ و قيل له في ذلك فقال: «انه ليس آدمی الا وقلية بين اصبعين من أصابع الله ، فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ» حركة متجددة في الحسو في الفكر وفي الضمير فلا انقطاع عن الحس للعبادة كل الانقطاع ولا انقطاع عن الحس للتفكير كل الانقطاع وانما هو تفكير من ينتظره العمل ، وليس بتفكير من رك العمل ليوغل (۱) في الفروض و مذاهب الاحتمال والتشكيك : ثلث أيامه لربه و ثلثها لأهله ، و ثلثها لنفسه ، وما كان في فراغه لنفسه ولا لأهله شيء يخرجه من معنى عبادة الله، والاتصال بالله، على نحو من التعميم : < 9 < بهره الجمال من صباه: جمال الشمس والقمر والنهار والليل والروض والصحراء ، و جمال الوجوه التي يلمح عليها الحسن فيطلب عندها الخير - انما هو الخير على كل حال ما قد طلب من الجمال . وانما جمال الله هو الذي قد كان يدعوه اليه ، كلما نظر إلى خلق جميل . فكر في الخلق فآمن بالخالق ، واستقر هنالك لا يتقدم ولا يتأخر . فقال : «ان الشيطان يأتي أحدكم فيقول : من خلق السماء؟ فيقول : الله ، فيقول: من خلق الأرض ؟ فيقول : الله - فيقول: من خلق الله؟ فاذا وجد ذلك أحدكم فليقل : آمنت بالله ورسوله » تلك هي نهاية التفكير التي ينتهي اليها عقل مستقيم خلق العبادة عامل ، وتعليم الناس عبادة وعملا، ولم يخلق ليوغل في الفروض ، ويتقلب بين الشكوك وانا لنسأل مع هذا: إلى أين انتهى المفكرون الذين أو غنوا في شکو کهم وتطرحوا (۲) بها الى قصوى (۳) ما تفرضه الفروض ؟ = ه أ. کد خل في الارض : انا مار فيها وابعد 1- ای کاموا ولهموا ۲ - ابعد . ۱۳۸ [139]9 6 الى اين انتهى كانت» Kam أمام المفكرين في هذا الباب بين فلاسفة العصر الحديث ، إن لم نقل الحديث والقديم ؟ انتهى إلى أن النفس نفسان ، والوجود وجودان : نفس حسية ونفس حقيقية ، ووجود محسوس ووجود حق هو ذات الوجود • النفس الحقيقية تدرك الوجود الحقيقي عندما ترجع إلى قرارها ، ثم لا تتخطى بادراها عالم الباطن إلى عالم المحسوسات التي يتناولها التعبير وتصدير الكلام أليس معنى هذا أن ايمان النفس الباطنة أمر لا يتعلق بالبرهان ؟ و أن المرجع غاية المرجع انما هو الايمان ولا شيء غير الايمان ؟ بل حتى البرهان الأكبر على وجود الله نعود اليه الغساله ونسمع منه فماذا يقول؟ يقول لنا : ان العدم معدوم ، فالوجود اذن موجود ، وانك اذا آمنت بالوجود فلا مناص لك من الايمان به في صفته المثلى ، لأنك تحتاج إلى مقتض لفرض النقص ، ولا تحتاج الى مقتض الفرض الكمال في وجود لا يتطرق اليه العدم وما الفارق بين الايمان بالله ، والايمان بالوجود في میفته المثلي ؟ هنا ينتهي الايفال في الفروض والشكوك وهناك انتهى الإيمان ، بغير ايغال في فروض ولا شكوك • ألا تتلاقى النهایتان؟ • . او لا تضل الفروض والشكوك حيث تضل ، ثم لا يخطو لها قدما وراء خطر الايمان ؟ لهذه السنة التي استنها النبي عليه السلام في عبادته الروحية کثرت وصاياه بادمان التفكير في خلق الله ، واجتناب التفكير في ذات الله . فقال في حديث : « تفكروا في آلاء (1) الله ، ولا تفكروا » وقال في هذا المعنى : « تفكروا في خلق الله ، ولا تفكروا في الله فتهلكوا ، وقال في حديث قدسي :« کنت کنزا مخفيا فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق فعرفت » أو كما جاء في رواية: « فخلقت الخلق ، فبي عرفوني » 6 5 ا- اي نعمة ۱۳۹ [140]طريق الوصول وخلاصة هذه الأحاديث وما في معناها : أن التفكير في حقائق الوجود و هو طريق الوصول الى الله ، ولا طريق غيره للحواس ولا للعقل ولا للبديهة : ايه ان بالوجود الابدي في صفته المثلى ، و تفكير في حقائق الوجود کما نراها و نحسها و نعقلها ، و ذلك قصاری(۱) ما عند العقيدة ، وقصارى ما عند الفلسفة ، وقصاری با عند العلم إذ يقف العلم وهذا هو العلم الذي فرضه الاسلام على كل مسلم ومسلمة ، وقال النبي في رواية ابن عباس : وأنه أفضل من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله ، لأنه سبيل الوصول الى الله عن حله ) t ومن الواجب أن نذكر بعد هذا جميعه أن محمدا نبي ، وأن النبي يعلم جميع الناس الإيمان ، و تلك سبيل جميع الناس فيما يفتح لهم من أبواب التفكير و أبواب الاعتقاد، فهم يضلون في تيه الشكوك والمناقضات التي يتعمق فيها الفلاسفة والمنطقيون ، ولا يبلغون الى هداية أقوم وأسلم من هداية الايمان بالخالق والتفكير في الخليقة (۲) ، فأما هذه الهداية ، وأما الضلال الذي لا هداية وراءه ، وليس لنبي أن يحجب طريق الهداية ويفتح طريق الضلال • وقد تكلمنا في هذا الفعل عن روح العبادة أو عن فطرة العابد التي توحي اليه « عبادته الروحية » أما عبادة الشعائر الظاهرة : فهي عبادة الاسلام كما فرضت على جميع المسلمين : يصلي النبي ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة على الشريعة التي يتبعها كل مسلم ، وقد يطلب الى نفسه في هذه العبادات ما ليس يطلبه إلى غيره ، على سنة السماحة والتيسير التي أثرت عنه في كل عمل من أعماله و كل سجية (۳) من سجاياه • ا- اي غاية - المخلوقات ۳ - السجية : الخلق والطبيعة . [141]6 , فكان أخف الناس صلاة على الناس ، وأطول الناس صلاة لنفسه ، وربما قام الليل أكثره أو أقله ، ولا يدين (۱) أحدا بالتهجد، كما كان يتهجله ، أو بالصلاة والصيام كما كان يصلي ويصوم ، بل قد نهى الناس أن يشتدوا في العبادة فيصبحوا كالمنبت (۲) «لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى • لأن الناس جميعا يتلقون الأمر بالعبادة ، كما يتلقون الامر بفريضة واجبة ، فهم في حاجة إلى الرفق والتيسير أما النفس المفطورة (۳) على العبادة فالصلاة عندها، مناجاة حب وفرحة لقاء ، ومطاوعة لميل الضمير وميل الجوارح على السواء 6 a $ 2 وكان محمد « اذا حزبه (۶) امر صلی » - كذلك اذا حزب الأمر نفسا ، رجعت الى من تحب ، فخف وقرها (5) ، وانفرج كربها ، وانست بعد وحشة ، واهتدت بعد حيرة ومتى وجدت النفس « فرحة اللقاء » في الصلاة ، فلا اجهاد فيها لجسد ولا تضييق فيها لوقت ، بل فيها الترويح عن الجهد ، والتنفيس عن الضيق ، ولا سيما اذا كانت النفس من سعة الأفق بحيث تحيي ما تحيي من ليلها ونهارها في الصلاة والعبادة ثم تؤدي عملها ، وتفكر تفكيرها ، ولا يحسب أحد يعرفها أنها تنقطع بالصلاة والعبادة عن حق من حقوق أو عن حق
من حقوق بني الانسان ا . أي يجازي ، والمراد : يطالب 2- الذي املك راحلته من الجد في السير ، فانقطع في وسط الطريی ۲ - المجبولة والمطبوعة - تابه واشتد عليه و- حملها •
=======
عبقرية محمد (1941)/الرجل
[142]
الرجل
المختار عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت (۱) الأنباء بأوصافهم السماعية ، و أوصافهم المرسومة في المور والتماثيل ، غير أننا لا نعرف أحدا من هؤل العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصریه ، فنحن نعرفه بالوصف خيرا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية و المطابقة ، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة ، وقد تعكي للمتفرسين شيئا من طبائعهم التي تنم (۲) عليها سيماهم ، الا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته ، وكل لمحة من لمحاته : في سياه وفي هندامه ، وفي شرابه و طعامه ، وصلاته وصيامه ، وحله ومقامه و سکوته وكلامه ، لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة ، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجا (۳) من العطف والتدين ، وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض، لم يختلف الوصف مرة الا كما تختلف نظرة الناظر إلى وجه واحده بين ساعة وأخرى . فيقول غير ما قال أنفسا (۶) ثم لا يبدو التناقض ولا قصد التحريف بين القولين وخلاصة المحفوظ من الروايات المتواترة : أن النبي ، عليه السلام كان مثلا نادرا لجمال الرجولة العربية ، كان كشانه في شمائله مستوفيا للصفة من جميع نواحيها ، فرب رجل وسيم غير محبوب ، ورب رجل وسيم محبوب غير مهيب ، وربا رجل وسيم يحبه الناس و بها يو نه وهو لا يحب الناس، ولا يعلف 6 9 ا- أي تتابعت ۴- المراد : تكشف وتدل ۴- خليطا - اي معابقا • [143]عليهم ، ولا يبادلهم الولاء والوفاء، أما محمد عليه السلام فقد استونی شمائل الوسامة والمحبة والمهابة والعطف على الناس فكان على ما يختاره واصفره ومحبوه، و كان نعم المسمى بالمختار • اذا نظر إليه الناظر رأى رجلا أزهر (۱) اللون، عظيم الهامة (۲) مفاض (۳) الجبين ، سبط (4) الشعر ، ازج (2) الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب، ادعج (1) العينين في كحل ، أقنى (۷) الأنف يحسبه من لم يتأمله أشم (۸) العرنين ، أسيل الخد ، ضليع (۹) الفم، غزير (۱۰) اللحية ، جميل الجيد (۱۱)، عريض الصدر، واسع ما بين المنكبين ضخم الكراديس (۱۲)، طويل الزندين (۱۳)، رحب الراحة، شئن الكفين والقدمين ، لا بالمشذب ولا بالقصير ، مر بوعا أو أطول من المربوع، معتدل الخلق متماسكا لا بالبدين ولا بالنحيل واذا أقبل يتحرك نظر اليه الناظر فرأى رجلا يصفه الأقدمون بأنه القلب » ويصفه المحدثون « بالحركة الحيوية • يمشي فكأنما ينحدر من جبل وينحط من صبب ، و يرفع قدمه فيرفعها تقلعا كأنما ينشط بجملة جسمه، ويلتفت فيلتفت كله ويشير فيشير بكفه كلها، ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى ويضرب با بهام اليمني وراحة اليسرى، ويفتع الكلام بأشداقه ويختمه بأشداقه ، وربما حرك رأسه وعض شفته في أثناء كلامه وهو على هذه الحركة الحية جم الحياء: أشد حياء من العذراء ، نفاح المحيا، اذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه واذا و رضي تطلقت أساريره .. وتبين رضاه واقترن النشاط والحياء بالقوة والمضاء في هذه البنية الجميلة فكان عليه السلام يصرع الرجل القوي ، ويركب الفرس عاريا فيروضه على السير ، و يداعب من يحب بالمسابقة في العدو . قالت رضي الله عنها: «خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم ، فقال صلى الله عليه وسلم للناس : تقدموا ! فتقدموا . ثم قال : تعالي حتى اسابقك فسابقته فسبقته ، فسكت . 4 ا- ابيض مشرق الوجه - الراس ۳- واسع ومستوي - همسترسل غير جعد - الزجج : دقة وطول في الحاجبين - وامع العينين أسودها ۷ محدود ۸ - الشهم ارتفاع في قصبة الأنف مع استواء اعلاه ۹ - اول الانف هما پلي الفم ۲۰ - كتير شعرها ۱۱ - العنق ۱۴ - كل عظمين التقيا في مفصل از سه الزند : موصل طرفه الذراع في الكف [144]« حتى اذا حملت اللحم ، وكنا في سفرة أخرى قال صلى الله عليه و سلم للناس : تقدموا ! فتقدموا ثم قال تعالي اسابقك، فسابقته فسبقني فجعل صلی الله عليه وسلم يضحك ويقول : هذه بتلك ! » ۰ وهذا بعد أن قارب الستين - انها المسابقة تنم على فتوة (1) الروح فوق ما نمت عليه من فترة الأوصال و تجلت هذه الأريحية (۲) في علاقته بكل انسان من خاصة أهله أو من عامة صحبه . فرقته حاشية جده حتی عطفت على كل أسي ، ورحمت كل ضعف ، وامتزجت بكل شعور • مالك الله عنه : « دخل النبي عليه السلام على أمي فوجد أخي أبا عمير حزينا، فقال: يا أم سليم ! ما بال قال أنس بن رضي ابي عم حزينا ؟ 4 6 فقالت : يا رسول الله مات نغيره * تعني طيرا كان يلعب به فقال صلى الله عليه وسلم : أبا عمير ! ۰۰ما فعل النغير ؟ وكان كلما رآه قال له ذلك » وهذه قصة صغيرة تفيض بالعطف والمروءة من حيشما نظرت اليها ، فالسيد يزور خادمه في بيته ، و يسأل أمه عن حزن أخيه، ويواسيه في موت طائر ، ولا يزال يرحم ذكراه كلما رآه ومثل هذا : عطفه على الضعف البشري في رجل مثل عبد الله الخمار الذي لقب بهذا اللقب لما اشتهر به من السكر والدعابة فكان النبي عليه الصلاة والسلام يحده في العمر ولا يتمالك أن يضحك منه • قبول للدعابة وكان نعیمان بن عمرو أشهر الأنصار بالدعابة ، لا يقيل منها أحدا ولا يراه النبي فيتمالك أن يبتسم ، وربما قصد النبي ببعض هذه الدعابات لطمعه في حلمه و علمه بموقع الفكاهة من نفسه : جاء أعرابي إلى رسول الله ، فدخل المسجد وأناخ راحلته بفنائه ، فقال بعض الصحابة لنعيمان : و لو نحرتها فأكلناها ؟ فانا قد قرمنا (۳) الى اللحم ، ويقوم النبي صلى الله عليه وسلم حقها ، فنحرها نعيمان ، وخرج الأعرابي فرای راحلته فصاح : ا. أي قوة 2- سعة الخلق ۲- اشتهيناه واشتقنا اليه 6 6 [145]
علي يا رسول الله هم رسول الله و فقال لهم د واعتراه یا محمد ! ۰۰» فخرج النبي يسال : « من فعل هذا ؟ قالوا : «نعیمان» ۰ ۰ فاتبعه النبي حتى وجده بدار ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قد اختفى في خندق وجعل عليه الجريد : فأشار اليه رجل ورفع صوته : «ما رأيته يا رسول الله، وهو بشیر باصبعه إلى حيث هو ، فأخرجه رسول الله وقد تعفر وجهه بالتراب فقال : «ما حملك على ما صنعت؟» قال : والذين دلوك الذين أمروني ! » فجعل ره عن وجهه التراب ويضحك ، ثم غرم ثمن الراحلة ونعيمان هذا هو الذي باع عاملا لأبي بكر الصديق وهو يعلم أن النبأ وصل إلى النبي لا محالة سافر أبو بكر الى بصری تاجرا ومعه نعیمان و سويط بن حرملة عامله علی زاده ، فجاءه نعیمان ، وطلب اليه طعاما قاباه عليه حتى يأتي أبو بكر ، فأقسم نعیمان ليغيظنه ، وذهب الى قوم « تشترون مني عبدا لي ؟ قالوا : « نعم ! و قال :
« انه عبد له كلام ، و هو قائل لكم : لست بعبده • أنا رجل حر فان كان اذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدوا علي عبدي ۰۰ » قالوا : «لا بل نشتريه ولا ننظر في قوله ، فاشتروه منه بشر قلائص (۱)، ثم أداهم اياه فوضعوا عمامته في عنقه ، ولم يحفلوا بقوله ، وجعلوا كلما قال لهم : « أنا !انه يتهزا ولست أنا بعبده » سخروا منه وقالوا : بل عرفنا خبرك فدع عنك اللجاجة (۲)۰۰ فلما جاء أبو بكر سال عنه ، فقص عليه نعيمان قصته ، وذهبوا جميعا ليلحقوا بالقوم قیفتدوه ويعبدوه . ثم قدموا على رسول الله فضحك من فعلة نعيمان ، و جمل يذكرها حولا كاملا كلما رآه من سعة النفس أن ينهض الرجل بعظائم الأمور ، بل بأعظمها جدا ووقارا : و هو اقامة الأديان ، واصلاح الأمم، وتحويل مجری التاريخ ثم يطيب نفسا للفكاهة ، و يطيب عطفا على المتفكهين ويشركهم فيما يشغلهم من طرائف الفراغ . فلابد صرامة (۳) تستغرق بعض النفوس فلا تتسع لهذا الجانب اللطيف من جوانب الى أشباه ذلك = 6 ا- الاقوص من الإبل : الشابة ، او الباقية على السير ، او اول ما يركب من اثاثها ؟- الخصومة ۳ - حدة وشدة . و۱ [146]الحياة ، ولكن النفوس لا تستغرق هذا الاستغراق الا دلت على شيء من ضيق الحظيرة (۱) و نقص المزايا وان نهضت بالعظيم من الأعمال . فاستراحة محمد الى الفكاهة : هي مقياس تلك الآفاق النفسية الواسعة التي شملت كل ناحية من نواحي العاطفة الانسانية، وهي المقياس الذي يبدي من العظمة ما يبديه الجد في أعظم الأعمال وكان محمد يتفکه و يمزح ، كما كان يستريح الى الفكاهة والمزاح ، و كان دابه (۲) في ذلك كدأبه في جميع مزاياه : يعطي كل مزية حقها، ولا يأخذ لها من حق غيرها، أو يعطي الفكاهة حقها ولا ينقص بذلك من حق الصدق والمروءة . فعبد الله الخمار كان يجد من قلب النبي عطف القلب الكبير على نقيصة (۳) الضعف في الرجل السكير ، ولكنه كان يجد من تأديب النبي جزاء الشارب الذي يخالف الدين ، و يخل تماديه بالشريعة . عطف يجمل بالنبي على أحسن ما يكون ، لأنه يجمل بالانسان على أفضل ما يكون • واذا مزح محمد فانما كان يعطي الرضى والبشاشة حقهما ، ولا يأخذ لهما من حق الصدق والمروعة .. فكان مزاحه آية من آیات النبوة، لأنه كان كذلك آية من آيات الانسانية ، ولم يكن بالنقيض الذي يستغرب من نبي کریم قال لسته صفية : لا تدخل الجنة عجوز !.. فبكت ، فقال لها وهو يضحك : الله تعالى يقول : «انا أنشأناهن انشاء - فجعلناهن . أبكارا • عربا أتراباه .. ففهمت ما اراد و ثابت (4) الى الرضی والرجاء . وطلب اليه بعضهم أن يحمله على بعير ، فوعده أن يحمله علی ولد الناقة ، فقال يا رسول الله ! ما أصنع بولد الناقة ! فقال : و هل تلد الا بل إلا الثوق ؟ وكان عليه السلام يقول لحاضنته السوداء ام ایمن وهي عجوز :« غطي قناعك يا أم أيمن ۱، ۰ وسمعها في يوم حنين تنادي بلكنتها الأعجمية : « سبت الله اقدامكم ! » فلم تنسه الغزوة القائمة أن يصغي اليها ، ويداعبها ا ا- أي القير - عادته وشانه ۳ . عيب - رهست ۱۹ [147]
بين نذر الحرب وصليل (1) السيوف، واقبل عليها يقول : «اسکتی يا أم أيمن فانك عسراء اللسان ! » فكانت هذه الدعابة في ذلك الموقف المرهوب كأنها تربیت (۲) سید الفصحاء على تلك اللكنة البريئة هي نه ويحبهم < وأنه . 4 أريحية محمد هذه الأريحية الفياضة هي الحلية الباطنة التي تمت بها حلية محمد في عيون الناس ، وهي جواب محمد لما كان له في قلوبهم من حب واعظام، أو الأسرة التي تجمع بين قلبه وتلك القلوب في نطاق الأسرة الانسانية : يحبو ، و يشعرون به ويشعر بهم ، وليس قصاري الأمر أنه محبوب وأنه مهیب سمت يقابل العيون بجمال و أريحية تقابل النفوس بجمال وقد سرت هذه الأريحية في صميم طويته ، فامتزجت طواعية وارتجالا بجمیع خصاله وجميع علاقاته بالناس ولا سيما الضعفاء والمكسورين • فكان أحرص انسان على جبر القلوب ، و تطبيبه الخواطر ، وتوخي المؤاساة ، واجتناب الاساءة ، يتفقد أصحابه كبارا وصغارا ويسأل عنهم ، ويتحدث الى ذوي الأقدار ، وعامة الناس ، فلا يحسب صغيرهم أن أحدا أكرم عليه منه ، ويتحدث اليه من شاء فلا يقطع عليه حديثه وان طال، واذا انتهى الى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ومن جالسه صابره حتى يكون هو المنصرف ، وما أخذ احد بيده فأرسلها حتى يكون الأخذ هو الذي يرسلها ومن سننه التي اتبعها ، وأوصي باتباعها ، أن يجيب دعوة ، ولا يرد دعوة عبد ولا خادم ولا أمة ولا فقير ، وفي ذلك يقول من وصاياه في آداب الولائم والمحافل:« إذا اجتمع الداعيان فأجب أقر بهما بابا ، فان أقر بهما بابا أقر بها جوارا ، وان سبق احدهما فأجب الذي سبق » من دعاه اس آي موتها 2 - الربت : ضرب اليد على جنب الصبي قليلا لينام ؛ [148]يبدا من لقيه بالسلام ويمر بالصبيان فيقرئهم سلامه، وربما خفف صلاته اذا جاءه أحد وهو يصلي ليسأله عن حاجته ويلقاه بالتحية الغضب جهده ، ويعالجه اذا أحسه بعلاج من الروح ، فيقبل على الصلاة والتسبيح ، أو بعلاج من الجسد ، فيجلس اذا كان قائما ، و يضطجع اذا كان جالسا ، ويأبي الحركة التي ينزع اليها وهو غضبان 4 فلم پر < آدا به الاجتماعية وكان في آدا به الاجتماعية قدرة الرجل المهذب في كل زمان تل مادا رجليه بين أصحابه ، وتعود كلما زار أحدا ألا يقوم حتى يستأذنه ، ولم يكن ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في اناء ، واذا أخذه العطاس وضع يده أو ثوبه على فيه ، وربما نهض بالليل فيشوص(۱) فاه بالسواك ، ولا يزال يستاكو يوصي بالاستياك بعد الطعام والتيقظ من النوم ، وكان يتطيب ويتحری النظافة ويقول لصحبه: «اغتسلوا الجمعة ولو كأسا بديناره • وقد تختلف العادات الاجتماعية بين جيل وجيل في شئون عرضية لا تتصل بلباب الذوق والشعور، فيأكلون في جيل بأصابع اليد ، و يأكلون في الجيل الآخر بالشوكة والسكين ، ويخرج أناس بالثياب السود ويخرج غيرهم بالثياب البيض ، وهي عرضيات يقاس بها عرف البيئة ولا يقاس بها تهذيب الطباع ، فلا ضير (۲) على الناس أن تختلف عاداتهم باختلاف بيئاتهم من أمة لأمة ومن جيل لجيل ، وانما الضير فيما يتناول الطبع السليم ، والذوق الحسن ، وهما الخصلتان اللتان كان عليه السلام قدوة فيهما لكل رجل مهذب في كل أمة وفي كل زمان .. فلم يكن يهفو (۳) في حق احد . ولم يكن أحد يشكو من محضره بانصاف ، وذلك هو ملاك التهذيب الكامل في أصدق معانيه صاحب هذا السعت رسول وصاحب هذه الآداب رسول 6 6 . ا. بلطف ۴- ضرر ۳- اي يخطىء ۱۶۸ [149]وخلاصة سنه و آدا به: أنها سماحة في الانظار ، وسماحة في القلوب. فالسماحة، هي الكلمة الواحدة التي تجمع هذه الخصال من أطرافها ، والسماحة هي العفة التي ترقت في محمد الي ذروة (۱) الكمال ومن يكون الرسول ان كان لا بد من تعريف وجيز لعلامات الرسالة ؟ الرسول: هو الذي له وازع من نفسه في الكبير والصغير مما يتعاطاه من معاملات الناس، لأن عمل الرسول الأول أن يقيم للناس وازعا يأمرهم بالحسن ، وينهاهم عن القبيح ويقرر لهم حدودهم التي لا يتخطونها فيما بينهم ، ومن كان هذا عمله الاول فينبغي أن تكون صفته الأولى - بل صفته الكبرى - أن يستفني عن الوازع، و أن يغني الناس عن محاسبته وطلب الحق منه ، وهذه هي السليقة (۲) الشاملة التي سرت في خلائق محمد وامتزجت بجميع أعماله وأقواله ، فلم يحاسبه أحد قط كما حاسب نفسه في رعاية حق الصغير والكبير ، وصيانة الحرمات للعاجز و القدير . هذه علامة رسالة لا علامة أصدق منها ولا أجدر منها بالقبول، لأنها علامة من داخل السريرة .. وليست علامة من خارجها قد تلازم أو تفارق من تعروه (۳) وليس للنوع البشري مقياس صحیح يقاس به محمد ، فيعطيه مرتبة دون مرتبة الحب والتبجيل يعطيه هذه المرتبة. من يدين بالاسلام ، ومن يدين بغير الاسلام ومن ليس له دين من أديان التنزيل فليس للنوع البشري أصل من أصول الفضائل پر مي الي مقصد أسمى وأنبل من تقديم تلك المناقب التي كان محمد قدوة فيها للمقتدين 6 عزيمة الزهد والايمان وليس أولى بالحب والتبجيل ممن يطلب خير الناس ويزهد في نعمة العيش وهي بين يديه فقد ثبت أن محمدا لم يستمتع بدنياه ، ولم يشبع ثلاثة أيام اس اعلاه ا . الطبيعة ۲. تغشاه + [150]< هر من هنا » رحی « تباعا حتى مضى لسبيله ، وقالت عائشة رضي الله عنها : « لقد كنت أبكي رحمة له مما أری به وأمسح بيدي على بطنه مما اری به من الجوع واقول : نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقوتك ، فيقول : « يا عائشة ! مالي وللدنيا اخواني من أولي العزم من الرسل صبروا على ما أشد وقالت زوجه أم سلمة تصف ما وجدته في بيته ليلة عرسها : فاذا جرة فيها شيء من شعير ، واذا و برمة وقدر وكعب ، فأخذت ذلك الشعير فطحنته ثم عصدته في البرمة، و أخذت الكسب فادمته ، فكان ذلك طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أهله ليلة عرسه ! » • رآه عمر وقد أثر في جنبه حصير فقال له : « یا رسول الله ! قد أثر في جنبك رمل هذا الحصير، و فارس والروم قد عليهم وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا وقال:« أني شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم قد عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ! • ولقد مات ودرعه مرهوتة ، ولا ميراث لأهله مما ترك من عقار ، وهو قليل أن يقول قائل في قدر هذا الرجل - آمن به او لم يؤمن ؟ ايقول : أنه رسول ، وانه كان يعلم أنه رسول ، فصدع بأمر ربه واحتمل ما احتمل في سبيل طاعته ، وفي سبيل اصلاح خلقه؟ تلك اذن منزلة الأنبياء التي تستوجب مقام أصفياء الله عند من يؤمن بالله ؟ أم ينكر النبوات و يقول : انه رجل أراد الخير وهو لا يعلم أنه رسول و لا أن الله مطالبه برسالته الى خلقه، ولكنه تجرد لهدايتهم في غير مارب (1) يناله ، ولا نعمة ينعم بها، لأنه لا يطيق لهم شرا ، ولا ينتظر في الدنيا ولا الآخرة من جزاء ؟ من قال هذا و غض (۲) من قدر رجل يحب الناس ذلك الحبه ويغار على هدا يتهم تلك الغيرة فهو انسان ممسوخ الضمير.. = ه فما عی اس مقصد وغاية 1- اي اخفي • = 1o. [151]6 & . فمحمد الرجل في المقام الأول بين الرجال : في المقام الأول بخلقته ، وفي المقام الأول بنيته ، وفي المقام الأول بعمله ، وفي المقام الأول بالقياس الى المشبهين له في دعوته ونرى عن يقين أنه لم يحرم نفسه ذلك الحرمان الا استزادة الأسباب الايمان ، وشحذها (۱) للعزيمة في سبيل ذلك الايمان واعذارا الى الله والى الناس فيما تجرد له من اصلاح لأن محمدا لم يكن كارها لطيبات الدنيا ، ولا حاضا (۲) الأحد على كراهتها والاعراض عنها . فاذا قنع بما قنع فعل ذلك ليرتفع بايمانه عن ظنه هو لا عن ظنون غيره كأنه بخشی اذا استوفی محظوظ النعيم الميسرة له أن يحسب تلك الحظوظ غرضا من الأغراض التي نظر اليها حين نظر الى هداية الناس فليكن الايمان اذن هو كل غرض و كل عمل وكل جزاء وتلك راحة ضميره ، ومن وراء راحة ضميره أن يظفر الناس بجهده كله في هدايتهم غير منقوص ولا مظنون اذا هدى الناس ، واستمتع بالعيش ، خشي أن يحسبا 6 من آماله
هي و - واذا هدى الناس و کفی ، كانت الهداية جملة الآمال وغاية الآمال فلينقص حفله من العيش ليكمل حظه وحظ أمته من ایمانه ، وليتم بذلك حسابه لنفسه ، وحسابه عند الله وحسابه بين الناس وما حساب أولئك جميعا ؟ حساب رجل هو وازع نفسه في السر والعلانية ، وهو احق الناس أن يقيم واز عا للناس رجلا ولا کمثله الرجال . ا- اي مضاء؟ - خفه : اي حقه 1 101
======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
عبقرية محمد (1941)/محمد في التاريخ
< عبقرية محمد (1941)
اذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
→ الرجل محمد في التاريخ
المؤلف: عباس العقاد ←
[152]
محمد في التاريخ
اتصال التاريخ بمحمد
أردنا بالفصول المتقدمة أن نصف محمدا في عبقريته ، أو محمدا في نفسه ، أو محمدا في مناقبة التي يتفق على تعظيمها من يدين برسالته الدينية ، ومن لا پله ين برسالة ونريده بهذا الفصل . مس وهو خاتمة الكتاب ب أن نذكر كلمة موجزة عن محمد في التاريخ ، أو محمد في العالم وأحداثه الخالدة ، وهو بحث يغنينا فيه الايجاز ، لأن العالم كله صفحات تنبئنا بمكان محمد فيه محمد في نفسه عظیم بالغ في المنظمة وفاقا لكل مقياس صحيح يقاس به العظيم عند بني الإنسان في عصور الحضارة • فما مكان هذه العظمة في التاريخ ؟ ما مكانها في العالم و أحداثه الباقية على تعاقب (۱) العصور ؟ مكانها في التاريخ : أن التاريخ كله بعد محمد متصل به مرهون بعمله ، وأن حادثا واحدا من أحداثه الباقية لم يكن ليقع في الدنيا كما وقع لولا ظهور محمد وظهور عمله فلا فتوح الشرق والغرب ، ولا حرکات اوربا في العصور الوسطى ، ولا الحروب الصليبية ، ولا نهضة العلوم بعد تلك الحروب ، ولا كشف القارة الأمريكية ، ولا مساجلة الصراع بين الأوربيين والآسيويين والافريقيين ، ولا الثورة الفرنسية وما تلاها من ثورات ، ولا الحرب العظمى التي شهدناها قبل بضع وعشرين سنة ، ولا الحرب الحاضرة التي نشهدها في هذه الأيام، ولا حادثة قومية أو عالمية مما يتخلل ذلك جميعه كانت، واقعة في . + ان اي توالی ۰ ۱۵۲ [153]الدنيا كما وقعت لولا ذلك اليتيم الذي ولد في شبه الجزيرة العربية بعد خمسمائة واحدى وسبعين سنة من مولد المسيح كان التاريخ شيئا فأصبح شيئا آخر ، توسط بينهما ولید مستهل في مهده بتلك الصيحات التي سمعت في المهود عداد من هبط من الأرحام الى هذه الغبراء (۱) ما أضعفها يومئذ صيحات في الهواء ما أقواها بعد ذلك أثرا في دوافع التاريخ ما أضخم المعجزة وما أولانا أن نؤمن بها كلما مضت على ذلك المولد أجيال وأجيال ، وما أغنانا أن نبحث عنها قبل ذلك پسنين حيثما يبحث عنها المنجمون والعرافون
فتوح ایمان
على أننا نستعظم الأحداث العظام في تاريخ بني الإنسان بمقدار ما فيها من فتوح الروح ، لا بمقدار ما فيها من فتوح البلدان . وجائز أن يقع في الدنيا طوفان أو زلزال فيتصل به من أحداث الزحوف والفتوح ما يبدل في التاريخ ، ويبعث دوافع الشعوب أما غير الجائز فهو أن تنفتح للانسان آفاق جديدة من عالم الضمير بغير عظمة روحية يوحيها الإيمان ، و بغير رسالة باطنية تسبق هذه الظواهر التي تهول الأنظار ولقد فتح الاسلام ما فتح من بلدان لأنه فتح في كل قلب من قلوب أتباعه عالما مغلقا تحيط به الظلمات ، فلم يزد الارض بما استولى عليه من أقطارها ، فان الارض لا تزيد بغلبة سيد على سيد أو بامتداد التخوم (۲) وراء التخوم ، ولكنه زاد الانسان أطيب زيادة يدركها في هذه الحياة ، فارتفع به مرتبة فوق طباق الحيوان السائم ، ودنا به مرتبة الى الله يدين بهذه الحقيقة كل من يدين بحقيقة في عالم الضمير فمن أنكرها فانما ينكر تقدم الانسان كثيرا أو قليلا في هذه 6 الطريق عقد عالم اور بي مقارنة بين محمد و بوذا والمسيح فسال : اس الارضي - الحدود [154]. اليس محمد نبيا على وجه من الوجوه ؟ » ثم أجاب قائلا : «انه على اليقين لصاحب فضيلتين من فضائل الأنبياء : فقد عرف حقيقة عن الله لم يعرفها الناس من حوله ، وتمكنت من نفسه نزعة باطنية لا تقاوم لنشر تلك الحقيقة ، وانه لخليق (۱) في هذه الفضيلة أن يسامي أوفر (۲) الأنبياء شجاعة و بطولة بين بنی اسرائیل ، لأنه جازف بحياته في سبيل الحق ، وصبر على الايذاء يوما بعد يوم عدة سنين ، وقابل النفي والحرمان والضغينة (3) ، وفقد مودة الأصحاب بغير مبالاة ، فصابر علی الجملة قصارى (4) ما يصبر عليه انسان دون الموت الذي نجا منه بالهجرة ، ودأب (5) مع هذا جميعه على بث (6) رسالته غير قادر على اسكاته وعد ولا وعید ولا اغراء وربما اهتدي إلى التوحيد أناس آخرون بين عباد الأوثان ، الا أن أحدا آخر غير محمد لم يقم في العالم مثل ما أقام به من ایمان بالوحدانية دائم مكين ، وما أتيح له ذلك الا لمضاء عزمه أن يحمل الآخرين على الايمان . فاذا سأل سائل : « ما الذي دفع بمحمد الى اقتناع غيره حيث رضي الموحدون بعبادة العزلة ؟ فلا مناص لنا أن نسلم أنه هو العمق والقوة في ايمانه بصدق ما دعا اليه » والحقيقة التي يراها المنصف مسلما كان أو غير مسلم ، هي هذه : هي أن فتوح محمد فتوح ایمان ، وأن قوة محمد قوة ایمان ، وأنه ما من سمة لعمله أوضح من هذه السمة ، ولا من تعليل لها أصدق من هذا التعليل . لقد جاء الاغراء الذي أشار اليه العالم الأوربي وهو داع مهدد في سربه ، وجاءه وهو عزيز الشأن بين المؤمنين بدعوته ، فيا حفل (۷) بالاغراء و هو بعيد من مقعده ، ولا حفل به وهو واصل اليه جاءه سيد قومه عتبة بن ربيعة وهو في مبدا أمره فقال له واعدة ملطفا بعد أن أعياهم (۸) تخويفه متوعدين : « يا ابن أخي ، انك منا حيث قد علمت من خيارنا حسبا و نسبا ، وانك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم ، وكفرت من مضى من آبائهم ، فاسمع مني < 6 6 او الجدير ؟ - أعظمهم واكثرهم ۳ - الحقد - اي غاية و - بابه من عمله : جد وتعب - نشر ۷ - اي اهتم 4 - اجهدهم : ۱۰ [155]أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها . فقال عليه السلام : قل يا أبا الوليد . فقال : يا ابن أخي ! ۰۰ آن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وان كنت تريد شرفا سود ناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وان كنت تريد ملكا ملكناك علينا ، وان كان الذي يأتيك ردیا(۱) من الجن لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، و بذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه » . فما زاد عليه السلام على أن أجابه بآيات من القرآن الكريم ثم تر که يعود كما أتی 6 ثم أدرك النبي غاية ما سعى اليه فلم يدخل له المال ولا المتاع في حساب ، ولم يكن التعيم المستطاع أفعل في اغرائه من النعيم الموعود ، بل كان النعيم المستطاع فوق ما حلم به عتبة بن ربيعة وكان النبي أزهد فيه من زهره في النعيم الموعود فلم كل هذا ؟ لم هذا الجهاد ؟ و لم هذا العناء (۲) ؟ ولم هذا الصبر ان لم يكن في سبيل الايمان ؟ وأي نبي له من الايمان شفاعة أكبر من هذه الشفاعة ، ورسالة أكبر من هذه الرسالة ؟۰۰ وأي انسان يعرف تعظيم الأنبياء ان لم تظفر نبوة محمد عنده . بالتعظيم ؟ التاريخ هو فيصل التفرقة بين محمد وشانئيه (۳) : حكمه أنفذ من حكم الشانئين والاصدقاء ، وأنفذ من حكم المشركين والموحدين ، و أنفذ من حكم المتدينين و الملحدين وقد حكم له أنه كان في نفسه قدوة المهد بين ، وكان في عمله أعظم الرجال أثرا في الدنيا ، و كان في عقيدته مؤمنا يبعث الايمان ، مصاحب دين يبقى ما بقيت في الأرض أديان - و سيطلع في الأفق هلال و يغيب هلال ، و سيذهب في الليل قمر ويعود قمر ، وتتعاقب هذه الشهور التي كأنها جعلت التاريخ ما بين الصدور، لأن الناس لا يؤرخون بها مواسم الزرع ، ولا مواعد الاشغال ، ولا أدوار الدواوين والحكومات ، ولا ينتظرونها الا هداية مع الظلام ، وسكينة مع الليل : أشبه شيء بهداية العقيدة في غياهب (4) الضمير 4 أنه حكم الله . . ده 9 . ا- هسا 2- التعب ۳ - حيفضية - اي ظلمات . 100 [156]الحمد هو الي يوم كان 4 كان الغار ستطلع الأقمار بعد الأقمار ، وتقبل السنة القمرية بعد السنة القمرية ، و كأنها تقبل بمعلم من معالم السماء يوميء (۱) الى بقعة من الارض : هي غار الهجرة ، أو يومي اجمل أيام . محمد ، لأنه أدل الأيام على رسالته، و أخلصها لعقيدته ورجاء سريرته ، وهو يوم التقويم الذي اختاره المسلمون بالهام لا يعلوه تفكير ولا تعلیم الم الهجرة ابتداء التاريخ في الاسلام ، ولم يكن يوم الدعوة ؟ ولم لم يكن يوم بدر ، ، أو ولادة النبي ، أو يوم حجة الوداع يوم ابتداء التاريخ .. كل يوم من هذه الأيام في ظاهر الرأي و عاجل النظر أولى بالتاريخ والتمجيد من يوم الفرار بالنفس والعقيدة في جنح الظلام فالرجل الذي اختار يوم الهجرة بدءا لتاريخ الاسلام قد كان أحكم وأعلم بالعقيدة والايمان و مواقف الخلود من كل مؤرخ و كل مفكر يرى غير ما رآه لأن العقائد انما تقاس بالشدائد، ولا تقاس بالفوز والغلب: كل انسان يؤمن حين يتغلب الدين وتفوز الدعوة ، أما التفس التي تعتقد حقا ، و يتجلى فيها انتصار العقيدة حقا فهي النفس التي تؤمن في الشدة وتعتقد ومن حولها صنوف البلاء وليس أحق بالتاريخ اذن من اليوم الذي هجر فيه النبي بلده ۰۰۰ و اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في النار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا . فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة العليا والله عزيز حكيم (۲) ليقل من قال : ان التوقيت بما قبل الهجرة وما بعدها كان توقيتا معروفا على عهد النبي عليه السلام .. وليقل من قال : آن دخول المدينة هو المقصود بالتاريخ من الهجرة عظيم ليقل من قال هذا أو ذاك ، فان تاريخ النصر في القرآن ظاهر اذ هو « ثاني اثنين » في النار ا 9 « ، وهو يوم اس يضير 1- الآية : 44 من سورة التوبة - 101 [157]وان ابن الخطاب لنبيل ملهم الفؤاد - سواء كار هو المقترح او مجیب الاقتراح . حين نظر إلى غار « ثور » ولم ينظر في التاريخ الى نصر المدينة ولا إلي نصر بدر ، ولا الى نصر أحد ، ولا الى نصر فارس ، ونظر الى تلك « الجنود التي لم تروها » وقد نراها نحن الآن يوم الدعوة لم يكن يوم الاسلام الاول ، لأن الدعوة كلمة يستطيعها كل انسان ، و يستطيع النكول (1) عنها بعد قليل أو كثير . ويوم میلاد النبي لم يكن يوم الاسلام الاول ، لأن ميلاد محمد لم يكن معجزة الإسلام كما كان ميلاد عیسی معجزة المسيحية ، ولأن محمد بشر مثلنا في مولده ولكنه سيد الرسل ، يوم دعا ، و يوم تجا بالدعوة إلى حيث تنجو و حیث تسود، وحيث يكون امتحانها الأول في قلب صاحبها وقلب صاحبه الصديق ، وهما اثنان في غار كذلك تؤرخ العقائد والأديان : بالشدة تاريخها ، وليس بالغنائم والفتوح وانها لشيء في القلوب ، فلنعرفها اذن حين لا تكون الا في القلوب ، وحين يكون كل شيء ظاهر كأنه ينكرها وينفي وجودها وهي يومئذ من الوجود في الصميم عقيدة ورجاء الغار ليوم له عبر ته وعزاؤه في كل يوم ولا سيما ایام القلق والحيرة والانتظار عقيدة : فهو يوم رجاء ، ويوم نظر الى المستقبل الذي ينظر اليه من ليس له رضي في حاضر عهده ، وحاضر العالم في عهده لا يرضى أحدا من محبيه حیشما غلبت الحيرة والقلق في العالم فهنالك أمر واحد کن منه على أتم اليقين : كن على يقين أن العالم يبحث عن عقيدة روحية ! لأنه يضيق بالحاضر و ينظر إلى المستقبل ، و كل مستقبل فلا محل له من جوانح الصدور ان لم يكن موضع رجاء و مرجع ایمان ، وغاية سعي يستحق الكفاح و في التاريخ الانساني كله لم تقم قط حركة عظيمة على الماضي الذي لا مستقبل بعده، الحركات العظمی جمیعا على الر جاء في غد محجوب (۲) اس النكوض والرجوع ۴. مستور غير مرئي ' انه انما تقوم 10V [158]او على شيء يمكن أن يتحقق في حياة الانسان ، وشيء يبقى ابدا موضع الرجاء البعيد لقد كان علي فتى يستقبل الدنيا ، وكان أبو بكر کھلا پد بر عنها أعانا محمدا في يوم حراء ولكنهما كانا معا على أبواب غد واحد ورجاء واحد ، يستوي فيه الفتي والكهل والشيخ الدالف (۱) الى قبره ، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء المیان (۲) - المستقبل للايمان ماذا فتح الاسلام لأبي بكر من عوالم الحياة ؟ هل رجع به إلى الماضي ، أو أقبل به على المستقبل ؟ هل مشي به في حركة الى أمام أو قفل (۳) به في رجعة الى وراء ؟ الحق أن الاسلام مثل المستقبل للشيخوخة كما مثل المستقبل للشباب ، وانفصل من حالة لا تبقى ليتصل بحالة يرجي لها البقاء ، و كان يفتح أمام أبي بكر - وليس أمام علي وحده - باب الحياة الصالحة في الدنيا ، و باب الحياة الخالدة في الآخرة .. وهكذا كل عقيدة فما هي بعقيدة على أي معنى من معاني الاعتقاد أن كان خيرها كله شيئا يناله الانسان في أيامه .. فلا مناص في العقيدة من خير وراء أيام الفناء . ليذكر هذا جميعه من يتحفزون (4) للنهوض ومن يبتغون الحركة، و يقودون الخطوات المقبلة في عجلة أو أناة (5) لن تتحرك أمة الا اذا فتحت أمامها باب المستقبل، ولن تلتفت الى الماضي الا اذا كان التقاء بالمستقبل ، ولن تعيره الحياة الا وهو مبعوث من جديد في صورة الخلق الجديد ليذكر هذا من يحارون في أمر العالم اليوم وهو غارق في دمائه ، ضائق بحاضره ، معرض عن ماضيه. فيم يحار ؟ في طلب المستقبل ، في طلب العقيدة ، في طلب المسوغ للوجود لأن الوجود وحده لا يكفي الانسان الا أن يكون على طبقة مع الحيوان - فالايمان للمستقبل . • و عسى أن يكون المستقبل للايمان أن يجد العالم عزاء باقيا من يوم النار ون صاحب و عسی يوم : النار . ا- الذي يمشي مشي المقيد وفوق الدبيبه - المشاهدة ۲- رجع وعاد - اي پستعدون 5. تمهل وهمسر TOA
======
=====
===========================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق